بديعة زيدان - "أنثى ما فوق الخطيئة".. عن معاناة الكفيفات الفلسطينيّات وحيواتهن

"أنثى ما فوق الخطيئة"، هو عنوان رواية للكاتبة الفلسطينية أغصان حسن، أفردتها لتسليط الضوء على معاناة الكفيفات، وفيها يلمس القارئ طغيان المشاعر الجوّانية على الأحداث، وذلك يتأتى لكونها هي نفسها من فاقدات البصر.
تتناول أغصان في الرواية الصادرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمّان، حكايات مختلفة لفتيات عديدات، لكل واحدة منهن عائلة وحياة وظروف ومشاكل مختلفة، والعمى هو ما يجمعهن.
منهن من وُلدت والعمى معها ومنهن من فقدت بصرها لاحقاً، لأسباب مرضية تعّددت، او فجأة ودون سابق إنذار جسماني، بحيث تدخلنا الكاتبة في دهاليز حيوات هذه الفتيات: انكساراتهن، ومشاعرهن، وعواطفهن، وشهواتهن، وطموحاتهن، وأوجاعهن، ليس فقط بسبب العتمة التي يعشنها، بل بسبب التعاطي المجتمعي القاسي، حتى من قبل الأشد قرباً لهن، أي افراد عائلتهن الصغيرة أو الممتدة.
تشكل حكايات كل من: "نيسان شام"، و"نسرين"، و"هديل"، و"ساندرا"، و"هيام"، و"ثريا"، النزْر اليسير مما أرادت الكاتبة تسليط الضوء عليه فيما يتعلق بمآسي الكفيفات، وكأنها محاولة سردية منها لقرع جدار الخزان، أو أي جرس كان، أو الصراخ الهادر أحياناً لعل المجتمع يصحو ويستفيق، ويصغي لأنّاتهن ويلتفت لهن كفئة ليست فقط مهمشة، بل ومقموعة، وضحية للتنمر والتسلط والعنف أيضاً.
وبين تلك الحكايات المتشعبة، ما ورد حول "نيسان شام"، الأصغر بين أخواتها، والتي ولدت كفيفة، ورغم ذلك لم تغفر لها إعاقتها عند والدها، فكان يوسعها ووالدتها ضرباً لأتفه الأسباب، إلى أن قضت الأم حين كانت نيسان في الثانية عشرة من عمرها، ما اضطرها للهروب، واللجوء بمساعدة ورفقة المحامي "مراد" إلى فرنسا، ومن ثم الاستقرار في كندا، ليتسلم الأخير زمام أمور حياتها، ويديرها وكأنها امرأة آلية وبيده جهاز التحكم عن بعد (الريموت كونترول)، حيث السيطرة على كل كبيرة وصغيرة في يومياتها، لدرجة أنه لم يكن لها لتختار ملابسها أو طعامها.
وأرى أن اختيار الكاتبة لعدد ليس بالقليل من الفتيات الكفيفات لتشكل حكاياتهن متن رواية "أنثى ما فوق الخطيئة"، يتأتى من سعيها لإظهار ذلك القدر الكبير الذي يعشنه من المعاناة، عبر تجارب شتى، فلو تناولت حكاية فتاة واحدة، على سبيل المثال، لما أمكنها التوسع بمعاناة الكفيفات، وتسليط الضوء بشكل شبه بانورامي على هذا الجانب، فحكاية واحدة لا تكفي هنا.
ولم تغب الجرأة عن الطرح في رواية "أنثى ما فوق الخطيئة"، فكان ذلك التمرّد الداخلي على القدر حد الرفض المعلن أو غير المعلن أحياناً، وكانت تلك الرغبات الطبيعية لأي أنثى حاضرة، حتى على صعيد الشهوة أو الارتباط العاطفي الذي عادة ما كان مصدراً إضافياً لخيباتهن، فالعمى كان حاجزاً لدى الكثيرات منهن في هذا الاتجاه.
"مخطئ من يدعي متبجحاً بأنه قد اعتاد على إعاقته.. كانت أمّي تصرّ على أن تشرح لي بأنه إذا ابتلى الله عبده بحبيبتيه فصبَر كانت الجنة هديّته على صبره. كانت تقول بأن المرض ابتلاء من الله لعباده، والعمى أحد تلك الابتلاءات.. حقاً ليس بإمكاني الإجابة بوضوح عن سؤالك، لكنني لن أنكر وأنا أستحضر ذاكرتي لأتذكر تلك المواقف التي حدّثتك عنها، أتذكر أنني كنتُ أبكي وأتذكر (...) عاتبت الله لأنه خلقني عمياء! لماذا أنا؟! وإذا كان ذلك ابتلاء من الله فلماذا هذا الابتلاء؟! كان يمكن أن نسوّي الأمر بطريقة أخرى، كان يمكن أن أُهزم أنا هزيمة مختلفة".
ولكون المجتمع الفلسطيني مختلطاً لجهة تعدد الأديان، فكان من بين شخصيات الرواية فتيات مسلمات وواحدة مسيحية، فمعاناة فقدان البصر وتبعاتها إنسانية مجتمعية لا تتوقف عند حدود الدين أو الجغرافيا، هي التي تنتزع عنها إنسانيتها، بقصد أو دونه.
"كنتُ أفضل أن أحيا حياة عاديّة، حياة سخيفة إن أمكن، كنتُ أتمنى أن أصحو في السابعة والنصف، أن أتلكأ وأنا ذاهبة للمدرسة، أن ألهو مع زميلاتي في الطريق، أن يتحرّش بنا الأولاد في الشارع، أن أرسب في كلّ المواد، كنتُ أتمنى أن أعمل وأدرس في آن، ما كنتُ لأمانع لو أنني اضطررت لغسل الصحون في المقاهي والمطاعم.. كنتُ سأحبّ لو أن أمّي أجبرتني على مرافقتها للأعراس بدلاً من الدراسة للامتحان الذي سيكون في اليوم التالي. ما كنتُ لأعترض لو أنّ أبي أجبرني على الزواج من أحد الشبّان ولم أبلغ بعد الثامنة عشرة. ما كنتُ سأحزن لو أنني سرتُ خلف أطفالي كقطيع من الخراف ولم أتجاوز العشرين. كنتُ أريدها حياة سخيفة وعاديّة، بلا معجزات ولا تحديات".
كثيرة هي الروايات التي تناولت "العمى" كثيمة، وبلغات عدّة، وبمستويات ورؤى متفاوتة ومتباينة، وإن كانت رواية "أنثى بلا خطيئة" قد لا تصل إلى مستوى العديد من هذه الروايات التي صاغها مبدعات ومبدعون عرباً وأجانب، فإن ما يميّزها هو خروجها من فلسطين لتتحدث عن عالم خفيّ، لا يعلم عنه الكثير من الفلسطينيين حتّى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى