غيرَ أنَّ زمناً مثلَ طائرٍ أسطوريٍّ يقفُ على رأسِ الفتاة،
جناحاه يشعّان من لسعةِ الشمسِ، ذيلُهُ ضُفرَ بصبرٍ جميلٍ،
وشُدَّتْ على طرفهِ زهرةٌ ناصعة.
تنزلُ الضفيرةُ على الصدرِ، كأنها أفعى ذهبٍ بين تفاحتين،
كأنَّ على كلِّ تفاحةٍ منقاراً يريدُ أن يفلتَ من عشّهِ.
...
(ماذا فعلتَ بنا أيّها التفاحُ؟ ماذا بقيَ لتلتقطهُ مناقيرُكَ؟ كم أغرقناك بالحليب المكتومِ فيه صراخُ أرواحِنا، كم سمّمناكَ باللّعابِ اليابسِ الذي هدَرتْهُ أسنانُنا،
ذبُلنا وماتَ فينا الصلدُ القويُّ ولم تذبلْ أيها الحيُّ ولم يمتْ فيكَ القويُّ الليّن.)
جملةُ التفاحِ أعلاه التي وردت بين قوسين أنا من فكّرَ بها ودوّنها، ليست لراوي النص ولا للمرويِّ عنه، لكيلا تختلط الضمائرُ والحقوقُ على القارئ.
...
تعيدُ الفتاةُ ما قالتهُ بحذافيرِه:
هذه قهوتُكَ سيدي.
سيدي هذه قهوتُك وتمضي.
بينما تطايرَ ريشٌ كثيرٌ حتى امتلأ المقهى بالصمت.
..
من نكأَ ذاكَ الآنَ؟ قالَ برشفةٍ واحدةٍ،
بنظرةٍ خاطفةٍ ووحيدةٍ الى الطريق
تشهقُ أمامَهُ صورةٌ،
يركضُ من طينِ النهرِ الى طينِ البيت،
فوق العشبِ الذي كان يعملُ في مؤسسةِ الأرضِ وسائدَ للحفاة.
يداهُ مطليّتان بالماء الرائب،
عيناه مليئتان بالأضواء المكسورة في عيون البساتين.
..
شيئاً فشيئاً ينظرُ الى صورتِهِ وهو يكبرُ
تعبرُ دكاكينُ حلوى، ستائرُ ليلٍ ومكانسُ ريحٍ تعبر،
جنيّاتٌ ملأنَ شقوقَ روحهِ بالرعبِ،
جنيّاتٌ كان يفركُ لهنَّ ألسِنتَهُنَّ الحارةَ خلفَ الحيطان،
..
يعبرُ الوطنُ القتيلُ يداً بيدِ الوطنِ القاتل،
يعبرُ هو بعينيه العاليتين ترفان في هواء الرصاص الخائف،
تعبر رصاصةٌ خائفةٌ تعبتْ من الهواء وماتتْ في عينهِ،
يعبر الملاكُ الذي أخطأ نُطقَ اسمِهِ وعادَ دونه،
اليدُ التي فتحتْ نافورةَ الدمِ وظلَّ كأنّهُ ميتٌ،
اليدُ التي أغلقتْ نافورة الدمِ وظلَّ كأنّهُ حيّ.
(ماذا فعلتَ بنا أيها الوطن؟ مسكنا عليكَ بأسنانِنا وعضَضْتَنا،
ضممناكَ وحدَكَ في المآقي ودفنتَنا جميعاً، كراماتٍ في الهوان، أحلاماً في التراب، ناياتِ عويلٍ في معاملِ الصحفِ والمصاحف)
جملةُ الوطن أعلاه التي وردت بين قوسين، أنا من فكّرَ بها ودوّنها، ليست لراوي النص ولا للمروي عنه، لكيلا تختلط الضمائرُ والحقوقُ على القارئ.
...
يعبرُ صوتُ الطبلِ الذي ضربَ بهِ صديقٌ حولَ حياتهِ،
رعشةُ الفمِ وهو يتقيّأ شتائمَ نيئةً في ماعونِ حزنهِ،
يعبر أصدقاءٌ مثل الحصى، مثل الطحلب، مثل زهرة عباد الشمس،
مرةً يصيرون الشمسَ، مرةً يصيرُ الزهرة.
موتى يعبرون، تعبرُ مصاطبُهم المحفورةُ بالوعيد،
شتلاتُ النار التي تسقطُ من عيونِهم في حُجراتِ الماء،
أصواتُ الهلع التي كان يسمعها من خشبِ التوابيت،
أخطاءٌ ممحوّةٌ تعبرُ، كلّ كلمةِ خطأٍ تصيرُ ثقباً،
كلُّ دفاترهِ المليئةِ بالثقوبِ تعبر،
منازلُ تعبرُ وجيرانُ منازل،
مواويلُ رجالٍ تصعدُ من الأحشاء وصهيلُ نساء يفطرُ أسرّةَ القصب.
...
تذهبُ نظرتُهُ وتقفُ مثل فراشةٍ على حافّةِ الكوب،
تعبرُ فتاةٌ.. مَنْ أنتِ؟
يتذكّرُ الجرحَ، كيفَ فتحتْ عليه فمَ النار،
وكيفَ رجعَ الى حياتِهِ يمشي على دمعتين،
يختلطُ الأمرُ ويكبر،
تمرُّ امرأةٌ... مَنْ أنتِ؟
يتذكّر الجرحَ، هي فتحتْ عليهِ فمَ النار
وهو ظلَّ طوالَ حياتهِ يمشي بين السطور،
....
يأخذ رشفةً أخرى،
يسمعُ السيدَ المدرسَ يردّدُ: A.B.C.D
يرى يدَه حين لوّحتْ، الصفعةَ التي تركتَها تطنُّ على خدّهِ،
حتى غدا وجهُهَ يخافُ من كلِّ تلويحةٍ،
حتى صار يظنُّ أنَّ كلَّ خوفٍ في هذا العالم هو من صنيعةِ أولئك الذين يتقنون اللغةَ الإنجليزية.
....
رشفةٌ مرةٌ ثالثة أو رابعة لا يدري،
أعادَ كوبَه الصغيرَ الذي استقرَّ على الطاولة، بينما هو راحَ يكبرُ،
تحتَ رائحةِ الذهبِ الباردِ في الأضرحة، يكبرُ داخل فَرشَةِ نومهِ،
يكبر ويخجلُ من سروالهِ اللزج كلَّ صباح،
يكبرُ في الأمراض الصغيرة، في رائحة المستشفيات وطعامِها الباهت النبيل،
يسعلُ ويعطسُ ويكبر، يكبر ويركبُ آلاماً وسعاداتٍ وسيارات،
يصعدُ وينزل ويكبرُ ويبكي،
يضحكُ ويبكي، يسكرُ ويبكي، يحنُّ ويبكي، يجوعُ ويبكي، يخافُ ويبكي،
يسجدُ في المحاريب ويبكي،
يصعدُ نحيبٌ من أحشائهِ ويسمعُ نحيباً يردُّ عليه من السماء.
...
هل كنتُ أريدُ أنْ أكونَ حُرّاً وشجاعاً ونسيتُ قال،
وكانت تموّجاتُ زمنٍ تخلطُ العصبَ بنشوةٍ صغيرةٍ، بأملٍ مهملٍ،
برائحةِ هواء غريبةٍ تجرُّه الى رائحةٍ يعرفها. لا يعرف إن كانت من جرحٍ أم من زجاجةِ شرابٍ فتحت للتوّ.
كلُّ شيء يأتي ناقصاً يُريه شيئاً من معناه كاملاً ويمحى.
الفتاةُ أيضاً تعيدُ العبارةَ ناقصةً وهو يكمل قهوتَهُ:
- هل انتهيت منها؟
= ماذا؟
- أقول لكَ هل انتهيتَ من قهوتِكَ؟
= وأنا ماذا قلتُ:
- كنتَ تقول:
لا شجاعةً ولا حريةً في خيالهِ بعد الآن،
لا شيءَ سوى رجلٍ وحيدٍ،
يشربُ قهوتَه وهو يقلِّب الأشياءَ والأسماء.
جناحاه يشعّان من لسعةِ الشمسِ، ذيلُهُ ضُفرَ بصبرٍ جميلٍ،
وشُدَّتْ على طرفهِ زهرةٌ ناصعة.
تنزلُ الضفيرةُ على الصدرِ، كأنها أفعى ذهبٍ بين تفاحتين،
كأنَّ على كلِّ تفاحةٍ منقاراً يريدُ أن يفلتَ من عشّهِ.
...
(ماذا فعلتَ بنا أيّها التفاحُ؟ ماذا بقيَ لتلتقطهُ مناقيرُكَ؟ كم أغرقناك بالحليب المكتومِ فيه صراخُ أرواحِنا، كم سمّمناكَ باللّعابِ اليابسِ الذي هدَرتْهُ أسنانُنا،
ذبُلنا وماتَ فينا الصلدُ القويُّ ولم تذبلْ أيها الحيُّ ولم يمتْ فيكَ القويُّ الليّن.)
جملةُ التفاحِ أعلاه التي وردت بين قوسين أنا من فكّرَ بها ودوّنها، ليست لراوي النص ولا للمرويِّ عنه، لكيلا تختلط الضمائرُ والحقوقُ على القارئ.
...
تعيدُ الفتاةُ ما قالتهُ بحذافيرِه:
هذه قهوتُكَ سيدي.
سيدي هذه قهوتُك وتمضي.
بينما تطايرَ ريشٌ كثيرٌ حتى امتلأ المقهى بالصمت.
..
من نكأَ ذاكَ الآنَ؟ قالَ برشفةٍ واحدةٍ،
بنظرةٍ خاطفةٍ ووحيدةٍ الى الطريق
تشهقُ أمامَهُ صورةٌ،
يركضُ من طينِ النهرِ الى طينِ البيت،
فوق العشبِ الذي كان يعملُ في مؤسسةِ الأرضِ وسائدَ للحفاة.
يداهُ مطليّتان بالماء الرائب،
عيناه مليئتان بالأضواء المكسورة في عيون البساتين.
..
شيئاً فشيئاً ينظرُ الى صورتِهِ وهو يكبرُ
تعبرُ دكاكينُ حلوى، ستائرُ ليلٍ ومكانسُ ريحٍ تعبر،
جنيّاتٌ ملأنَ شقوقَ روحهِ بالرعبِ،
جنيّاتٌ كان يفركُ لهنَّ ألسِنتَهُنَّ الحارةَ خلفَ الحيطان،
..
يعبرُ الوطنُ القتيلُ يداً بيدِ الوطنِ القاتل،
يعبرُ هو بعينيه العاليتين ترفان في هواء الرصاص الخائف،
تعبر رصاصةٌ خائفةٌ تعبتْ من الهواء وماتتْ في عينهِ،
يعبر الملاكُ الذي أخطأ نُطقَ اسمِهِ وعادَ دونه،
اليدُ التي فتحتْ نافورةَ الدمِ وظلَّ كأنّهُ ميتٌ،
اليدُ التي أغلقتْ نافورة الدمِ وظلَّ كأنّهُ حيّ.
(ماذا فعلتَ بنا أيها الوطن؟ مسكنا عليكَ بأسنانِنا وعضَضْتَنا،
ضممناكَ وحدَكَ في المآقي ودفنتَنا جميعاً، كراماتٍ في الهوان، أحلاماً في التراب، ناياتِ عويلٍ في معاملِ الصحفِ والمصاحف)
جملةُ الوطن أعلاه التي وردت بين قوسين، أنا من فكّرَ بها ودوّنها، ليست لراوي النص ولا للمروي عنه، لكيلا تختلط الضمائرُ والحقوقُ على القارئ.
...
يعبرُ صوتُ الطبلِ الذي ضربَ بهِ صديقٌ حولَ حياتهِ،
رعشةُ الفمِ وهو يتقيّأ شتائمَ نيئةً في ماعونِ حزنهِ،
يعبر أصدقاءٌ مثل الحصى، مثل الطحلب، مثل زهرة عباد الشمس،
مرةً يصيرون الشمسَ، مرةً يصيرُ الزهرة.
موتى يعبرون، تعبرُ مصاطبُهم المحفورةُ بالوعيد،
شتلاتُ النار التي تسقطُ من عيونِهم في حُجراتِ الماء،
أصواتُ الهلع التي كان يسمعها من خشبِ التوابيت،
أخطاءٌ ممحوّةٌ تعبرُ، كلّ كلمةِ خطأٍ تصيرُ ثقباً،
كلُّ دفاترهِ المليئةِ بالثقوبِ تعبر،
منازلُ تعبرُ وجيرانُ منازل،
مواويلُ رجالٍ تصعدُ من الأحشاء وصهيلُ نساء يفطرُ أسرّةَ القصب.
...
تذهبُ نظرتُهُ وتقفُ مثل فراشةٍ على حافّةِ الكوب،
تعبرُ فتاةٌ.. مَنْ أنتِ؟
يتذكّرُ الجرحَ، كيفَ فتحتْ عليه فمَ النار،
وكيفَ رجعَ الى حياتِهِ يمشي على دمعتين،
يختلطُ الأمرُ ويكبر،
تمرُّ امرأةٌ... مَنْ أنتِ؟
يتذكّر الجرحَ، هي فتحتْ عليهِ فمَ النار
وهو ظلَّ طوالَ حياتهِ يمشي بين السطور،
....
يأخذ رشفةً أخرى،
يسمعُ السيدَ المدرسَ يردّدُ: A.B.C.D
يرى يدَه حين لوّحتْ، الصفعةَ التي تركتَها تطنُّ على خدّهِ،
حتى غدا وجهُهَ يخافُ من كلِّ تلويحةٍ،
حتى صار يظنُّ أنَّ كلَّ خوفٍ في هذا العالم هو من صنيعةِ أولئك الذين يتقنون اللغةَ الإنجليزية.
....
رشفةٌ مرةٌ ثالثة أو رابعة لا يدري،
أعادَ كوبَه الصغيرَ الذي استقرَّ على الطاولة، بينما هو راحَ يكبرُ،
تحتَ رائحةِ الذهبِ الباردِ في الأضرحة، يكبرُ داخل فَرشَةِ نومهِ،
يكبر ويخجلُ من سروالهِ اللزج كلَّ صباح،
يكبرُ في الأمراض الصغيرة، في رائحة المستشفيات وطعامِها الباهت النبيل،
يسعلُ ويعطسُ ويكبر، يكبر ويركبُ آلاماً وسعاداتٍ وسيارات،
يصعدُ وينزل ويكبرُ ويبكي،
يضحكُ ويبكي، يسكرُ ويبكي، يحنُّ ويبكي، يجوعُ ويبكي، يخافُ ويبكي،
يسجدُ في المحاريب ويبكي،
يصعدُ نحيبٌ من أحشائهِ ويسمعُ نحيباً يردُّ عليه من السماء.
...
هل كنتُ أريدُ أنْ أكونَ حُرّاً وشجاعاً ونسيتُ قال،
وكانت تموّجاتُ زمنٍ تخلطُ العصبَ بنشوةٍ صغيرةٍ، بأملٍ مهملٍ،
برائحةِ هواء غريبةٍ تجرُّه الى رائحةٍ يعرفها. لا يعرف إن كانت من جرحٍ أم من زجاجةِ شرابٍ فتحت للتوّ.
كلُّ شيء يأتي ناقصاً يُريه شيئاً من معناه كاملاً ويمحى.
الفتاةُ أيضاً تعيدُ العبارةَ ناقصةً وهو يكمل قهوتَهُ:
- هل انتهيت منها؟
= ماذا؟
- أقول لكَ هل انتهيتَ من قهوتِكَ؟
= وأنا ماذا قلتُ:
- كنتَ تقول:
لا شجاعةً ولا حريةً في خيالهِ بعد الآن،
لا شيءَ سوى رجلٍ وحيدٍ،
يشربُ قهوتَه وهو يقلِّب الأشياءَ والأسماء.