مسعد بدر - "رَجُلٌ مسكون بالزرقة".. قراءة بنيوية

عن دار (الأدهم) بالقاهرة صَدَر للشاعر الجميل (محمد الشحات) ديوان (رَجُلٌ مسكون بالزرقة)، هذا العام. يضم الديوان 43 قصيدة تُراوحُ بين عوالم شعرية متنوعة وثرية، وإن كان يغلب عليها المزاج الصوفي في مواطن كثيرة، بخاصة القصائد الأربع الأولى التي سيتناولها هذا المقال بوصفها قصيدة واحدة في أربعة مقاطع.
وحدة البنية:
ويشهد بهذه الوحدة اتحاد البنية العميقة (الدلالة) للقصائد (أم المقاطع؟) الأربع التي تحكي جميعُ مشاهدها سيرةَ الدرويش الباحث عن صفاء الروح، ومحبة الإنسان للإنسان، والإيثار، والتفاني في العبادة. ويشهد بذلك أيضا اتحاد بنيتها اللغوية، في المطالع على الأقل؛ فقد أتت جميعها بفعل ماض مسند إلى (الدرويش)، ثم تذكر بعده متعلقات هذه الفعل، هكذا على الترتيب: "نظر الدرويش إلى المئذنة". ثم: "نظر الدرويش إلى سرب الحمام". والثالث: "جلس الدرويش على باب البيت". والرابع: "حمل الدرويش ما مَنّ الله عليه". كما تشهد النهايات (السعيدة) بأن المقاطع تتوالى لتحقق في النهاية الإنجاز الدلالي الذي تهدف جميعها إليه من جولات الدرويش؛ فالجولة الأولى تنتهي بميتة تمناها: أن يموت بعد صلاة الفجر، "بلا حشرجة"، "وهو يرقب مئذنة المسجد" وهي تسمو، كروحه، إلى السماء! ثم يُختم المقطع الثاني بسلوك نبيل من العلاف متأثر بسلوك الدرويش الذي يبذر الحَب للحمام؛ "فقرر/ إذا مر عليه الدرويش/ يعطيه حبوبا تكفيه". أما الثالث؛ فختامه: "فأحسَّ براحة/ مَن عبَدَ اللهَ لبضع قرون/ ومضى/ لا يعرف أين ستحمله قدماه"، ولا يهمه، بعد هذه الراحة الصافية، أين تحمله قدماه. وختام الرابع أيضا كان سعيدا: "فابتهج/ ما أحلى لحظات الشبع"! فالقصائد الأربع – إذن – هي قصيدة واحدة، بمضمونها وبنيتها وبداية كل مقطع وختامه.
فلماذا البنية المقطعية؟
اعتمدت هذه القصيدة المطوَّلة على استراتيجية (المقطعية)، وهي تكنيك فني عالٍ يُحدِث آثارا إيجابية في عملية التلقي التي ستقوم على أساس (النظرة الجوالة) التي طبقها (إيزر) على (الجملة) المفردة، ونطبقها هنا على المقاطع كاملة.
إن النص بأكمله لا يمكن أبدا أن يُدرك دُفقةً واحدة، ولا يمكن تخيُّل مضمونه إلا من خلال مراحل قرائية مختلفة ومتتابعة، وهذا أمر تضْمنُه (المقطعية) وتحققه؛ فكل مقطع يُعدّ ترابطا قصديا وتركيبا بنيويا يصنع أنساقا لأنماط مختلفة، هي المشهد البصري، والمدى الزمني، والمغزى الدلالي، في كل مقطع. وهذه كلها تخلق العالم المصوِّر للعمل. وكل نمط من هذه الأنماط لا يمكن أن يبلغ نهايته إلا إذا كان يهدف إلى شيء يتجاوزه، وهو ما يطلق (إيزر) عليه مصطلح (الجزء الفارغ) المتطلع إلى المقطع التالي، أي إلى الأفق المستقبلي. كما أنه – المقطع الحالي– يتضمن جزءا استرجاعيا، أي الأفق الماضي، وهذا الجزء مصدره المقطع المقروء سابقا الذي احتل الذاكرة؛ لتصبح القراءة تفاعلا، ومتعة أساسها جدلية الترقّب والتذكّر.
إن التذكر يمثّل عامل الارتباط في ذهن المتلقي، بين مقطع توارى إلى الخلف ولا يزال تأثيره قائما، وبين المشهد الآني من ناحية، والمشهد المرتقب من ناحية أخرى؛ بذلك تضمن (المقطعية) للقارئ أن يعدّل ويطوّر مواقفه كلما مضى إلى أمام في تواصله مع النص، وتضمن له أن يجمع بين نواة كل زمن من أزمنة القراءة؛ ليصل بها إلى حد الإثمار الدلالي المستهدَف، والذي أنجزته هذه الاستراتيجية ببراعة.
البنية السردية:
من قصيدة (على غير هدى) يقول الشحات: فمضى/ أوقفه طفل/ كي يدعوه لبيت أبيه/ لعقيقة مولود/ رفض/ فألح عليه/ وأمسكه من يده/ جلس الدرويش إلى مائدة/ نسي ملامحها منذ سنين/ أمسك برغيف/ فانتبه إليه الولد/ فأصر أن يطعمه/ أخبره أن المعدة ممتلئة/ ولا يقدر/ شعر بحزن غطى كل ملامحة/ فالدرويش أحق بأن يأكل حتى يشبع/ أصر الدرويش بأن المعدة ممتلئة/ واصطحب رغيفا/ وحين انتبهت أم الطفل إليه/ وضعت بعض طعام في كيس/ فاستحسنه الدرويش/ وتذكر فقراء المسجد/ غطّاه الفرح بما يحمله/ وأسرع قبل هطول المطر/ كان الفقراء على أبواب المسجد/ لا تملأ أيديهم إلا قبضةُ برد/ وهزال يسكنهم/ مد يديه؛ فاختطفوا كل الأشياء/ وسقط رغيف الخبز؛ فأخذوه/ نسي آلام الجوع/ وجلس يراقبهم/ جمع بعض الفقراء فرحتهم/ وبطونا شبعت/ ودسّوها في كفيه/ فأحس بدفء يسري فيه/ وبشبع لا يعرفه/ فابتهج/ ما أحلى لحظات الشبع!
جاءت هذه القصيدة الغنائية في بنية سردية قصصية، كنموذج يستثمر ما في المحورين (السياقي) و(الاستبدالي) من عناصر متكافئة، ويوظفهما في خلق صراع حيّ بين البنية القصصية والبنية الغنائية، بما يحكم عملية إنتاج الدلالة ويضمن وحدة القصيدة.
أما المحور السردي فيعتمد، كما في النص أعلاه، على التتابع السببي والزمني الذي يضبط حركة البنية الداخلية. ويعتمد أيضا على نسَق متصل يتألف من حركات مختلفة ومشاهد بصرية متتالية يحكمها إيقاع واضح وهدف مركزي يضمن اتساق تأليفها. فضلا عمّا فيها من بداية ونهاية وشخصيات وأحداث تكسوها ثوب القصة.
وأما المحور الغنائي، أو (الاستبدالي) فيقوم على الموقف الشعوري الواحد، وعلى جملة أمور، منها:
1- إشارة الكلمة إلى ما يرتبط بها من كلمات غائبة يستدعيها السياق ضمنا؛ فقوله: "وتذكّر فقراء المسجد"، يستدعي، على محور الحضور والغياب، كلمة: "نسي"؛ لتكون الكلمة الحاضرة، من خلال استدعائها للكلمة الغائبة، دالا معبرا عن نُبل الدرويش، وإيثاره، وحميمية إخلاصه للفقراء. و"الطفل"، على محور الاستبدال، يستدعي (الرجل)، ممّا يوحي لنا برقة الدرويش وحُسن تعاطيه مع (الإنسان)، ولو طفلا!
2- كما يقوم هذا المحور على استبدال الكلمة المجاورة بكلمة أخرى، بحيث تُحقق الكلمة المنتقاة (ضم المخالف وكسر المتصاحب) الذي يُفاجئ المتلقي ويولّد في نفسه الدهشة والإثارة؛ مثل: "لا تملأ أيديهم إلا قبضة البرد"؛ فالمتوقع أن القبضة تمتلئ بشيء مادي، لكنه كسر التوقع حين جعلها تمتلئ بالبرد؛ فخلق لنا صورة مدهشة لا تجمع جمعا تقليديا بين متشابهَين، بل تخلق التشابه بين متباعدَين، صورة تبرز حالة الفقراء القابضين على البرد، وتوحي بما يعانون. ومن ذلك، مشهد ختام القصيدة، والذي يبدأ بقوله: "جمع بعض الفقراء فرحتهم"، وهي صورة مثالية لضم المخالف وكسر التوقّع؛ فكأن الفرحة والبطون الشبعى تُجمع، وتُدسّ في كف الدرويش؛ فتحقق له الدفء والشبع والبهجة، فيا لروعة الدرويش الزاهد!
لقد تألفت القصيدة من مجموعة من الحركات، ومن مواقف انفعالية متآزرة ومتكاملة، وتعانَقَ فيها المستويان الاستبدالي والسياقي في تماسٍّ منتج للبنية العميقة؛ فحققت قدرا مقنعا من قوة الأداء الشعري الذي استثمر ما في الصوت الغنائي من إثارة الشعور، وما في الصوت السردي من الإقناع بالفكرة.
إنه ديوان يستحق قراءات كثيرة من أكثر من زاوية؛ لأنه إنجاز بلاغي غني بقيم الشعر العليا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى