محمود عرفات - غروب

أدخل الحجرة الضيقة بخطوات بطيئة. أحاول رسم ابتسامة عريضة على وجهي. لكن المرآة فضحت محاولتي. رأيتها راقدة على السرير ساكنة. اقتربت ولثمت جبهتها الباردة. تمتمت بأدعية السلامة والشفاء. لمستُ شعرها في رقة فتحركت عيناها بلمعة خاطفة تؤكد أنها انتبهتِ وعرفتني. أشرتُ لابنيها بالخروج فخرجا في هدوء وواربا الباب. اقتربت هامسًا: اعتدنا أن نتحدث معًا.. لكنك اليوم تأبين الكلام.. لا أظن أنكِ غاضبة مني.. ولعلكِ تعبت من الكلام وترغبين أن تتفرغي للسماع.. حاضر يا ستي.. سأتكلم بشرط أن تسمعينني بجد. لن أطلب منكِ تعليقًا أو موافقة. سأحترم سكوتك. في أي شىء تريدين أن أتحدث؟ سأقول ما يأتي على بالي والأمر لله. أمي جاءتني فى المنام منذ ليلتين.. قالت لي لائمة: اذهب إلى أختك.. إنها تفتقدك وأنت مشغول بأولادك عنها.. اترك ما فى يدك واذهب لها وتكلم معها. قلت لها: انت تعرفين يا أمي أنها امتنعت عن الكلام. فردت مؤنبة: لكنها لم تمتنع عن السماع. قلت لها: معك حق.. سأزورها قريبًا وأصدع رأسها بالحكايات. الآن أفي بوعدي. لكني قبل أن أتكلم.. أريد أن أعرف.. هل شكوتني لأمي التي غافلتنا وغادرتنا قبل عشر سنوات؟ لا أظن.. فلسانك لم ينطق بشكوى رغم آلام الجراح. لعل أمنا في غيابها وراء الأفق تستشعر ما لا ننطق به.. فترفرف حولنا وتسكبه في أحلامنا. آه يا شقيقتي الكبرى.. هل أحدثك عن السنوات الأربع التي سافرت فيها بحثًا عن حياة أكثر سخاءً فلم أجد غير الخواء؟ أم أحدثك عن السنوات العشرين التي درتُ فيها في ساقية عمل لا تدر مالًا ولا ماءً؟ في حين كنتِ في هذه السنوات الطويلة تقطعين الطريق من بيتك إلى بيت العائلة لتجهزى الطعام لأبيك وأمك ثم تعودين لتجهزي الطعام لزوجك وابنتك المريضة. لم ير أحد لمحة ضيق على وجهك ولا علامة تأفف في حديثك. وكأنك اجتذبت عباءة الرضا الفضفاضة من سمائها وأحكمتِ أطرافها على جسدك المتعب الصابر. مضيتِ تحرثين شوارع البلدة لتنبت في كل زاوية زهرة من أزاهير الود والمجاملة والتعاطف. تُعزين تلك الجارة وتَصِلين العجائز اللائي يجلسن وراء عتبات البيوت الفقيرة الموحشة. وتُكلفين من هو أقرب ليؤدي عنك واجبًا لا تقدرين على أدائه. وتتورطين فى الالتزام بما يقطع دابر الخصام بين الأقارب. لعلك تذكرين إهدائي كتابي الأثير إليك بوصفك (الكبيرة دائما). كدت أشعر بالأسف لأنني لم أجد مفردة أبلغ من تلك التي تصدرت الكتاب. أتذكر أنني توقفت طويلًا لأكتب إهداءً مطولًا يفي بحجم محبتي لك وفهمي لمكنوناتك التي لا تفصحين عنها لأحد. توقفت الكلمات في حلقي من شدة تزاحمها.. كل كلمة تود أن تكون هي الفائزة بالمثول بين يديك وأمام عينيك.. سلمت أمري لله واكتفيت بما كتبت. وعندما أعطيتك نسختك تأملتُ وجهك وأنت تقرئين الإهداء.. دهشتك العارمة فاجأتنى.. رغم يقيني أنك لا تنتظرين تحية من أحد أو شكرًا من مخلوق. كنت تنظرين إلى السماء دائما بعد كل لمحة ود أو لحظة عطاء أو بسمة خجل تبدر منك. لم تنظري تحت قدميك يومًا... كنت تلتمسين موضع الخطو فقط. لم يكن خطوك نحو مصلحة أو منفعة أو جائزة. تعرفين أن جائزتك ليست على الأرض. ابنتك المريضة استغرقت نصف عمرك والنصف الآخر كان جريًا على السكك.. بين أمك وأبيك وزوجك. لم ير أحد علامات شكوى على جبينك. علامات الإرهاق تجيدين إخفاءها ببسمة طفولية دائمة تحفظ نضارة وجهك. وعندما كلفك أخوك بضبط حساباته بذلت جهودًا هائلة لتسجيل كل شيء وكنت تطلبين مراجعتي لأوراقك فأظل بالساعات أمق عيني لضبط الملاليم قبل الجنيهات.. ثم أضطر إلى تقريب الأرقام الصغيرة لأقرب جنيه. وتعودين لتطلبي مراجعة أخرى.. فأطلب منك أن تهوني على نفسك من زن جرثومة العدالة على ضميرك فتضحكين قائلة: إلا الحقوق. ظللت تحلمين بأن تزوجي ولديك فى ليلة عرس واحدة. وكنت أشفق عليك من صدمة عدم تحقق حلمك. كان إيمانك عميقًا وكاسحًا.. وتحققت الأمنية الغالية. ليلتها أضاءت بسمة الرضا والفرح وجهك المنتشي. وصنعتْ تمتمات الشكر والدعاء لله شرنقة أحاطت بالقمرين الحبيبين. لست أعرف ماذا حدث لك. لما مات زوجك قالوا إنك لا تبكين. سألتك فقلت بأسف: أبكي بلا دموع.. ولا أعرف لماذا جفت دموعي؟ وصف الأطباء قطرات وأدوية ودموعًا صناعية ولا فائدة. تذكرت أنك في مرضه الأخير انتفضتِ قبل الوفاة بيومين وأعدت ترتيب حجرات البيت دون أن نفهم سر ما تقومين به. سألتك بعدها فقلت إنك كنت تعرفين.. وأنه كان يجب ترتيب الأثاث بحيث يستوعب المكان للمعزين. فهل تعرفين ماذا حدث لك لتكتفي بالسماع وتمتنعي عن الكلام؟ لم ألاحظ خيبة الأمل على وجهك إلا مرة وحيدة. وجاهدتِ لتخفيها عن عيون الآخرين. كانت مهمة بغيضة أن أبلغك بضياع حلمك بليسانس الآداب.. لكنك دفنتِ حلمك في بقعة سحيقة داخل نفسك الصبور. وكنت أشعر أن موجات فرحك بتخرجنا جميعًا جعلت بؤرة حلمك الدفين تضمر... ذبل حلمك ثم ذاب في نجاحنا.. فرحك بنا يذكرني دائمًا أنك دفعتِ ثمن تعليمنا. أكلمك منذ ساعة ولا أملُّ من الكلام معك. هل مللتِ من حديثي؟ طول عمري أغبطك لطول بالك وصبرك على سماع الصغير والكبير والحكايات الغامضة والأحاديث التافهة. ظلت ابتسامتك تزين وجهك.. حتى صارت جزءًا من ملامحك.. إنها بسمة الوالد التي بها ندخل مقام الرضا باطمئنان الواثقين. وهي التي تشجعني على أن أغادرك الآن دون أن أخشى منك لومًا.

تعمدت أن أمضي بعد أن نثرت بعض عبارات البهجة. عابثت المتواجدين خارج الغرفة. سلكت طريقًا مغايرًا باحثًا عن فضاءٍ متسع لأتنشق كمية أكبر من الهواء وأشوح بذراعي صارخًا. شعرتُ بسكاكين حزن تجوس في جسدي حين تذكرت الموضوع الذي فاتني أن أخبرها بتفاصيله.. فاستدرت عائدًا لألحق بها وأحكي لها.. قبل أن تواصل نومها.

محمود عرفات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى