أمل الكردفاني- حكاية قطة

(١)
وعلى جانبي خور ممتلئ بمياه مطر سابق، جلست أحتسي الحرجل الساخن بعد يوم عصيب قاومت فيه نوبة مستمرة من الألم.
كانت بائعة الشاي الحزينة مستقرة نفسياً، مستقرة في حزن أبدي حتى أنها لا تعلم به. القطة التي كانت تترك الجميع لتتمسح بأرجلي أو تقفز إلى حجري اختفت هذا المساء. أراقب كل حركة من حولي خوفاً من ظهور لصوص الهواتف فجأة. على الجانب الأيمن مطعم شعبي أمامه طاولات ومقاعد قذرة كعادة مطاعم الدول الفقيرة. العاطلون عن العمل يلعبون الليدو..والحياة تبدو تافهة وساخرة في نفس الوقت. أغنية ؛أنتظر منها مقطعاً موسيقياً صغيراً؛ تعبر أذني عبر سماعاتي. المقطع يتأخر كحبيبة مدللة تعِد كهلاً ثرياً باللقاء وتتلاعب بصبوته المتأخرة. وحين يأتي المقطع يتغير الكون من حولي، ألج كونا آخر، ومجرات بعيدة، أعبر إليها في لحظة، ثم يختفي المقطع الموسيقي، وأعود لأنتظره مرة أخرى. الحياة تافهة وساخرة في نفس الوقت. أنا الوحيد دائماً في عالمي كالله. كالله الحزين وكبائعة الشاي وكمليارات من الراحلين.

(٢)
أدركت أنني أتجه إلى الجنون منذ أن بدأت أميل إلى القطط...فالقطة تمنحك حريتك وهي معك..تضع دوما حاجزاً بينها وبينك لا تكسره إلا حينما تحتاج هي لأن تكسره، لا عندما تحتاج أنت ذلك. لذلك فأنتما أصدقاء ولا أصدقاء في نفس الوقت. وهذه علاقتك بالحياة التي تجعل كل ما يحيط بك مؤقتاً وقابلاً للغياب. للقطة فلسفة واضحة، هي أن كل شيء غادر حتى انعكاس ابتسامتك في المِرآة، وعلينا أن نتعامل معه على علته تلك.
جاءت القطة وجلست قربي وهي تنظر للبعيد وتلعق قدمها ثم تحركت وعبرت من بين قدمي وتحت الكرسي واختفت ورائي بلا اهتمام، وعليَّ أن لا أظهر لها أي اهتمام بما فعلته لذلك لم ألتفت خلفي. لكنها لا تهتم على أية حال. كنت قبل قليل قد التقطت لها صورة سريعة لأن حولي أشخاص مجانين يعتقدونني عاقلاً. وهذا هو السر.

(٣)
إنني أشعر بأنها تريد أن تقول لي شيئاً..سأنهي اليوم حديثي عن هذه القطة بهذا المنشور. أشعر بأنها تدور من حولي لتقول شيئاً لي، لو كانت لبؤة لكنت متأكداً من أنها تريد افتراسي، إن المشاعر الطيبة لا يمكن تصديقها في عالم مليئ بالخونة.
تذكرت صبياً تتبعنا أنا وصديقي ونحن نعبر الجسر في منطقة المنيل. قال بأنه يريد أن يكون معنا، كان أسمراً وملامحه بريئة. لكننا لم نتحمل ذلك فرفضنا. لأننا بشر، وكبشر فنحن نخاف من تلك العواطف العشوائية التي تقفز أمام وجوهنا فجأة، رغم أنه لا شيء راسخ في حياتنا سوى عدم فهمنا لحياتنا.
وأياً ما كانت تريد قوله، فإنه لن يكون أهم من أن تقول. وبما أنها لا تملك أداة القول، فإنها كبعض البشر، تفضل الأقوال على الأفعال. وهكذا تدور من حولي بنظرات شاردة كنشال صغير.
أن تقول فقط.. أن تقول..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى