عبدالرزاق دحنون - قصة الانقلاب العسكري

في أحد أيام شتاء عام 1980 وكانت الساعة قد قاربت العاشرة ليلًا، كنتُ أقفُ خائفًا مرتجفًا في مكتب رئيس فرع مخابرات أمن الدولة القديم في حي "الكسيح" في مدينة إدلب يسألني ما علاقتي بالسيدة "ملك كامل عبد الله مروة" ماذا أقول يا سادتي، تلعثم لساني، واصطكت أسناني، وجفَّ ريقي، وفقدتُ النطق، وغابت الكلمات في ضباب كثيف، وما عدتُ أستطيع استحضار الكلمات، لا أعرف ما حدث لها، تاهت من الذاكرة ومن ثمَّ عجزت أحرف اللغة العربية في ذهني المثقل بالتساؤلات والرعب عن تشكيل جملة مفيدة. سكتُ لأنني بكل بساطة لم أسمع باسم هذه السيدة من قبل. ألحَّ في السؤال:

- يا بني آدم تكلَّم، ما علاقتك بالسيدة "ملك كامل عبد الله مروة" كيف تعرفها، هل هي من أقاربك، من معارفك، من تكون حتى تُراسلها؟

قلتُ في سري: أُراسلها، ما معنى أُراسلها هنا، ما قصد رئيس فرع أمن الدولة من هذا الكلام، صدقًا لم أفهم؟

في ذلك الشتاء البارد، وكنتُ في الصف الحادي عشر علمي في مدرسة المتنبي الثانوية للبنين، وتحديدًا في الشعبة التي نسميها "قاوش" لاتساعها وبرودتها، جاءت سيارة بيجو 404 بيضاء بأربعة عناصر من مخابرات أمن الدولة إلى ثانوية المتنبي-رحمك الله يا أبا الطيب- استدعاني مدير المدرسة الأستاذ محمود حميداني على عجل من حصة مُدرّس الرياضيات عبد الكريم شامي، نعم هو ابن المفتي الشيخ نافع شامي، وكان المُدرّس يشرح لنا درسًا في الهندسة الفراغية على ما أذكر. قالوا رئيس الفرع يُريدك في أمر ما، لا تتأخر في الحضور، الساعة الخامسة بعد العصر يجب أن تكون "مزروعًا" في الفرع. سألني المدير بعد أن رحلوا:

-ماذا فعلت؟

قلتُ:

-لم أفعل شيئًا.



عدت إلى درس الهندسة الفراغية فاختلط أمامي على السبورة الحابل بالنابل، مثلث متساوي الساقين تكسرت "سيقانه" وخرج من ربع الدائرة "بالسيقان"، بالظلط، يعني ظلط ملط، والزاوية الحادة انفرجت نحو مستقيم مماس محيط الدائرة، ومتوازي الأضلاع تفككت أضلاعه في الفراغ وتناثرت في كل اتجاه.

قلتُ:

-والله العظيم لا أعرفها يا سيدي.

قال:

-كيف لا تعرفها يا بني آدم وأنت تُراسلها!؟

مرة أخرى قلتُ في سري: أُراسلها، ما هذه الداهية؟

ثمَّ راح يُفتش بين أوراق مكتبه، فجأة، لمحتها، ورقة دفتر مدرسي مكتوبة بخط يدي مغروزة في ظرف رسالة زُينت حواشيه بالأحمر والأسود-سقى الله تلك الأيام التي كُنا نتراسل فيها بالورق- رفعها رئيس فرع مخابرات أمن الدولة بين أصابع كفه اليمنى، ففهمت الأمر بلمح البصر، وحمدتُ الله في سري لأنني فهمت أخيرًا سبب استدعائي.

قال:

-أليست هذه الرسالة لك؟

قلتُ بثقة هذه المرة:

- نعم، هذه رسالتي، وأنا كتبتها، وهذا خطي يا سيدي.



انشرح صدري، وزال خوفي، وعادت ثقتي بنفسي، ولا أدري كيف خطرت في بالي تلك اللحظة كلمات الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم التي يُغنيها الشيخ إمام:



الخطّ دا خطّي

والكلمة دي ليّا

غطّي الورق غطّي

بالدمع يا عنيّا

شطّ الزتون شطيّ

والأرض عربيّة

نسايمها أنفاسي

وترابها من ناسي

وان رحت أنا ناسي

ما ح تنسانيش هيّا

والخطّ دا خطّي

والكلمة دي ليّا



قال مستفسرًا من جديد:

- من تكون السيدة ملك كامل عبد الله مروة؟

-يا سيدي هذه ليست سيدة، وأنا لا أعرف من تكون، هو عنوان بريد مجلة "الهدف" الفلسطينية التي تصدر في بيروت والتي أسسها غسان كنفاني وهي ناطقة باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي يرأسها جورج حبش، وأنا أنشر فيها بعض المقالات والخواطر والقصص، وهذه التي في الرسالة قصة من قصصي.

كنت قد تعرَّفتُ إلى مجلة "الهدف" على واجهة مكتبة "ولي زكي" في شارع شكري القوتلي وسط مدينة إدلب، كان ثمن العدد يومها ليرة ونصف ليرة سورية وكان يحمل الرقم 449 تاريخ 11/8/ 1979 وعلى غلاف العدد صورة طولية ملونة لجورج حبش وكنتُ أسمع بالحكيم ولا أعرف صورته قبل شرائي ذلك العدد.

المهم، وكله مهم، خرجت من فرع مخابرات أمن الدولة بعد منتصف الليل، وكنتُ قد أخبرت أصدقائي أن يسألوا عني إن تأخرت حتى الصباح، لأنني لم أخبر أهلي حتى لا نزيد الطين بلَّة، ولكن-الحمد لله- حُلَّت قضيتي بأيسر السبل وعدتُ إلى البيت سالمًا. حكاية الرسالة بسيطة لا تستحق كل ذلك العناء. قصة قصيرة كتبتها تلك الأيام وحملت عنوانًا لافتًا "الانقلاب العسكري" وأرسلتها بالبريد العادي على عنوان مجلة "الهدف": بيروت-لبنان-كورنيش المزرعة-ملك كامل عبد الله مروة-صندوق بريد /212/ رئيس التحرير بسام أبو شريف. فوصلت إلى فرع مخابرات أمن الدولة، كيف أنا لا أعرف. وقد كان مكتب مجلة "الهدف" في بيروت في بناية يملكها أو هي ملك السيد كامل عبد الله مروة صاحب ومؤسس جريدة "الحياة" المشهورة. اشتبه من يفتح الرسائل بالعنوان وبجملة أو جملتين في القصة فوضع تحتها خطوطًا حمراء، سألني رئيس فرع أمن الدولة عما أقصده من تلك الجُمل، فشرحتُ له. وما كنتُ أعلم يومها أن الرسائل تُفتح وتُراقب.

بقيت النسخة الوحيدة من قصة "الانقلاب العسكري" عند رئيس فرع مخابرات أمن الدولة لأنه رفض إعطائي رسالتي حين طلبتها منه قبل انصرافي من مكتبه. قال لي يومها: وراء در أمام سر.

لذلك نسيت القصة ولم أجرؤ على العودة إليها وكتابتها من جديد. ولكن شاءت المصادفة بعد سنوات أن أجد بين أوراقي التي أحتفظ بها، بحكم العادة، مسودات القصة فكتبتها من جديد وأرسلتها إلى مجلة "الهدف" فنشرتها في صفحاتها الثقافية. وكي تكتمل القصة لم يصل ذلك العدد الذي نُشرت فيه إلى المكتبات، صادر ذلك العدد جهاز رقابة المطبوعات في سورية، ولم يسمح ببيعه في المكتبات العامة، لا تظن ظنونًا سيئةً، كلا، ليس من أجل قصتي صُودر العدد، بل كان على غلاف العدد رسمًا للرئيس المصري مرتديًا علمًا أمريكيًا، وكانت علاقة سورية جيدة تلك الأيام مع الرئيس المصري محمد حسني مبارك فمُنع توزيع العدد في المكتبات السورية. ولكنني حصلت عليه في أحد زيارتي لمكتب مجلة "الهدف" في دمشق عن طريق مُدير التحرير الأستاذ هاني حبيب. بقي هذا العدد في مكتبتي بعد رحلة الرحيل مع أسرتي عن مدينة إدلب في خريف عام 2016 مع أكثر من خمسمائة عدد من مجلة "الهدف" التي أسسها غسان كنفاني وصدر العدد الأول منها في 16/8/1969.وأزعم -وعساه يكون زعمًا مقبولًا- بأنني الشخص الوحيد في سورية الذي كان يحتفظ بمئات الأعداد من مجلة "الهدف" في مكتبته المنزلية، وقد حزنتُ وما زلتُ حزينًا على فراق تلك الأعداد التي رافقت مسيرتي الفكرية في طور تشكُّلها.
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى