زيد الشهيد - الشتاء.. العربدة المائية

في قَلبِ الهَول

فجأةً اكتشفنا أنَّ الشتاءَ تسلَّل إلى المدينةِ ، وراحَ يجوبُ الشوارعَ .. وفجأةً أعلمتنا الأشجارُ المنتصبةُ على أرصفةِ شارعِ الجسرِ الذي مررَنا به عابرين مِن صوبِ القشلةِ أنَّ الريحَ تلوِّحُ بأكفِّها الهوائيةِ من بَعيدٍ ايذاناً بدنوِّها مثلَ مخلوقةٍ نزقةٍ هوجاء تأتي معها بمطرٍ ينقرُ بأصابعِه على رؤوسِ الأبنيةِ وخدودِها ، ويُعلِنُ سعادتَه في اغراقِ الشوارع وإحداثِ سواقٍ تبعثُ خَريراً في الفضاءاتِ الأرضيةِ التي لم تَصلها لوامسُ البناء .. ولم نكُن نعلمُ أنَّ نشراتِ الأنواءِ كانت تشيرُ مُنذُ أيامٍ إلى قُربِ حضورِ الغيومِ بلونيها الفضّي الناصعِ ، والرماديِّ الداكن .. غيومٌ أشارت النشراتُ أنْ ستأتي بلطخَاتٍ سَوداءَ تتفاوتُ في خفَّتِها وثقلِها ، وأنَّه سيكونُ شتاءً مُمطِراً تتخلله زوابعُ مجنونةٌ ورعودٌ رعناء ، تأتي حاملةَ نُذرِ الطبيعةِ الخارقةِ للمتوقَّع ؛ فقد ضربت الأمطارُ بعنفِها وغوغائِها مُدنَ شمالِ البلاد مُحدثةً ضَوضاءً خَبرية وتناقلَ أنباءٍ تصفُ الحالةَ الجويةَ بغرابةٍ تفجّرُ الدَّهشةَ وتؤجِّج الرُّعبَ في النفوس .
نَعبرُ من رصيفٍ هاجت أشجارُه المتباعدةُ توَّاً ، فيتلقفُ الرصيفُ المقابلُ ذو البناياتِ العاليةِ أقدامَنا الصغيرة ... كنَّا بسراويلَ قصيرةٍ خفيفةٍ مثل قمصانِنا ، ننتعلُ أحذيةَ الصندل ذات السيورِ الجلديةِ التي تشيرُ إلى فصلِ الصيفِ الحار . وكان أصغرُنا أولَ مَن قفزَ هارباً من عنفِ الموجةِ الهوائيةِ التي لحِقت بنا كأنّها تتقصدنا ؛ فتعثّرَ ، وكادَ أنْ يهوي أرضاً لولا اندفاع أكبرنا بقفزةٍ سبقَت محاولتَنا الامساك به ومنعه من السقوطِ ، فرفعُه إلى أعلى . ولا ندري كيف تعاطفت الريحُ معه فعاضدته في الارتفاعِ وقد بدا كطيرٍ في رحمةِ القَدر . ووجدنا أنفسَنا نعبر إلى الرصيفِ الثاني فرحين سعداءَ كأننا هبطنا مِن سفينةٍ كانت تمخر العُباب وتقاوم الريحَ لنكونَ عندَ شاطىء يقول الأمانَ ويمنحنا صكَّ الانتصار .
ورُغمَ أنَّنا عبرنا إلا أنَّه عبورٌ لم يُحدِث تغييراً رُغم انتصابِ البنايات وعلوِّها مقارنةً بالبنايات التي صارت وراءنا ، فقد رشقَ وجوهَنا دفقٌ من رذاذٍ باردٍ ، وقدمت ريحٌ تحملُ عُنفاً خرافياً رأيناها تصفعُ الأشجار في الرصيفِ الثاني ، فتتمايلُ الأغصانُ ، ويتساقطُ الكثيرُ من الأوراق ، وتتشكَّل تياراتُ هواءٍ لولبيةٍ ترابيةٍ ضايقَت مارَّةً كانوا يهمّون بالهَرب ، وحَماماً شاهدناه يتمايل في مصارعةٍ غيرِ متكافئةٍ ، ويتهاوى كأنّه سيرتطمُ ويتهشّمُ وتتناثرُ دماؤه على حافاتِ الرصيف ، وتسيلُ فيجرفُها تيارُ ماءٍ شرع بإعلانِ وجودِه كسيلٍ يترادفُ والماء المحمول على اكتافِ العاصفةِ ( يا لقسوةِ العاصفةِ إذا جُنّت ! ، ويا لبؤسِ الطيورِ إذا تهاوت ! ) .
المشهدُ أيقظَ فينا الفزعَ ، وجعلنا نتذمَّر مِن رذاذٍ صار يهاجمُ عيوننا ... ومع هذا كانَ الاصرارُ على المقاومةِ والخروج من هَولِ الجّنون المائي والريحي ديدناً انبثقَ في نفوسِنا .
استطعنا الركضَ مُهرولين باتجاهِ الحَمام الذي تبعثرَ على الرصيفِ وسقطَ بعضُه في عرضِ الشارعِ وكادت السياراتُ المارّة أنْ تسحقَه ... كانت عيونُ الحَمام الذي رفعناه بأكفِّنا وبحنوٍّ تُفشي رُعباً ، وكان ريشُها نقعَ بالماءِ سريعاً ، فلم تكُن قادرةً على الطيرانِ والاحتماءِ من جنونِ ريحٍ عاصفٍ لطالما كانت تخشاه فتهربُ للَّوذِ في أخاديدَ وشقوقٍ تنتشرُ في ابنيةِ الشارع .( ومحظوظٌ ذلك الجوقُ من الحَمام الذي رأيناهُ مُنزوياً وقد حقَّقَ النَّجاةَ وأفشلَ غدرَ الطبيعة ) .. أبصرنا أصحابَ الدكاكين يهرعون إلى ادخالِ بضاعتِهم المكشوفة خشيةَ تبعثرها وتطايرها ، ونساءً يتشبَثن بعباءاتهنَّ ويُحكِمن لفّها على أجسادهنّ خشيةَ طيرانها ، ورجالاً مهندمين راحت اربطتُهم تنفلتُ من ستراتِهم المُحكَمةِ الأزرار فتلطمُ وجوهَهم وهُم في حالةِ بحثٍ يفتِّشون عن وسيلةِ انقاذٍ تُبقي ولو لمحةٍ مِن الهندام الذي تمرَّغَ بوحلِ سخريةِ الهَوَجِ المَطري .
ولم يكُن مِن مُنقذٍ للجميعِ إلا السوقُ المُسقَّف الذي لوَّح بذراعيه أنْ يتَّجهوا اليه ، أو هو شكَّل هوَّةً خيِّل الينا أنَّها راحت تشفطَ الحَمام الذي كانَ يُصارع بما تبقّى من قوةِ في اجنحتِه ، والرجال الذين يأملونَ القبضَ بالكَفِّ على ما تبقّى لديهم مِن هندَمةِ ، والنساء اللائي بدا لنا كأنَّهن يطُرنَ مسحوباتٍ الى قلبِ السوق كُتلاً سوداء .. ولم نشذُّ عن الجميعِ في الحركةِ ، فتركنا أقدامَنا ترتفعُ عن الأرضِ وتعطي الحريةَ لفمِ السوقِ الذي تلقَّفنا ، فمنحنا فُسحةً من هدوءٍ سرعان ما حفَّزنا على النظرِ الى الطريقِ وهو يغرقُ بهديرِ الماء ، وجعلنا نُصغي بذهولٍ الى ريحٍ حملت جنونَ الطبيعةِ ، وكلامِ شيخٍ كان يعيشُ الدهشةَ وهو يصرخُ بذهولٍ : هذا ليسَ مَطراً ، هذا اعصارٌ أهوجٌ لم نرَ شبيها له الا ما تنقلُه شاشة التلفاز عَن بلدانٍ بعيدة اعتادت مثلَ هذا الغضبِ السماوي .. ياااااااه ، ما هذا الهول ، يا الله !!!





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى