أمل رفعت - هرم برقوقة..

الفرن الكبير لم يَعُد يكفي لإعداد الخبيز اليومي؛ طلبات الخبيز تتزايد كل يوم، لم تَعُد خالتي تقدر على العمل بمفردها فتستدعيني لمساعدتها من الفجرية مقابل خُبز صابح من فرنها الكبير؛لم يستوعب الطلبات الجديدة فبنت بجانبه آخر أكبر في حجرة الخبيز الملحقة بصحن منزلها الواسع، وبعده بفترة وجيزة بنت أكبرهم؛ غدت الأفران الثلاثة كالأهرامات الثلاثة شامخة في حجرة الخبيز يحتار في أسرارها العامة.
العبء على الأفران الحديثة؛ بالرغم من ذلك لم تهدم القديم لتوسع المكان! تقول دائمًا: "القديم له عوزة"، نعجن الخبيز بعد الفجر ونتركه ليختمر، تعلمت منها خبيز العيش الفلاحي والفطير المشلتت؛ برقوقة أحسن فلاحة تخبز في بلدنا، حتى بعدما انتشرت أفران عيش القمح واستسهل أهل البلد شراء خبزهم منها؛ هدُّوا أفرانهم، ولم تنقض برقوقة غزلها؛ أصبحت أشهر خبازة فلاحي ورفعت سعر خبزها وفطيرها للضعف؛ تحتكر صنعة مندثرة رغم سعة عيشها.
كم أنتِ ذكية يا خالتي وعقلك كبير! أصناف أخرى تخبزيها بنكهات الطواجن تفوح منها رائحة تُسيل اللعاب، حتى طواجن السمك لم تهملها. منذ نعومة أظافري أتعجب من قدرتها على كسب المال وإدارتها الناجحة، كما أتعجب من أنها لا تُدخِل غريبًا لمساعدتها، أنا فقط. أتعجب أكثر لكثرة زيجاتها، أستدعي ذاكرتي لأحصي مدة كل زيجة من زيجاتها العشر من بعد موت زوجها الأول؛ أطول مدة عشرة أشهر، كل الأزواج معارف لها من خارج البلد؛ امرأة تعرف كيف تختار زوجها، وكيف تتركه حينما تجده غير مناسب لها. شوقي زوجها قبل الأخير رجل عنتيل يعبدها عبادة، لكن عيبه قعدته في الدار من غير شغلة ولا مشغلة، عذره إنه من الأعيان وأن عنده طينًا، آخر مرة رأيته فيها قبل أن يختفي جاء معه كيس أسود كبير به إيراد محصول القمح، أعطاه لخالتي لتحفظه له، بعدها اختفى. قولتها الدائمة: "فيه ست متعرفش تقعد من غير دكر حتى لو خيال مآتة؟! آه! بيبقاله عوزة".
بدأت أتشرب الصنعة حتى أتقنتها، وفار جسدي سريعًا كالتنور؛ فبدأ الخُطَّاب ينتظرون على الأبواب، تنصحني خالتي بألَّا أتسرع، حتى عندما وقعت الفأس في الرأس وأحببت بيومي جارنا ابن الأكابر، بيشتغل مع أبوه في الأرض، الوحيد المتعثِّر في التعليم عن إخوته، تُدَلِّلُه أمه، خالتي تقول إنه ابن أمه وترفض ارتباطي به، تنظر في بلورة المستقبل الخاصة بها لتنبئني بفشل الزيجة وشقائي مع بيومي حبي الأول؛ وتتحقق نبوأة الخالة؛ لأتلقى ألوان العذاب على يده وأمه، فلم أَعُد خادمة الجميع في البيت بل خادمة أصدقائه في جلسات تدخين (الحشيش) في المربوعة البحرية للدار بدون نخوة من أحد في بيتهم الريفي. لم ترضَ خالتي عن الظلم الواقع على رأسي، طلبت مِنِّي أن أترك المنزل وأقيم معها ليعرف قيمتي، بعدها ترى شغلها معه. أرسلتْ في طلبه وقدَّمت له براد الشاي و(جوزة) محشوَّة (بالحشيش) من صنف جيد، جلسة اعتدتُ على رؤيتها عند برقوقة مع أزواجها قبل اختفائهم من حياتها. لم يتحمل بيومي التعميرة؛ فقَدَ الوعي على إثر آخر نفس. طلبت مِنِّي الخالة أن أَحْمِي الفرن القديم، قمت أنفِّذ ما طلبته وقلبي يستشعر المستقبل. بعدما فاحت رائحة اللحم المشوي نظرت إليَّ خالتي وهي تبتسم متمنِّية أن تكون زيجتي القادمة عُرفِي ومن خارج البلدة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى