مسعد بدر - مقدمة ديوان (نبض الرواسي) للشاعر أبي يحيى التيهي

يصدر قريبا ديوان (نبض الرواسي) للشاعر (أبي يحيى التيهي)، وهو شاعر من بادية سيناء يكتب بلهجتها المحلية. وهذه المقالة هي مقدمة الديوان.

شاعر (نبض الرواسي) هو أبو يحيى سلامة سليمان بن عيادة التيهي. وُلد في 29 – 8 – 1979 في قرية (القصيمة).
وهي قرية بدوية تقع إلى الجنوب الشرقي من مدينة العريش عاصمة شمال سيناء، وعلى بُعد 90 كيلومتر عنها، وتجمع، من حيث الطبيعة، بين النقيض والنقيض. هي قرية ترسخ فيها الرواسي الشامخة، وينبع فيها الماء رقراقا من (عين القديرات)، يبعث في الصخر الحياة؛ فترى الجبل الشامخ والنخل الباسق يتناوحان في شمم وإباء، وفي رقة وعطاء، هناك تحس وتكاد تسمع (نبض الرواسي).
وقد أنجبت هذه القرية، شاعرين من الروّاد الأعلام ينتميان إلى قبيلة (أبي يحيى) نفسها، قبيلة (التياها). ثانيهما هو الشاعر الكبير (حسين بن عامر) الذي يُعد من أبرز شعراء بادية سيناء الذين يحافظون على موروثها الشعري الأصيل الجميل. وأما الأول فهو خال الثاني، وهو نسيج وحده بين الشعراء الرواد؛ فهو يحمل شهادة جامعية، إذ تخرّج في الجامعة (وأظن كلية الألسن) خلال ستينات القرن الماضي، ولا بد أنه أثناء دراسته قد اطلّع على تيارات الشعر الرومانسي الفصيح الذي كان سائدا في ذلك العصر، ولا بد أنه قرأ التاريخ، وكثيرا من الفنون والعلوم والآداب؛ فكان إنتاجه متفردا في روحه الرومانسي الذي يظهر في قوله، وقد فارقته محبوبته: "يصفرّ وجه الشمس عند المغيبِ".
وكان هذا الشاعر الأستاذ يعي (التناص) مع حوادث التاريخ، فحين دعاه المحتل الإسرائيلي إلى العمل معه مترجما رفض رغم فقره، واستحضر مقولة (المعتمد بن عباد) الشهيرة: "رعي الإبل في الصحراء خير من رعي الخنازير في قشتالة". يقول الأستاذ (مصلح بن عامر):
رعــــــي الغـــنم والبِــل في بــلاد الـقـفــــار
اخير من رعيك مع خنازير شمعون
سمع (أبو يحيى) من (حسين)، وحفظ جملة صالحة من شعر الأستاذ (مصلح)، فضلا عن اطلاعه الوسيع على إنتاج الشاعر الكبير (عنيز بن سالم الترباني)، وهو عَلَم المحافظين الأشهر، وإمامهم الأكبر.
ولم يكتف (أبو يحيى) بذلك، بل إن له إلماما حسنا بإنتاج شعراء الخليج الذين تتوافق لهجتهم وثقافتهم مع لهجة بادية سيناء وثقافتها. وهؤلاء الشعراء يمارسون فنونا مختلفة من الشعر تفيد من يطلع عليها إفادات قد لا يجدها في بيئة سيناء؛ فهم ينحون مناحي رومانسية، ورمزية، ويوظّفون في شعرهم الأساطير والخرافات والمعتقدات الشعبية. وهم – أيضا – يُبدعون على بحور شعرية لم تكن معروفة لدى الروّاد الأعلام الذين اقتصر قصيدهم على بحر (المسحوب).
كل هذه عوامل انطبعت في نفس شاعرنا، وتأثر بها في إنتاجه؛ فإنك تكاد تسمع صوت القدماء المحافظين في مثل قوله:
وطُـــــرّه عــــــــن اللي بارعــيــن الدحــــــاحي
وسوقه على اللي ينشدك ايش خافيك
يفـهــم لـبـيــــــب الــذات بلـســــــم جـــــراحـــــــي
ومقـــبـــول عـــذره لو تــعـــذّر يـجـــــــــــاريــــك
ثم تجد الروح الرومانسي الذي لم يعرفه القدماء، في مثل قوله:
نفســـــــه اللي كـم كـتـبـتـه اكـتـبـه مَـرّة واعـيـد
وارسمه بالوان لكن لون وصفه ما انوجد
تـــاهـت الألــوان منـــي مــــا بقـــى إلا وحــيـــد
لون جفنه في عيوني حين للمركب صعد
وعلى مستوى الألفاظ، يجد قارئ هذا الديوان نمطين متغايرين أشد التغاير، لكنهما متلاحمان في نسيج واحد هما لُحمته وسداه. فمن اللفظ القديم الأصيل تجد: الهجف والمرقاب والسوافي والزقّوح.
ومن الألفاظ العصرية تقرأ: الذات والمُحال واليم ولا جدال.
بل إنني أزعم أن (أبا يحيى) قد أضاف إلى شعر بادية سيناء ألفاظا هو السابق إليها، مثل قوله: بين قوسين وبضعة و"أعَوْد إنسان".
وما دمنا نتحدث عن السبق؛ فإن شاعرنا من السابقين الأولين في هذا الجيل الذين وعوا أهمية (التناص) في الشعر، وأجادوا توظيفه، ومن ذلك ما يُكثر ذكره من الإحالات التاريخية والجغرافية والأدبية، وشواهدها في الديوان عديدة.
غير أن فضيلة (أبي يحيى) الكبرى هي التفنن في الصورة الشعرية الحديثة. ذلك أن الصورة القديمة كانت تصف الأشياء كما هي، قد يكون وصفا دقيقا يشمل دقائق الأشياء الموصوفة كلها، لكنه وصف ظاهري أساسه رؤية العين والعقل وأمانة التصوير، دون التطرق لأثر عاطفة الشاعر في هذه الصورة. ومثال على ذلك قوله هو:
لا تحـــزنـــي يــــا دار أهـلــك مشـاهــيــر
يفــــدوا تْرابــــــك بالانــفــــــــاس الأخــيـــــرة
وصلّوا علي اللي نوّر الشرق تنوير
المصطفي اللي سـيرتــه خيـر سيرة
فهذا التصوير لخطابه مع الدار، ولوصف أهلها، ثم وصف النبي – عليهالصلاة والسلام – بالنور، كل ذلك لا ابتكار فيه ولا تصوير لخوالج النفس وانفعال العاطفة.
والصحيح أن هذا المثال نادر جدا في شعر (أبي يحيى)؛ فإن السواد الأعظم من تصاويره هو آية على الإبداع والأصالة، وآية على دقة التعبير عن الحالة الشعورية التي يعانيها. إن الصورة عند شاعرنا ليست مجرد أداة للتعبير عن فكرة، بل هي تتجاوز ذلك إلى كونها كشفا عن أحاسيسه هو، وذلك سر من أسرار الشعر الصادق الذي يتفاعل معه المتلقي ويشعر أنه يعبّر عن ذاته هو. يقول:
ليتك تذكّر عهدنا وين ما تروح
يوم الأمل ع غاية الشوق ضافي
حينَ نْتهادى وَرْدَنا فَرْعِ زقّوح
لليوم ما مرت عليه السوافي
فاكر لقانا عْصير والبرق بيلوح
شرق العريش وغرب وادي (الجرافي)
ذِكرَى تخلّد للهوَى نَقْش في لوح
تُذْكَر على مَرّ الليالي ، وكافي
والحقيقة أن الشاعر لم ينل حظا من التعليم كبيرا، ولم يقرأ في النقد الحديث شيئا عن طبيعة ووظيفة الصورة الفنية الحديثة. لكن هذه البراعة اللافتة في التصوير الحديث أساسها شيئان: الموهبة أولا، والانطلاق من عاطفة صادقة قوية ثانيا. وإنني أعرف أن معظم إنتاج الشاعر في هذا الديوان هو وليد تجارب واقعية أثّرت في نفسه أعظم تأثير، وولّدت فيه انفعالات جياشة مفعمة بالصدق والقوة. ولعلى لا أذيع سرا إذا قلت إن صديقي الشاعر الرقيق بكى وهو ينشئ قصيدته (يا دار)، لقد بكى وأبكى!
وتأسيسا على هذه الفقرة الأخيرة، فإن القارئ الكريم لن يجد شعرا كثيرا في المناسبات والمجاملات؛ لأن شاعرنا – أؤكد لكم – لا يقول إلا إذا انفعل انفعالا صادقا؛ فعبّر تعبيرا أصيلا؛ فأثّر فينا وأمتع وأقنع.
لقد اعتاد الشعراء الأعلام بدء قصائدهم بذكر (الركوبة)، أو بذكر (القلم). ثم هم درجوا على ختامها بالدعاء وذكر المصطفى – عليه الصلاة والسلام. أما (أبو يحيى) فقد تجاوز ذلك أو كاد. تجاوزه إلى بدء القصيدة بالدخول في مضمونها مباشرة، وتجاوزه بإنهائها نهاية فنية كأنها عقدة الإشباع الشعوري والدلالي التي تحفظ حبات العقد النفيس أن تنفرط وتـتبعثر.
في هذا الصدد يقول بعض النقاد إن بداية القصيدة بخطاب الآخر الراكب أو صاحب القلم، هو عدم تعوّد الشاعر القديم على (مواجهة الذات). وهذه المواجهة مع الذات يجد قارئ الديوان أن شاعرنا اقتحمها بجرأة الابتكار؛ فإن حديثه مع (الذات)، وتكرار هذه الكلمة مرارا، هو ظاهرة أسلوبية شائعة في هذا الديوان كله.
وظاهرة أسلوبية أخرى لدى الشاعر هي (طرافة التركيب)، والشواهد عليه لا يسهل حصرها، منها قوله: "وابدع إذا شفته خيالك يجيني". فإن الضمير في (شفته) عائد على لاحق هو (خيالك)، وهو ما يسميه علماء النص: (الإحالة البعدية). ووجه الطرافة هنا أن الشائع هو إرجاع الضمير إلى اسم تقدم ذكره، عكس ما فعله الشاعر حين أحال الضمير على ما سوف يأتي ذكره. ومن طرافة التركيب – أيضا – قدرة الشاعر على بثّ الموسيقى في قصيدته بتجاور لفظين مطمئنين دون تكلّف أو تصنّع، مثل: "كل من فيك يفديك"، و"الصغارَى والعذارَى".
لكن (أبا يحيى)، إذا ما تجاوزنا محوري اللفظ والصورة، يبدو على محور الإيقاع شاعرا تقليديا محافظا. وبيان ذلك أن الكثرة الكاثرة من قصائده التزمت بالبحر الشهير الموروث: بحر (المسحوب). ولعمر الله، إذا كان هذا البحر قد طرقه شعراء بادية سيناء آلاف المرات، إن صديقي الشاعر بعث فيه حياة جديدة ونبضا قويا وإبداعا يشهد عليه هذا الديوان.
الرقة والحس المرهف، قوة العاطفة وصدق التعبير عنها، مواجهة الذات، المزج بين اللفظ القديم الأصيل وبين اللفظ المعاصر والمبتكر، التجديد في مطلع القصيدة وإتقان ختامها، الالتزام غالبا ببحر (المسحوب) الموروث، قوة التعبير ومرونته والابتكار في الصياغة، صلابة الشخصية والإيمان بالمبادئ السامية، كل هذه مفاتيح صالحة لقراءة هذا الديون الرائع الماتع: (نبض الرواسي).
  • Like
التفاعلات: ربيع ابويوسف

تعليقات

أعلى