د. محمد عبدالله القواسمة - المكان الحداثي في الرواية العربية نموذج رواية "البكاء على الأطلال" لغالب هلسا

إذا كان المكان في الرواية التقليدية العربيّة يتصف بنوع من الوحدة، ويعاني من سيطرة الإنسان على جغرافيته، انطلاقًا من إحساسه بقدرته على فهم العالم والسيطرة عليه ماديًا وعقليًا، فإنه في الرواية الحداثية يبدو بعيدًا عن سيطرة الإنسان ومفككًا وملتبسًا، لقد تصدّعت علاقة المكان بالواقع، وصار متداخلًا مع غيره من الأمكنة، وظهر تجربة معايشة، وفقدت الشخصية القدرة على الفهم، مما زاد في إحساسها بالغربة.

لم يغرق المكان الحداثي العربي بالتفاصيل الدقيقة، كما في الرواية الغربية الجديدة التي نظّر لها ألان ـ روب غرييه في كتابه نحو رواية جديدة؛ فلم يقدّم الروائي المكان ساكنًا بما فيه من أشياء مفضلًا الصفات (البصرية) خاصة، ومستبعدًا الأوصاف النفسية والرومانسية والأخلاقية، ضمن مفهوم الشيئية التي نادت به الرواية الجديدة. ويمكن أن نمثل على هذا بالمكان الموصوف في رواية البكاء على الأطلال لغالب هلسا.

يبدو المكان في رواية البكاء على الأطلال مكانًا مستعادًا من الذاكرة، كما يوحي العنوان، فالراوي يعيش المكان بخياله بعد أن ابتعد عنه، وهو بذلك يحقق ما أورده باشلار في كتابه جماليات المكان الذي ترجمه غالب هلسا. يقول باشلار: " المكان الممسوك بواسطة الخيال لن يظل مكانًا محايدًا، خاضعًا لقياسات وتقييم مساح الأراضي، لقد عيش فيه، لا بشكل وضعي، بل بكل ما للخيال من تحيز"

تتناول الرواية نوعين من الأماكن: أماكن ماضيها بعيد، وأخرى ذات الماضي القريب. في الأولى هنالك القرية التي عاش فيها خالد بطل الرواية قبل أن يجيء إلى القاهرة، ومن أماكنها الدار والبئر، وتظهر الدار من خلال حفلة عرس، وتتجلى فيها أصوات النساء وقرقرة المياه في النارجيلة، وتبدو آمنة فتاة القرية وسط الرجال، وهي ترقص بيدها الخنجر، وتظهر أم الراوي وهي تتفقد قدور الطعام وحولها صبايا القرية، وتستعيد الشخصية صورة المهباج ورائحة البن التي تجذب المارة إلى الدخول من بوابة الدار والجلوس في الديوان، ويمتد التذكر إلى استحضار أرض الحوش الواسعة وما فيها من حيوانات أليفة.

أما صورة البئر فتنسل من بين ذكريات الطفولة لتظهر صورة تلك الفتاة الراعية البدوية التي صادفها الراوي. نقرأ: "ثم فجأة دهمته الذكرى وسط إضاءة بيضاء مبهرة. كان يطلّ من فوّهة البئر. في منتصفه [كذا] كوم حجارة سمراء، بيضاء، بركانيّة سوداء، يحيط الكوم دائرة من الماء الأسود اللامع، على أطرافها ظلمة وامتدادات صخريّة زلقة، في تلك الامتدادات كانوا يجدون عشّ الحمام فوقه بضع بيضات صغيرة الحجم، ومرّة لمس أفعى .. فكّر أن يصرخ في باب البئر ليسمع صدى صوته يرتدّ إليه متتابعًا. عندما رفع رأسه رأى الفتاة البدويّة، راعية الغنم، تقف في مواجهته، تراقبه.."

أما الأماكن القريبة فهي مقيمة في عقل الراوي لارتباطها بأحداث وقعت له وبشخصيات تّعرف إليها، مثل: دار الثقافة، وشارع سليمان باشا، ونادي كتاب المسرح، وميدان العتبة، والراوي، بخلاف الأماكن البعيدة، يمرّ بها مرورًا عابرًا دون ان يتأنّى في رسم تفاصيلها، كما في تذكره شارع سليمان باشا.

يلاحظ ان الأماكن البعيدة تقدم بحيوية من خلال إيراد تفاصيل كثيرة تتناول ما يتردد في جنباتها من أصوات، وما تعبق من روائح، وما يصدر فيها من حركات الناس والحيوانات، كما لاحظنا في استدعاء البئر، وربما يعود هذا الاهتمام الكبير بالأماكن البعيدة إلى أنها تمثل المكان الأمومي الذي تلجأ إليه الشخصية هربًا من واقعها المؤلم، وإلى ذلك يشير غالب هلسا بقوله:" أعتقد أن البؤس الذي خلقه المجتمع الأبوي التجاري هو السبب في تثبيت حلم الجنة المفقودة، مرحلة الأمومة. إن الإنسان يحلم دائمًا بالعودة إليها وهذا لا يجعلها مجرد ماض ذهبي ، بل تصبح أيضًا حلم المستقبل "

هكذا نلاحظ في الرواية تداخل الأمكنة وتكاثرها وبعثها من الذاكرة، وهي تسيطر على مشاعر الشخصية وتعيش في أحلامها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى