فتحي عثمان - معركة مرج دابق: انتصار الحداثة على التقليد

منذ المرحلة الثانوية سكنت معركة مرج دابق التي دارت بين المماليك والعثمانيين في خيالي وذهب قدر كبير من تعاطفي إلى الشيخ السبعيني وقائد جيوش المماليك السلطان أبو النصر الأشرف قانصوه الغوري؛ الذي اصيب بشلل نصفي عندما علم بخيانة أحد قواد جيشه مما أدى لخسارته المعركة؛ وعلى الأثر فقد السلطان الغوري القدرة على النطق وسقط عن حصانه فداسته جحافل الجيوش العثمانية ولم يتم العثور على جثته حتى اليوم.
كتاب صلاح عيسى: رجال مرج دابق والصادر هذا العام عن دار الكرمة في القاهرة، أثار لدي ذكريات هذه المعركة. الكتاب يرصد المسار الذي أدى الى المعركة الحاسمة والتي نقلت العالم العربي والاسلامي من سيطرة المماليك إلى سيطرة العثمانيين والخيانات المتوالية، والتي أصبحت إرثا مملوكيا خالصا، حتى خيانة حاكم حلب المملوكي خاير بك والتي أدت إلى خسارة معركة مرج دابق وموت السلطان قانصوه الغوري وانتهاء دولة المماليك (ما عدا الأشهر المعدودة التي حكم فيها طومان باي حتى سقوط القاهرة).
امتدت دولة المماليك من حلب شمالا حتى برقة جنوبا وسيطرت على الممر التجاري الحيوي البحر الأحمر بضفتيه الغربية والشرقية والمشاعر المقدسة وامتد نفوذها جنوبا حتى كسلا شاملا ميناء عيذاب (ميناء عدوليس الارتري قديما). ودام حكمها 267 عاما منذ تأسيس سلالة المماليك في عام 1250 وحتى سقوط القاهرة أمام جيوش السلطان العثماني سليم الأول بن بايزيد في يناير 1517. (1)
دخل السلطان العثماني سليم الأول والبالغ من العمر 47 عاما المعركة ضد خصمه الشيخ البالغ من العمر 75 عاما، وهو زاه بانتصاره الكبير على ملك الدولة الصفوية الشاه اسماعيل في معركة جالديران في عام 1514. وكانت الدولة الصفوية التي حكمت فارس، أو ايران حاليا خصما سياسيا ومذهبيا عنيفا للدولة العثمانية السنية.
وبتحييد دور الدولة الصفوية الشيعية انتقل السلطان العثماني لمواجهة المماليك لتأمين السيطرة على الشام ومصر.
دارت معركة مرج دابق والتي استمرت تسع ساعات متواصلة في يوم الرابع والعشرين من اغسطس من عام 1516، وكان لها تأثير جيوبولتيكي حاسم على التاريخ الذي يليها.
واجه في هذه المعركة 20 الف جندي مملوكي حوالي 60 جندي عثماني ذوي تدريب عال وخبرة في المواجهات وتسليح حديث. وكان لهذا العنصر الأخير، وهو السلاح الناري الدور الحاسم في كسب المعركة حيث حصدت بنادق ومدافع العثمانيين سلاح الخيالة المملوكي.(2)
ويمضى روغان في وصف المعركة نقلا عن المؤرخ المملوكي ابن إياس الذي وصفها يومها بأنه "يوم يشيب الولدان ويذيب الحديد." يبدو وصف ابن ياس متناسبا مع أهم حدث وهو الاستخدام الماهر للسلاح الناري مقابل السيف وهو السلاح التقليدي للدولة المملوكية.
ويشير روغان إلى هذا الفارق في نفس الصفحة بالقول بأن المماليك يمثلون القوى التقليدية "القروسطية" بينما يمثل العثمانيون " الفن الحديث للحرب في القرن السادس عشر."
هذه النقطة التي يتوقف عندها مقالنا هذا ليناقش فرضية أن استجلاب أول عناصر الحداثة المادية وهو السلاح الناري كان حاسما في تغيير تاريخ المنطقة منذ يوم الرابع والعشرين من اغسطس من عام 1516، وأن الاستعانة بناتج الحداثة المادي تقدم كثيرا على الاستعانة بناتجها الفكري أو المعنوي.
استفادت الدولة العثمانية من معاركها البرية مع القوى الاوروبية خاصة في مناطق البلقان واستطاعت توظيف السلاح الناري وتحديدا البندقية والمدفع في حروبها في الشام ومصر مما حول ميزان القوى المستقبلي لصالحها.
في العادة لا يجد الناس حرجا في استخدام منتجات الحداثة ذات الطابع المادي مثل السلاح الناري والمواصلات الحديثة مقابل الأفكار والتي تواجهها أفكار مقابلة تحد من قدرتها على الانتشار وهذا ما حدث تماما بعد ذلك التاريخ الحاسم.
ويقول صلاح عيسي بأن البندقية أثبتت أنها سلاح قوي في المعركة رغم افتقادها للشجاعة.(3)
تمسك المماليك بأساليب الحروب القائمة على الفروسية بكل قيمها وأدواتها من خيول وأسلحة تقليدية وقيم مصاحبة، ويشير المؤرخ العسكري الانجليزي الشهير جون كيغان إلى أن المماليك "رفضوا التنازل عن تقاليد الفروسية (الركوب والسيف) مقابل استخدام المشاة للسلاح الناري."(4)
ويؤكد كيغان أن استخدام الخيول عند المماليك أعاق استخدام البنادق مؤكدا بأن الخيول والسلاح الناري لا يجتمعان.
بنهاية القرن السابع عشر الميلادي كانت كل الجيوش الأوروبية بشكل أو بآخر تستخدم السلاح الناري خاصة مع دخول بندقية "الموسكيت" الاستخدام الواسع عند سلاح المشاة وتزويدها بالسونكي عند الالتحام اليدوي. ولم يكن الجيش العثماني بعيدا عن هذا التطور الحديث في الميدان العسكري مقابل خصومه المماليك.
لعب الجانب القيمي إضافة إلى تقاليد الفروسية دورا كبيرا في منع المماليك من الاستفادة من السلاح الناري وتوظيفه. وقد حاول آخر سلاطين المماليك الأشرف طومان باي، ابن اخ السلطان قانصوه الغوري حماية القاهرة من الوقوع في أيدي العثمانيين، ولكنه أدرك متأخرا، وبأسي بالغ، تأثير السلاح، ودوره في المواجهة. وأثر عنه صلاح عيسى قوله محادثا نفسه بعد خسارة عمه معركة مرج دابق: "رحم الله عمي السلطان الغوري، جاءه يوما رجل مغربي بهذه البندقية التي تطلق الرصاص وقال له الإفرنج يكسبون بها الحروب؛ لكنه أبى أن يسمع له، وقال له نحن لا نحارب إلا بالسيف كما كان نبينا يحارب."
ويخاطب احد أمراء المماليك ويدعي علان طومان باي قائلا: " أني قاتلت العثمانيين في مرج دابق، وعرفت حالهم، فإنه ليس عندهم معروفة بالفروسية، ولا ركوب الخيل، وغاية ما عندهم الرماة بالبندق."(5)
رغم أن الجيوش القديمة عرفت النار الاغريقية في الحروب وقذف كرات اللهب بواسطة المجانيق إلا أن اختراع الصينين للبارود الذي هو مزيج من الفحم المسحوق والكبريت قد أدى حدوث تحول كبير في استخدام الجيوش للسلاح الناري، وصولا إلى حروب المدن الايطالية في القرن الرابع عشر وتوظيف الهندسة في صنع المدافع واستخدام البنادق البدائية وصولا إلى استخدام بندقية الموسكيت التي لعبت أيضا دورا حاسما في الحرب الأهلية الامريكية.
في الختام أثبتت معركة مرج دابق واستعمال السلاح الناري أن استخدام وتوظيف السلاح الناري احتاج إلى "تكيف" في تقبل أدوات الحداثة المادية؛ خاصة لدى المماليك الذين لم يدخلوا في مواجهات واسعة النطاق مع الجيوش الأوروبية الحديثة ليأخذوا منها السلاح الناري وظلوا أوفياء حتى الآخر لقيم الفروسية التي تعتمد على الإقدام والمواجهة المباشرة والشجاعة والقدرة الجسدية في المعارك. على الجانب الآخر ونسبة أيضا للتنوع العرقي والاحتكاك المباشر بالجيوش الاوروبية الحديثة استطاع العثمانيون توظيف السلاح الناري وقضوا به على الدولة المملوكية وسادوا في العالم العربي والاسلامي حتى انهيار امبراطورتهم في عشرينات القرن الماضي.


-------------------------------------------------------------------------

1- عيسى، صلاح، رجال مرج دابق (دار الكرمة، القاهرة، 2021)، ص 220
Rogan, Eugene, Histoire Des Arabes de 1500 à nos jours, (édition Perrin, Paris, 2013) p 30 -2
3 - عيسي، صلاح، رجال مرج دابق، ص 139
Keegan, John, History of Warfare (Alfred A.Knopf, N.Y., 1993) p341 -4
5 - عيسى، صلاح، رجال مرج دابق، ص 175

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى