عصري فياض - مخيم جنين..

ما هو السر الذي يجعل هذه البقعة التي لا تتجاوز كيلومتر مربعا ونيف، وتحمل فوقها نحو 19 الفا من السكان بهذه المكانة الوطنية المقاومة وتحظى بكل هذا الاهتمام ؟؟
الجواب الاقرب للحقيقة هو مزج بين وتفاعل بين إنسان تاريخ وجغرافيا ،فالإنسان هنا جذوره قادمة من ستة وستين بلد وقرية ومدينة وخربة مهجرة في الداخل المحتل،وهذا التنوع الواسع والممتد من يافا إلى بيسان مرورا بحيفا والجليل، وقد شكل هذا التنوع الواسع التفاعل بين إنسان الانسان في المخيم مع طول الزمن شخصية ثرية بالعادات والتقاليد وبناء الشخصية والصفات الاصلية والمكتسبة،هم لاجئون جمعتهم نكبة،فضللتهم بفصول معاناتها،فصهرت بينهم الفوراق، وصلّبت بينهم الروابط،فتزاوجوا، وتقاربوا،وتكاثروا، وأنتجوا أجيالا،أكثر كسبا في المهارات الانسانية،وأشد تفاعلا في الملمات والتكافل.
هذا من ناحية التحليل الفلسفي إن جاز التعبير إنسانيا، أما تاريخيا،فلكون هذا المخيم،يقع في أقصى شمال الضفة ألفلسطينية وهو شعاع لقوس واسع من التنوع الجغرافي والفردي والجغرافي،فقد تأثر برموز الثورة الفلسطينية التي سبقت النكبة،مثل الشيخ فرحان السعدي،وعز الدين القسام، وأبو درة جرادات، وعبد الرحيم محمود، والشيخ عطية، وأبو جلدة، وغيرهم من القادة التي كانت جنين ومحافظتها خزان ثورتهم ، وطريق تحركاتهم، وبالتالي كان التأثير قريبا ومباشرا وقويا وكبيرا، أضف إلى ذلك أن جيش الانقاذ، والجيش العراقي، كان لجنين في صولاتهم وجولاتهم مع العصابات اليهودية مكانا بارزا شجع المتطوعين للانضمام لتلك المعارك ومنها حرب عام 48، وما قام به الجيش العراقي والمقاتلين والثوار في جنين من خوض جولات عنيفة وقاسية ضد جيش الهاغانا وشترين،فضلا عن قرب جنين على كل من سوريا ولبنان، الامر الذي سهل التعاون بين الثورة الفلسطينية والثوار الفلسطينيين في منطقة جنين وكلا من الثوار في سوريا ولبنان، ومراكز الدعم اللوجستي والمالي،فقبل النكبة وبعدها وما عرف بمكتب الـ23 في دمشق قبل إنطلاق الثورة الفلسطينية الحديثة،كما كان للحدود الواسعة لمحافظة جنين والممتدة من جنوب يعبد وغربها الى شرق رابا وطوباس والمطلة مساحة واسعة لمناوشة العدو خلال فترة الحكم الاردني، أي قبل عام 1967، أضف إلى ذلك قيام الحكومة الاردنية قبيل حرب حزيران بجرد ملكية الاراضي الفلسطينية من شمال مدينة جنين حتى مفرق دير شرف، واصدار صكوك الملكية لاصاحبها من أجل منع المحتلين لاحقا من السيطرة عليها ومصادرتها،الامر الذي يفسر قلة المستوطنات في محافظة جنين قياسا مع باقي المحافظات، حيث توقف ذلك الحصر وفرز التمليك عند منطقة دير شرف ابان اندلاع حرب حزيران من العام 1967.
أما جغرافيا،فالمخيم تضارسيا تقع على تلتين يعلوهن تلة ممتدة تسمى الجابرايات، ويقع في شماله ارض هي طرف أو ضفة من ضفاف مرج بن عامر،وهذه التضاريس،التي رسمت احياء وحواري وبيوت المخيم من الشرق في ارتفاع وهبوط ثم ارتفاع ثم هبوط ثم انبساط في الشمال وعلو مخفي في غالبته في الجنوب، هذه التضاريس ساهمت بشكل كبير في أحداث المخيم، وكان عاملا إيجابيا لصالح المقاومين على الدوام،حيث لا توجد نقطة ما في المخيم يمكن الوقوف عليها والسيطرة من خلالها على كل المخيم.
هذه العوامل الثلاث، الانسان والتاريخ والجغرافيا،أوصلت المخيم إلى ما هو عليه تباعا وتراكميا منذ الاحتلال في العام 1967، وحتى اليوم،ففي اليوم الثاني لحرب حزيران، ارتقى أول شهيد في الحرب في المخيم المغترب العائد لتوه من المانيا عبد الله عطية تركمان، ولم يقف عداد الشهداء لغاية الان عند الرقم 370 شهيدا.
وكانت معركة مخيم جنين الشهيرة في نيسان من العام 2002، هي المحطة الابرز في تاريخ المخيم، المعركة التي دامت إحدى عشر يوما متواصلا،واسفرت عن ارتقاء 63 شهيدا من المخيم ومن لجأ له للدفاع عنه نصفهم من المقاتلين والنصف الاخر من المدنيين، وجرح نحو سبعين، وأسر 135 مقاتلا ومناضلا، في حين تكبد الجانب الاسرائيلي حسب الاحصائيات الرسمية التي نشرتها الصجف والاعلام العبري 28 ضابطا وجنديا ، منهم 13 من خيرة قوات النخبة واصابة 147 جنديا آخر بجراح مختلفة، هذه المعركة جاءت بعد أن ارهقت المقاومة بشتى فصائلها الاحتلال بعمليات فدائية في العمق " الاسرائيلي"، كان منطلق معظمها مخيم جنين الذي شكل حاضنة لفصائل العمل الوطني والاسلامي، ناهيك أن ما قدمه شعب المخيم لتلك الفصائل غير مسبوق في كل المحافظات والمدن والمخيمات الاخرى،فقد بلغت التضحية الشعبية لأهالي المخيم بتسليم مفاتيح البيوت للمقاتلين طوعا بالرغم من معرفتهم المسبقة انها ستكون معرضة للدمار والهدم ودون معرفة ما إذا كانوا سيعوضون لاحقا ام لا، وهذا بحد ذاته قيمة وطنية عالية، وانتماء وايمان لحاضنة لا تقل إصرار عن نفوس الشبان المضحين.
أما اليوم، وبعد نحو تسعة عشر عاما عن معركة المخيم، وما اسفرت عنه من نتائج،فقد ولد جيل جديد لم تحفظ ذاكرته تلك الاحداث لأنه قد يكون لم يولد بعد أو حديث الولادة، إلا انه قد يكون قد شرب بعقله صورة وحكايا ما جرى، وبالتالي،خلقت في وعيه ووجدانه صورة التحدي التي كانت،وأراد لها التواصل والاستمرار متأثرا بعوامل كثيرة منها شواهد قبور الشهداء، واحتفالات احياء ذكرى المعركة، والحفلات الكبيرة للاسرى المحررين الذين خاض عدد كبير منهم هذه المعركة فأصبحوا رموزا للاجيال الصاعدة، حتى صور و"بوسترات" الشهداء والاسرى التي تتسابق الفصائل في تعليقها على الجدران كانت ولا زالت عوامل تثقيف وتوجيه وزرع للقيم الوطنية في هذا الجيل الذي بدى وكان جيناته الوراثية أكثر إقداما مما سبقه، وقد تجلت كثير من الحوادث في التعبير عن تلك الحالة في التصدي لاقتحام قوات الاحتلال للمخيم من أجل تنفيذ اعتقالات لشبان من المخيم وحتى في المدينة والقرى المجاوره، وساهم تجميع هؤلاء الشبان تطور الجوالات وشبكات التواصل الاجتماعي عبر المجموعات التي تتناقل الاخبار بسرعة الريح، وتهب للتصدي خلال دقائق، الامر كان يعيق حملات الاعتقال والمداهمات ويركبها ويصعبها واحيانا يوقع الاصابات والجرحى في صفوف الجيش المحتل، ولعل بروز شرارة التحدي هذه وتوسعها كان على مراحل ضمن السنوات الخمس الفائتة،وصلت ذروتها في العام 2016، عندما ارتقى ثلاثة شهداء في المخيم خلال يومين خلال مواجهات عنيفة، وفي العام 2018 في شهر رمضان وصلت خلالها المواجهات للمسافة صفر حيث القى المواجهون دلاء النفايات على رؤوس الجنود فشلوا حركتهم،كما شهدت عملية هدم منزل الاسير احمد القنبع مرتين حشدا هائلا تجاوز الاف ارتقى في الثاني شهدين،أما المواجهات الاخرى فلم تخف وتيرتها، بل زادات وتوسعت سواء كانت في جنوب مدينة جنين، أو في المنطقة الصناعية، أو في حي الزهراء او الجابريات، أو اثناء مطاردة الشهيد احمد جرار، والأمر الخطير الذي دخل على هذه المواجهات هو دخول السلاح النار الحيّ من قبل بعض المسلحين بعدما كانت المواجهات في السابق أي ضمن السنوات الخمس تعتمد على الحجارة والطوب والعبوات محلية الصنع التي تعرف شعبيا "بالاكواع".
لقد كان السادس عشر من اب المنصرم نقطة تحول في اشتداد عود المخيم،فبعد مواجهات دامية وارتقاء اربع شهداء في اقل من ساعة، بعد ايام في استشهاد ثلاثة آخرين هم الشهيد جميل العموري وشهيدي الاستخبارات العسكرية، لم يدخل جيش الاحتلال مخيم جنين منذ نحو اربعين يوما وهذا امر غير مسبوق منذ اكثر من عشر سنوات،كما كان لعملية نفق الحرية، وهي تمكن ستة أسرى من نيل حريتهم لبعض الوقت عامل شد للمقاومين في المخيم خاصة وان احد الاسرى هو من المخيم وهو زكريا الزبيدي الذي يعتبر رمزا للأجيال الشابة في المخيم والمحافظة والوطن، وإن ما يقال اليوم على لسان وزير الحرب الاسرائيلي بيني غانتس للقناة الثالثة عشر العبرية "أن الاسيرين الاخريين قد امضو سبعة ايام في المخيم ولم نجرأ على الدخول اليهم هناك وانتظرناهم حتى يخرجوا من المخيم"، وتصريحات رئيس اركانه أفيف كوخافي الذي قال "لا يوجد مدينة او مخيم في الضفة اشرس علينا من مخيم جنين"،لهو دليل على طبيعة هذه المنطقة وسكانها، ودليل على أن نحو تسعة عشر عاما من معركة المخيم لم تقضي على المخزون الوطني، وقيم التحدي لشباب المخيم بكافة قواه وتوجهاته التي يميزها ضعف الاستقطاب الفصائلي، وتجمعها اللحمة الوطنية في الميدان لحد يكاد يقارب الانصهار.
هذا هو مخيم جنين الوطن المعنوي للتحدي والمقاومة، والذي يحتل اليوم الاعلام العبري، ويأخذ قسطا كبيرا من تصريحات المسؤوليين " الاسرائيليين " امنيين وعسكرين وسياسيين، في الحقيقة ما هو الا مكان فلسطيني لا يختلف عن غيره إلا بشيء من الحرية والرفض والإصرار والصلابة والإقدام والتضحية.
• كاتب فلسطيني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى