فتحي عثمان - صندوق الفكر بين الحشر والخروج

نتداول عبارة تحث على التفكير بشكل مغاير بالقول: "فكر خارج الصندوق". هذه النصيحة أو الإشارة في الغالب تحيل إلى التخلي عن "السائد" من أساليب الفكر؛ خاصة من ناحية الأسلوب أو حتى المضمون كذلك. يمكن تفكيك مضمون هذه النصيحة عبر قلب النظر إليها بمحاولة تناولها من زاوية الحشر في الصندوق وليس الخروج منه؛ لأن الحشر يسبق الخروج منطقا وفعلا.
فتقديم الخروج على الحشر في الصندوق يستبطن "وجود قبلي" وإقرار مؤداه: أن الجميع محشورين في صندوق من "أنماط التفكير" وعليهم الخروج منه.
ولكن: ما أو من الذي حشر الناس أساسا في هذا "الصندوق"، وقد ولدتهم أماتهم أحرارا بعيدا عن الصناديق؟
في محاولة، لا يعبر عنها تماما، مثل ما نعبر عنها في هذا المقال، يقول توين فان دايك المتخصص الحاذق في الدراسات النقدية للخطاب في كتابه المتاح "الخطاب والسلطة" الصادر في عام 2014 عن المركز القومي للترجمة والذي ترجمته غيداء العلي، يقول فان دايك: "ربما لا نستطيع التحكم في "كيف" يفكر الناس، ولكن يمكن على الأقل التحكم "فيما" سيفكرون به."
على مستوى تفكيك أولى لهذه العبارة "الإقرارية" يمكن القول أن السيطرة على "الكيفية" التي يفكر بها الناس صعبة؛ ولكن عبر تحديد "محتوى ومضمون" ما يفكرون به يمكن السيطرة على تفكيرهم. وعلى مستوى أعمق يمكن القول أن "الحشر" في الصندوق لا يتم عبر الأسلوب بل عن طريق تحديد "مضمون" أو الأجندة التي نفكر فيها.
قد يشمل ذلك المستويات الأرسطية، نسبة إلى ارسطو طاليس في تحديده لرقى العقول، إذ يحدد، إن جازت نسبة العبارة إليه، ثلاثة مستويات لرقي العقول: أولها العقول الكبيرة التي تناقش الأفكار، وثانيها العقول المتوسطة التي تناقش الأحداث، وآخرها العقول الصغيرة والتي تناقش الناس. هذه المستويات الثلاثة باختلاف درجاتها واختلاف ما تجنيه من ثمرة أو سمعة موجهة نحو مشاغل او موضوعات أو "محتوى" خارج الذات.
هذه المشغوليات الفكرية عبر تحديد المحتوى هي المستوى الأول "للحشر" في الصندوق.
مع التغاضي، المقصود، عن حكم القيمة حول "قيمة" ودرجات "سمو" العقول فإن التوجيه هو نحو المحتوى في الأساس، فحتى على المستوى الممدوح الأعلى وهو مستوى "الفكر" لا يمكن أن يسلم من شقوق باعتبار أن بعض الأفكار فاسدة أو ضارة من الأساس.
لنضع هذه المقاربة على أرضية الواقع لنتحسس كيفية صنع المحتوى والحشر في الصندوق عبر تتبع صنع المحتوى في المشهد السياسي الارتري الداخلي، وهو نموذج يشابه ويخالف بدرجات النماذج المحيطة بارتريا.
يحتل منتصف الدائرة من المشهد السياسي الداخلي لارتريا ديكتاتور غاشم؛ هذا الديكتاتور هو "متصرف" وحيد في أبعاد المشهد السياسي، ويحدد مخرجاته من سياق "كونتكست" أو خطاب "ديسكورس"، وينشغل أكثر بتطريز حواف السياق مهمشا عملية انتاج "الخطاب".
من أجل ذلك يقوم في الخطوة الأولى وعبر صناعة "الحدث" بصنع الصندوق وتحديد المحتوى داخله، ثم يقدم وبقدر "يسير ومحسوب" الخطاب الشحيح المرافق للحدث هو مكتوب ومقروء معا وعلاماتي في نفس الوقت؛ وعن طريق تقديم الخطاب "الضعيف" يمكن وعبر صناعة الحدث السيطرة على السياق الذي هو صندوق "حوارنا". لتتضح الصورة أكثر، إذا أخذنا قراره الأخير بالتدخل العسكري الحاسم في الحرب في اثيوبيا؛ لوجدنا أن "الحدث" يحتل صدارة المشهد، ولكن "المبرر" يتراجع إلى الخلفية تاركا هامشا للتحاور او التشاكس، خاصة في الخارج. فالخطاب الرسمي شحيح في رفد مبررات التدخل؛ وبهذه الخطوة يفتح الديكتاتور فتحات تهوية في الصندوق الذي ينوي حشر الآخرين فيه حتى لا يموتوا اختناقا بدل أن ينشغلوا ب "الجدال أو الحوار". ويعطي هذا التفاعل اللاحق للحشر الخصوم والمؤيدين فرصة صنع الخطاب للفعل داخل الصندوق المحكم الإعداد إما برفض التدخل أو بتأييده وهنا ينجح الديكتاتور في "حشر" الجميع في الصندوق عبر تحديد "محتوى" ما يجب أن يفكروا فيه وذلك عبر: أولا: صناعة الحدث؛ ثانيا: تقطير الخطاب الرسمي لخلق خطاب مواز داخل الصندوق.
يمكن التمثيل لهذه الوضعية بقيام "شيف" بإعداد كيكة الجزر بنكهة الهيل لمجموعة من طلاب وطالبات الطبخ وصناعة الحلويات. يحدد "الشيف" الهدف او "الحدث". يعطي الشيف "الحرية" للطلاب والطالبات في تحضير المكونات الطازجة لتجهيز الكيكة.
تتيح هذه الحرية للطلاب والطالبات التطوع لإحضار المكونات. يقوم طالب بالتطوع لإحضار البيض الطازج من مزرعة العائلة، وتتطوع طالبة بتوفير الحليب من مزرعة الجيران، ويقوم آخر بإحضار الدقيق من مخبز والده المتميز في المدينة وكذلك الزبدة والجزر وبقية المكونات.
كل هؤلاء يخططون ويعملون ضمن هدف أو "محتوى" محدد سلفا. لنأخذ طالب رفض المشاركة في اعداد هذه الكيكة؛ لأن ذلك ليس أولوية تعليمية مقارنة بأعداد الدجاج واللحم.
سيعد هذا الطالب خارجا عن "الصندوق" او الحشر القسري فيه، ويمكن وسم عملية خروجه من الصندوق أو رفضه الحشر فيه من الأساس بكونها عملية "مارقة" مثلما يوسم كل تمرد على التموضع القسري بتلك الصفة. هذه المقارنة لا تغيب الحرية "المتوهمة" التي ترفرف اعلامها على خلفية المشهد؛ إذ يتصور البعض أن إمكانية "الحوار والتجادل والتشاغب" داخل الصندوق هي نفسها حرية؛ بتوهم أن فتحات التهوية تمنع الموت اختناقا.
لذلك نجد أن الديكتاتور وعبر "تقطير" الخطاب المغذي للسياق يخلق هامش حرية متوهم في الخارج وليس الداخل ليوهم المحشورين في الصندوق بأن "افق" صناعة السياق مفتوح
ولكن ما يفوت على الكثيرين أن المعركة داخل الصندوق تم أعداد مكانها وتصميمه بغرض إحداث انصراف كبير نحو غايات وأهداف تم تحديدها سلفا وعلى رأسها إطالة أمد البقاء في السلطة عبر تمكين بعض المحشورين في الصندوق بالمساهمة في صنع سياق الحدث، وليس صناعة الحدث ذاته؛ ومن ثم الإسهام في حياكة الخطاب والسياق اللذان يطيلان أمد الطغيان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى