أياد خضير الشمري - أمكنة مستباحة.. قصة قصيرة

كوابيسٌ.. تتنكر بهيئة أحلام خادعة، لا فرّق بين لحظات اليقظة ولحظات الحلم، فقد كانت السماء سمراء، وكانت أطراف المدينة قاحلة مثل داخلها ليس من حياة فيها سوى الريح التي تهُزّ بقايا الأشجار وتدفعها أمامها مثل قطيع هائج، أوراقها الساقطة على الأرض، وأكياس النايلون المتناثرة على طول الفراغات المتعاقبة المتواصلة.. زمن النايلون، المدينة شبه ميتة، لولا بعض التحرّكات غير المنتظمة لأحذية العابرين بدون خطوط مرور أو أرصفة تحدد العبور، الشوارع مفتوحة ومستباحة تخلو من السيارات إلا ما ندر .. تغيرت الحركة ، وتغيرت الريح، أصبح صوتها مبحوحاً، بعد ذاك الصفير المجنون...
ظهر الفجر قبل فترة وجيزة .. كان بانتظار معجزة، أن تشرق الشمس، ليرى طريقه نحو البيوت المتناثرة، ليرى الوجوه المسرعة .. كان بلا هدف، هدف معلوم، كان كائناً آخر، نزل على حين غفلة، في هذه الساحات المكشوفة، خرائب مبعثرة فيها القمامة مثل جيش مهزوم أتعبه الفرار فتساقط مثلما تتساقط الثمار المتعفنة من أشجار مهملة، وبيوت مهجورة ليست سوى جحور وأوكار أغلبها مهدمة متبعثرة هنا وهناك، أشكالها غريبة وشبحية .. ليس من نباح لكلاب، طاردها الجوع، فلا شيء يؤكل، ولا شيء يُشـَم غير الدخان المنبعث من مجامر كثيرة ... أشلاء محروقة وأشياء لا يمكن إحصاؤها أو التعرف عما كانت عليه في سابق أيامها، أجواء مرصودة للسحرة وللجنيات، واللعب المستباح في تغيير ملامح الموجودات، دون أن ينتبه الى ذلك أحد، أجواء موبوءة ومشحونة بالخوف والجزع، بالرهبة والقهر، بالضياع والانسحاق، بتوقف الحياة وضياع الزمن، الحياة هنا تقف على حافات هاوية، لا يمكن أن تكون هذه هي الحياة، هوة واسعة تبلعك في أية لحظة، أزيز وهوام، ليس بمقدورك الإمساك بها، كل شيء تعطـّل إلا التنفس، كل شيء يتنفس بقسوة، في كل شبر، في كل مكان، في البركة في الأشجار المتجردة المحروقة الأطراف، داخل الجدران، والهياكل الرهيبة، بعصي غليظة متروكة هنا وهناك، وكأن وجودها لابد منه ليكمل المعنى المترهل بكل شيء، الصفائح الفارغة تتأرجح، تنقلب بين لحظة وأخرى جرّاء هبوب الزوابع الصغيرة، ولا يمكن تسميتها نسائم، فإن ذلك ليس بزمنها، إنها مجرد زوابع صغيرة تزحف من هنا ومن هناك، ممشطة سطح البركة بتلافيف آتية، عائدة الى مستقر لها، كلّ ما يحتويه سطح البركة الآسنة من أوراق مدوَن عليها كل شيء، أسرار وحوادث وأمنيات، وعيدان ترقص رواحاً ومجيئاً، النايلون ينتفخ، معلناً عن وجوده دون استحياء، أعمدت الكهرباء تتعلق بأسلاكها الخيوط والأكياس المتهرئة، وتصدر أصواتاً متنوعة المنشئ .. إنها شبه أحياء، أشياء تافهة تعلن عن نفسها.
من أين جاء، ومن أي ّ زقاق معتم دخل هذه الساحة الأخطبوط؟
الساحة بفروعها الكثيرة الأرجل، أعمدت الكهرباء مجسّات لها، هذه البرك الصغيرة الآسنة عيونها .. لقد وقع في فخ ٍّ دون أن يعي، فك ٌ أسنانه حجارة، ولعابه زفير قاتل وبخار متصاعد ملتهب، يصعد من جوف الأرض والأرصفة الكالحة، أين البيوت المصبوغة وألوانها الزاهية، ألوان الأرض والسماء، ألوان المياه والحدائق والبرك الرقراقة، لقد انعدمت الألوان الرائقة القريبة من النفس ..
ولكن .. أين أنا؟
تساءل ثم أردف: ــ أين أنا يا نفس؟
أين أنا من هذه الكآبة المزرية؟
أ أنا في وهم، أم كنت أحلم، وصحوت تواَ على حقيقة مختلفة؟..
أهو الواقع فعلاً؟ .. هذه الأرض المحترقة الأطراف، المطعونة في القلب، هي الحقيقة .. لاشك أنني كنت .. في الحلم الجميل..
فأي كابوس هذا؟ أهي الألوان وقد استحالت جميعها إلى لون واحد كالح؟
لون ليس له مثيل في الطبيعة الماضية .. لون جديد ظهر في هذا العالم السائر نحو الخراب، لون أقرب إلى اللون الرمادي منه إلى الدخان .. وتساقطت بضع قطرات من غيمة مازالت تسيطر على الفضاء القريب . كيف أمسى الفضاء بهذا القرب. تساءل ثم أردف: ــ لو أتيت بسلّم، لاستطعت الإمساك بهذه الغيمة وعصرتها، أو سبحت فيها وأزلت هذه الأدران عن جسدي لأظهر ألوانه الحقيقية، ولاستطاعة الشمس أن تظهر بجلاء.
أمسك عن الكلام، عن الوهم حين كانت قطرات المطر تعمل بقعاً غريبة على ملابسه، لقد لطـّختها فلوثتها بدل أن تغسلها .. كان المطر صديداً .. لقد انتهى زمن الأمطار التي تغسل الأردية وتطـّهر القلوب .. وسار يتطلع إلى المدى البعيد عسى أن تظهر على سطح الماء زعنفة ترشده على مخبأ الشمس، وعسى أن تتحول الأشياء الممسوخة إلى ألوان مقبولة .. وعسى وعسى، حتّى بدأت الغمامة ترتفع ملوية أطرافها كالسياط ، شمس خلفها تدفعها لتشق الطريق بصيص فتح لون الأفق، وازداد البصيص أتساعاً، شاقاً طريقه إلى كبد السماء، بدأت تظهر على شكل خيوط سمراء، تتلاعب في حضن الأفق، خيوط مثل أفاعٍ رفيعة غزت الأفق أمامه لتندس في الظلمة، تشقها رويداً، وتتوسع الرقعة، حتى بانت مثل دخان على ظهر قوس الشمس، قوس أسمر كالح يمتطي الشمس لتصبح أشبه بمقلاة عظيمة تتبخر المياه عن سطحها .. ارتفعت المقلاة شيئاً فشيئاً، وهي تدفع الدخان بعيداً لتنجلي بالتدرج، واستقرت في مستقر لها.
هذه هي الرؤية، شمس لونها بلون السماء والأرض، والأشجار، والبيوت، لون الوجوه والحاضر .. وتوجس خِيفة أن يكون في حلم آخر .. هل هو حقاً في حلم أم يقظة؟ إنه لا يدري .. عليه أن يحزم أمراً، أن يستيقظ أو يحلم، قبل أن تفر الألوان .. الآن فقط، أحسّ بالحركة، بدأت الحركة في جسده، وانتقلت إلى كل ما يمكث حوله .. حتى تحولت إلى ضجيج، فقد رأى الأبنية ما تزال شامخة بألوانها الزاهية، والجسور تتمدد على الأنهار، والحصاد في أوله .. إلى أي واقع أنقلب الآن؟

اياد خضير / العراق


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى