كاهنة عباس - عن معنى المرايا والمدارات في شعر كوثر التابعي في ديوانها الاغنيات لا ذنب لها


يصدر قريبا عن دار " فضاءات " للنشر والتوزيع الأردنية ،ديوان شعر للقاصة والشاعرة والمترجمة التونسية كوثر التابعي، المقيمة بألمانيا، بعنوان : "الأغنيات لا ذنب لها" .
وقد سبق للشاعرة أن أنتجت باللغتين العربية والألمانية عدة مؤلفات وهي : مجموعة قصصية باللغة الألمانية بعنوان "الخادمة الصغيرة" سنة 2004 بفرنكوفورد، ثم مجموعتها قصصية باللغة العربية بعنوان " رمل وثلج " سنة 2009 بتونس ، كما ترجمت ديوان بعنوان "تفتح قرنفل في ليل شعرها "للشاعر السوري فواز القادري سنة 2012 من اللغة العربية إلى اللغة الألمانية ،ثم مجموعة قصصية باللغة الألمانية بعنوان "براعم ياسمين" باللغة الألمانية سنة 2015 بفرنكوفورد.
وينقسم ديوانها الاخير الصادر باللغة العربية إلى جزئين : الجزء الأول بعنوان "مرايا" والثاني بعنوان "مدارات"، تروي من خلاله الشاعرة رحلتها الطويلة بحثا عن الذات ، يحتل الآخر موقعا خاصا، إما لأنه يعكس ما تخفيه النفس من أسرار وأحلام وأوهام فيكون لها بمثابة المرآة، كما هو الشأن في تجربة الحب، أو بزعزعة الثوابت عند اكتشاف اختلافه الفكري والثقافي عن عالم الشاعرة ،إلا أنها سرعان ما تتبين المشترك بينهما أي الجانب الإنساني الذي يجمعهما .
موضوع الأنا والآخر، متصل بموضوع أوسع وهو ثنائية الذاتي / الإنساني، أي بالخاص والعام ، ويعتبر من أهم المواضيع التي تناولها الشعر و الأدب، باعتبارها موطن الصراعات والأهواء والرغبات ، أي أنها وجه من وجوه إنسانيتنا بكل هشاشتها وقوتها ،وهي أيضا إحدى سبل معرفة الذات ، سواء كانت وجدانية أو فكرية وثقافية، أثناء احتكاكنا بالآخر ،فندرك قدرتنا وضعفنا وتبعيتنا وأوهامنا ، وبالتالي فإن التطرق إلى مثل هذه المواضيع يتطلب تجاوز مسألة التفرقة بين الأجناس الأدبية ، وهو ما أقدمت عليه الشاعرة كوثر التابعي بإخضاع الشعر للسرد النثري تارة ثم إخضاع السرد النثري للشعر طورا ، وخلق شاعرية ساردة حسب رأينا.
ومعنى ذلك، أن قصائد كوثر التابعي خلقت أجواء خاصة بأطرها الزمنية والمكانية لكي تصف لنا ثنائية الأنا/ الآخر ، مع إضافة طرف ثالث وهو العالم بما يحتويه من ذكريات وتجارب وخيال ومشاعر وموجودات.
فالأنا في ديوان " الأغنيات لا ذنب لها " هي "الأنا "المنغمسة في جذورها وذاتيتها وفي الآن نفسه هي الأنا التائهة والعاشقة إلى حد التصوف ، والعالم الذي تصفه الشاعرة هو العالم الذاتي الذي تسوده تجارب الشاعرة وماضيها وحاضرها،وهو العالم الخارجي ، بما يعكسه من اختلافات على المستوى الإنساني لتعدد ثقافاته وتنوعها ،وهو أيضا عالم الطبيعة بموجوداتها من أشجار وثمار وزهور ومياه ما انفك يتفاعل باستمرار مع الحالات الوجدانية للشاعرة .
أما الطرف الآخر ، فهو تارة " المحبوب " الذي بفضله اكتشفت الشاعرة عوالم الحس وأسرار الجسد ولوعة العشق ونشوة اللقاء، وهو ذلك الذي يذكر بالهجران وبخيبة الأمل، وهو الطرف الذي يمثل الأهل والأقارب والأم ، وهو العابر الغريب، الآخر المختلف ، حتى ذلك الذي يحمل سره معه .
علاقة الأنا بالآخر ثم بالعالم ، هي علاقة جمالية في المقام الأول ،صاغتها صور مجازية ورمزية ، لا تضع أي حدود للتجربة الحب التي ارتقت بها الشاعرة إلى حد التصوف في بعض القصائد ،كما جاء بهذه القصيدة بعنوان "حين أكون في حالة عشق" :

حين أكون في حالة عشق

أشعر أنني قديسة

من زمن آخر

بعثت من جديد


لتسير على أطراف أصابع قدميها

فوق غيوم بيضاء

حتى لا تزعج العالم

تفتت زهر برتقال جافا بين راحتها

وتنثره

في وجهه المتعب


الروح الشرقية حاضرة بقوة في قصائد كوثر التابعي، عبرت عنها الشاعرة بوضوح ،كما هو الشأن في هذه الأبيات في قصيدتها بعنوان "أكوامي الحميمة":

جبلت على مبالغة شرقية

وتوق مبهم إلى مبالغة الحيرة

ودغدغة المستحيل


إلا أن توق الشاعرة إلى تجاوز البعد المادي المحسوس، لم يمنعها من وصف تفاصيل الحياة اليومية، كما جاء في هذه الأبيات المقتطفة من قصيدتها بعنوان "موعد ":

سوف أتعلم

وعن قناعة تامة

وطواعية

كيف أضرب موعدا رسميا

مع نفسي دون سواها

أدعوها إلى فنجان قهوة


ومعنى ذلك ،أن الصور الشعرية لدى كوثر التابعي ،ليست في قطيعة مع عصرنا بكل خصائصه ومظاهره وصراعاته، لذلك فعالمها الشعري يبدو لنا تارة منصاعا لأحلامها ورؤاها وتصوراتها ،وهو عالم يسترجع الذكريات والأمكنة لتجارب ماضية عاشتها الشاعرة، وفي قصائد أخرى يبدو لنا عالما غريبا عجيبا يسوده الاختلاف ولا يخلو من التفاصيل اليومية أي من حاضرها أيضا .
إذا، فالمرايا في ديوان "الأغنيات لا ذنب لها" لا تهدف إلى تأمل الذات وعشقها من خلال رؤية نرجسية تجعلها لا ترى إلا نفسها ، بل إلى ترسيخ مكانة الآخر وانخراطه في التجربة باعتباره طرفها الأساسي ،وهو ما أدى بالشاعرة إلى تجاوز تلك المرحلة وخوض مغامرة المدارات بالترحال بين الأمكنة والأزمنة في الجزء الثاني من ديوانها.
تتميز اللغة الشعرية لكوثر التابعي بالسلاسة والانسياب والعفوية مع جمال الصورة ودقتها ،وهي لغة تعكس تأثر الشاعرة باتجاهات الشعر العربي الحديث، خاصة الشاعر نزار قباني بإدماجها بعض مفردات اللغة المستعملة في حياتنا اليومية بجمالية فائقة، علاوة على تأثرها بالشاعرة الكويتية سعاد الصباح التي أشارت إليها في قصيدتها "عندما أكون في حالة عشق" ،و كذلك بالشاعر محمود درويش كما ذكرت في قصيدتها بعنوان "بعيدا عن نارك بعيدا عن جنتك" ، كما أن التجاءها للنثر في صياغة قصائدها الشعرية بكثير من انسجام ودون تعثر ،يذكرنا باتجاهات الأدب العالمي الحديث .
أما عن سبر الشاعرة لأعماق الذات قصد معرفتها في كل أبعادها ، فمرده تجربة الغربة بكل ثرائها وآلامها وأفقها واهتزازاتها ، لأنها التجربة التي قد تزيح عنا غطاء الانتماء الجغرافي والثقافي ،حتى نكتشف البعد الإنساني فينا .

كاهنة عباس .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى