السيد الطنطاوي - الشيطان العاق!!.. قصة قصيرة

في إحدى الليالي المظلمة، خرج الشيطان الشاب للتنزه على شاطئ ترعة قريته، التي تحوطها الأشجار الكثيفة من الجانبين. كان الوقت يشير إلى ما بعد منتصف الليل. اختفاء القمر مع نهايات الشهر العربي، يغري الكثير من الشياطين للخروج للتنزه، أو لاصطياد أحد من بني البشر والبلطجة عليه وتخويفه، وإدخال الرعب في نفسه، وإضحاك شلة الأصدقاء الشياطين عليه.. خروج هذا الشيطان الشاب كان لسبب آخر مختلف تماما، وهو خلافه الكبير مع والده، لتكاسله في هذا اليوم ونومه حتى وقت متأخر من الليل، فلم يقم بتخويف إنسان والبلطجة عليه، أو التفريق بين زوج وزوجته، أو إفساد علاقة ابن بأبيه، أو أخ بإخوته، مما دعا الوالد لعقد جلسة توبيخ نارية، وصمه فيها بالفشل والخيبة أمام الإنسان، ذلك المخلوق الضعيف والهش من الداخل، والمخلوق من ماء وتراب، وأنت الشيطان المخلوق من النار المتوهجة، والمتوثبة لحرق أي شيء يقف في طريقها. زمجر الشيطان الوالد بصوت، ارتعدت له فرائص الشيطان الشاب، مؤنبا له وسابا له بأفحش الألفاظ الشيطانية، لتكرار "خيباته" مع البشر، وعدم نجاحه وتوفيقه في كثير من الجولات، مضيفا أن الفشل هو جزاء كل عاق متكاسل محب للنوم.. شعر الشيطان الشاب بالحرج الشديد، واحمر وجهه خجلا وتوهج وجهه بنيران زاد لهيبها وفحيحها، فالتوبيخ كان على ملأ من إخوته الخمسين الذين شاهدهم "خلسة" يبتسمون في خبث، ويمنعون ضحكة مكتومة، تريد الخروج مسموعة من أفواههم، فكتموها حتى لا يعاقبهم والدهم عقابا مؤلما، ولا يريدون أن يفقدوا مكانتهم في قلبه، فهم الآن من المقربين بالرعاية والعطف، وبالمكافآت السخية وثناء التشجيع، لدورهم الكبير خلال الفترة الأخيرة في إفساد جنبات القرية، فالبغض شاع وانتشر بين أهالي القرية، وبين الجيران والجارات، وبين الأزواج والزوجات، وفسدت العلاقات بين الأصدقاء والأصحاب، حتى وصل إلى القتل لسرقة التكاتك، أو الهواتف النقالة، وسرقة الحقائب من أيدي الموظفات والمدرسات، وسحلهن في الشوارع، والوسوسة للبعض بأن يسجل مكالماته الهاتفية مع من يتكلم معهم من الأصدقاء أو الزملاء وحتى الإخوة، لاستعمالها ضدهم في أي وقت!!.. بعد انتهاء جلسة التوبيخ والاتهامات، قرر الشيطان الشاب أن يخرج لينفس عن نفسه، وحبذا لو وجد شيطانا صديقا يستمع لنجواه وشكواه، ويستطيع أن يخرجه مما هو فيه من الهم والغم.. خلال سيره بجوار الترعة، شاهد شابا يلبس ثيابا شبه سوداء، وخيل إليه أنه شيطان مثله ولكن شكله مختلف عن الشياطين. حاول إقناع نفسه بأنه ربما أتى من قرية غير قريته، ليبحث عن رزقه بين البشر في هذه الليلة المظلمة!!. أسرع في خطواته حتى يلحق به، وسريعا أدخل نفسه في صورة إنسان عليه ثياب سوداء، وحيا الشاب بكلمات مجاملة، ثم وضع يده على كتفه، فجزع الشاب وسرت قشعريرة شديدة في جسده، ووقف شعر رأسه، ففطن الشيطان الشاب أن ما ظنه شيطانا هو إنسان من طين وماء، وأن خيالاته المريضة والنفسية السيئة التي هو عليها، أوهمته أن الذي يسير أمامه شيطان مثله من قرية غير قريته، فأسرع برفع يده عن كتف الشاب، وطمأنه بلطف الكلمات، وعرف أنه ذاهب إلى مسجد القرية ليصلي الفجر، وأنه يذهب كل يوم قبل الصلاة بنصف ساعة، لينال ثواب المكوث في المسجد، وسأله الشاب: وأين أنت ذاهب؟ قال له: خرجت من البيت بسبب سوء تفاهم بيني وبين والدي.. قال له: شكلك غريب عن قريتنا.. قال: أنا من قرية مجاورة، قادتني قدماي مع شاطئ الترعة إلى قريتكم.. قال الشاب: ولكن اسمح لي، مظهرك مريب بعض الشيء، ويدك عندما وضعتها على كتفي كانت حرارتها مرتفعة جدا، فألهبت كتفي، وأشعر وأنت سائر بجواري بقشعريرة شديدة، وكأن الدم سيتجمد في عروقي.. ابتعد الشيطان عنه بضع خطوات محسوبة، فهدأت نفس الشاب بعض الشيء، وقال له: تعال معي ندخل المسجد لنصلي الفجر حتى تهدأ نفسك، وتنسى ما حدث بينك وبين والدك، قال: لا أستطيع الذهاب معك إلى المسجد.. قال الشاب: ولم لا تذهب معي، وما الذي يمنعك؟. قال: لست متوضئا، وحتى لو توضأت لا أستطيع الصلاة. واقترب قليلا من الشاب، فإذا بالقشعريرة تعاوده، وشعر رأسه يشعر به واقفا متصلبا بشكل لم يعهده من قبل.. فطن الشاب أن هذا الشخص "ربنا يجعل كلامنا خفيفا عليهم"، ربما يكون من الجن أو الشياطين!!. أحس الشيطان أن الشاب فطن إلى جنسه الشيطاني، فقال له: أنا فعلا من القوم الذين جالوا بخاطرك.. انتفض الشاب واقشعر جسده مجددا، وأحس أن شعيرات رأسه بدأت في تغير لونها سريعا إلى البياض!!.. هدأه الشيطان بكلمات ودودة متوسلة، باذلا جهدا كبيرا في تهدئته، وقال له: نحن لا نؤذي أحدا إلا إذا أذانا، ولا ننتقم من أحد إلا إذا سخرنا شخص ظالم لنفسه، أو غبيٌ منكم لا يتقي الله، نحن قوم نوسوس فقط، سواء بالوقيعة أو القطيعة، والنتيجة أنتم من يقررها أيها الإنسان، فإما أن تأخذوا بالوسوسة وتنفذوها وتعملون بها، وإما أن تستعيذوا بالله منا. قال الشاب أهذه موعظة منك؟ قال: أبدا هي نصيحة لك. قال الشاب: ولماذا تنصحني؟ قال: لأني تعبت من والدي ومنكم أيها الإنسان. فوالدي يطلب مني أن أهدم بيوت الناس، وأن أسعى لانفصال الوالدين عن بعضهما، وتشريد الأطفال وخلق أجيال تفسد في الأرض ولا تصلح، وأتدخل في بث الكره بين الأصدقاء والأقرباء، وأتفنن لإبعاد الناس عن الدين والأخلاق والقيم.. هدأت نفس الشيطان الشاب وواصل: ولو كنتُ في وضعي الطبيعي لوسوست لك، واجتهدت لكي لا تذهب إلى الصلاة.. قال الشاب: ولماذا تعبت منا نحن البشر؟، قال: لأنكم بدأتم تنفذون بالحرف كل ما نوسوس به لكم، بل قمتم بأفعال بينكم وبين أنفسكم، لم تخطر لنا نحن الشياطين على بال، فشعرت وإخوتي أننا بعد فترة سنكون عاطلين عن العمل!!، وظن والدي أنني متكاسل وأترك عملي وأنام كثيرا، فأصبحت في مرمى توبيخه وسبابه وشتائمه الجهنمية، رغم أنني ليس لي ذنب فيما حدث، فأنتم أيها البشر أخذتم حقوقنا في عملنا الذي نتقنه.. ارتفع صوت المؤذن ينادي "الله أكبر".. انتفض الشيطان الشاب انتفاضة هلعة ومضطربة، وهم بالطيران والهروب من المكان، مع ارتفاع نباح كلاب المنطقة وعوائها.. ارتفع بجسده الأثيري ثم وقف في الهواء برهة، واستدار ناحية باب المسجد، وقبل أن يمد الشاب قدمه اليمنى لدخول المسجد، فإذا بالشيطان الشاب ينظر إليه في اطمئنان وخشوع، ويقول له: أدعُ لي!!. اهتز جسد الشاب بشكل عنيف، واقشعر بدنه ووقف شعر رأسه، وإذا بدموع غزيرة تنهمر من عينيه!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى