فتحي عثمان - المناعة قبل الطوفان

تمثل الأزمة السياسية الراهنة في تونس مناسبة للحديث عن مزالق السقوط الكبير بتحول الخلاف السياسي إلى استقطاب مجتمعي حاد يؤدي إلى العنف بدعم وتحريض خارجي. يظل كل مجتمع سياسي بخير في ظل الأزمات السياسية الخانقة ما لم تتغلغل أزماته إلى المجتمع الكبير وتدفع الأطراف إلى الانتحار الجماعي بنية هدم المعبد على من فيه حرمانا للخصوم من أي مكاسب. وتعيد الأزمة السياسية في تونس أصداء ما حدث في الجزائر في التسعينات ومصر ودول أخرى. كل هذه التجارب "الديمقراطية" القائمة على انتخابات شعبية تمثل أصعب الخيارات السياسية؛ ربما أصعب من حكم الاستبداد، لسبب جوهري وهو أن علل الديمقراطية لا يمكن حلها إلا بالمزيد من الديمقراطية؛ وهذا خيار قد يرفضه اللاعبون وخصومهم في مرحلة الأزمة مفضلين عليه خيار التملص من التجربة كليا طورا، والاستعانة بالعسكر طورا آخر أو الركون إلى حكم مستبد مقنع وراء ستر اسمية مهلهلة للديمقراطية.
يقدم التاريخ الارتري حالتين للانقسام والاستقطاب المجتمعي الحاد أدتا إلى وأد حلم الاستقلال وولادة الدولة الوطنية المستقلة مرتين. المرة الأولى في اربعينات القرن الماضي عندما انقسم الارتريون بين مؤيد للاتحاد مع اثيوبيا ومؤيد للاستقلال؛ وانتقلت الأزمة من حالة الانسداد السياسي إلى حالة استقطاب مجتمعي ثقافي حاد. التدخل الاثيوبي الحاسم والتواطؤ البريطاني أسهما في تأزم الوضع حتى الوصول إلى صيغة قانونية سياسية، وهي صيغة الاتحاد الفيدرالي، التي ترضي الكل ولا ترضي أحد في نفس الوقت؛ وقبلها كل طرف باعتبار أنها "أفضل ما يمكن الحصول عليه" حتى تحقيق المأرب الخاص لكل مجموعة.
انقضت اثيوبيا على الاتحاد الفيدرالي ودخل المجتمع، حتى بدايات الثورة مرحلة تلاوم وتحميل كل طرف للطرف الآخر أسباب الإخفاق، وكان أثر ذلك واضحا في بدايات الكفاح المسلح، والخلافات اللاحقة.
المرحلة الثانية هي فشل الثورة في تحقيق الاستقلال الناجز للبلاد في النصف الثاني من السبعينات بعد تحرير الريف والمدن الارترية في ملحمة نضالية مهيبة. مرة أخرى تطل الخلافات الداخلية والتدخل الخارجي الكاسح ليضيع الأمل المنشود. في الحالتين: أي الاربعينات والسبعينات كانت العوامل الداخلية والخارجية تتسم بدرجات عالية من التعقيد؛ ولكن ما يهمنا منها هو الانقسام والتدخل الخارجي. في المرحلة الثانية: استطاع منغستو هيلي مريام إمالة الكفة لصالحه بإعادة انتشار قواته من الحدود الصومالية وتحويلها إلى ارتريا والحصول على دعم سوفياتي هائل وتدخل حاسم لكل من اليمن الجنوبي وليبيا تحت قيادة معمر القذافي حينها. هذا التدخل الحاسم، إضافة لحالة الانقسام في الثورة كانا السببين الكبيرين وراء ضياع فرصة الاستقلال الثانية في السبعينات. كل هذا تاريخ متاح مبسوط يمكن الولوج إليه عبر عدة أبواب والخروج منه بخلاصات تناسب توجه كل باحث عن الحقيقة.
فلماذا نسوق هذه المقدمة الطويلة نسبيا؟
نهدف من وراء ذلك لتبين عناصر الاستقطاب العنقودي في المجتمع السياسي الارتري في المهجر حاليا وتحوله إلى دعم ولاءات تخدم التجزئة لا الوحدة. حالة الانقسام تتبدي في مهجر مشظى نوويا، وداخل مقموع لا تسمع أراءه، ولا تعرف رغباته. وفي ظل الهوة الغائرة الفاصلة بين الداخل والخارج يتبدى الانقسام في احتكار التحدث "وتمثيل" الوطن وسكان الداخل بتفويض كامل لا يعرف مصدره. هل نحن اليوم أمام حالة استقطاب مشابهة، وإن بدت مختلفة العناصر والمكونات للوضع في الاربعينات؟
بالاحتكام إلى القاعدة البيولوجية بأن المناعة هي خط الدفاع الأول للجسم وأن انهيارها هو بداية "اجتياح" المرض له؛ نقول ومن عبر ودروس التجربتين أن الحل الفيدرالي والغاؤه لاحقا؛ وضياع فرص الاستقلال الثانية في السبعينات ما كانتا لتكتملا كمآسي تراجيدية في تاريخنا لولا حالة الانقسام والتبدد. هذا الانقسام الذي نعيش أحد أشكاله اليوم. وكما خلصنا من قبل أنه كلما كانت درجات الانقسام السياسي والاجتماعي كبيرة كان كذلك النزوع إلى التدخل الخارجي أكبر. تبدو هذه قاعدة بدهية مكررة حد الملل؛ ولكن للأسف يتم في كثير من الأحيان نكرانها.
يرصد المؤرخ الشهير لورانس جيمس في كتابه الضخم تحت عنوان "الراج: إنشاء الهند البريطانية" باللغة الإنجليزية، الكيفية التي استطاعت بها شرذمة انجليزية إخضاع الهند بكامل سكانها وحضارتها ومساحتها للاستعمار البريطاني في القرن السادس عشر. ويبدأ سرده مع انهيار الإمبراطورية الإسلامية في الهند وصراع الأمراء. ويسجل فيه كل تجليات الانقسام السياسي والمجتمعي والمذهبي والذي انتهي بالبلاد تحت سلطة المستعمر. تبدو عبر التاريخ هنا واحدة الجوهر متعددة المظهر.
وإذا كان الانقسام السياسي والمجتمعي في السابق قد أضاعا فرصة استقلال البلاد مرتين؛ فما الذي يمكن أن يضيع في حالة تكرر الطوفان مرة ثالثة؟
لكم أتمنى وأرجو أن تظهر إجابة مفرحة ومبشرة على هذا السؤال تناقض استنتاجاتي بخصوص دروس الماضي الارتري. اجابة تنسف مخاوفي وافتراضاتي نسفا كاملا، ولا تبقى لها من أثر، وذلك باستخدام الحجة الدامغة، والعبارة الدالة والمنطق السديد؛ بما يبدد المخاوف ويثبت في روعنا أن هذه الرؤية ليست سوى مخاوف لا أساس لها. وأتمنى ألا تكون الإجابة كذلك نوعا من التخدير المطمئن وتحويل النظر إلى اتجاهات صارفة عن الخطر المحدق. علما أننا نقر تماما بتواجد أخطار “خارجية" ربما أكبر وأشرس مما شهدته البلاد في تاريخها الماضي، ولكن يظل السؤال: كيف حال المناعة؟


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى