عثمان الشيخ - الخروج من بوابة الجسد.. قصة قصيرة

في غد ٍ يَعْرِفُ عنّا القَادِمونْ
أي حبٍّ قدْ حَملنَاهُ لهمْ
في غد ٍ يحسِبُ فيهم حاسبونْ
كمْ أَيادٍ قُدّمتْ مِنَّا لهُمْ
في غدٍ يحكونَ عن أنّاتِنا
وعن الآلامِ في أَبياتِنا
وعن الجُرحِ الذي غنّى لهمْ
كلّ جُرْحٍ في حنايانا يهونْ
(الشاعر السوداني/صلاح احمد ابراهيم)

تتحرّكُ ببطءٍ صوبَ البوّابةِ الخلفيةْ. وأنتَ خلف كافتيريا الجامعةْ، زاحفاً على ساعدينِ داميّين، ورأسُكَ يَنزِفْ. يُداخِلُكَ دُوَارٌ خفيفٌ تكادُ تتلاشى معه الرؤيةُ من أمامكْ، ويُغالبُكَ شعورٌ ثقيلٌ بالتقيّؤ وإفراغِ ما بداخلِ معدتك التي لم تتناول فيها شيئاً منذ الامسْ، سوى رغيفٍ بالجُبنِ، أكلته في باحةِ السكنِ الداخليْ، وكوبُ شايٍ صباحيٍّ عند العم (محمد). تواصل الزحفَ واهناً، ورائحةُ دوراتِ المياهِ القذرةِ وبقايا الطعامِ الجافة ِ والمتناثرةِ حولَ المكانِ تزيدُ الأمرَ سؤاً.
الغازُ المسيّلِ للدموعِ يلفُ تجويف المكان ْ، ليجعلَ عينيكَ مشتعلتينِ بالحرارةْ، ووجهكُ يفورُ كقطعةِ خبزٍ داخلَ فرنْ. تغالبُك يداكَ على فركِ عينيكَ ولكنك تتذكرُ كلامَ المتحدثِ بألّا تلمسهما، عليك فقط بوضعِ صفق النيمِ أو قطعة قماشٍ مبللةٍ بالخلْ.
وأنت هنا ليس حولكَ غير الاوراقِ الممزقةِ وبقايا الطعامِ القذرةْ، لا شخص يأخذُ بيدكَ ولا نيمةٌ قريبةْ.
يتنامى الى سمعِكَ صوتُ الهُتافاتِ من بعيد ْ ( وحدة قوية.. طلّابية) يتقاطعُ مع صوتِ هتاف آخر( ألله أكبر ... ألله أكبر) تختلطُ الاصواتُ بضربٍ وصراخٍ من جهةْ، وهتافٍ وتصفيقٍ من جهة أخرى. وأنت لا تستطيعُ تمييز شيءٍ، فقط تزحفُ بصورةٍ متعرجةٍ لتخرجَ من كلِّ هذا الصخبْ.

* * * * *

بدأ الامرُ صباحاً، عندما تجاوزت بوابةَ الجامعةِ إلى الداخلْ، ولاحظت شئياً غريباً، حيث وقف بعضُ الطلابِ في الجهةِ الشماليةِ من الممرِّ الرئيسيِّ وهُم يتحدثونَ في غضبٍ عن شيءٍ ما لم تُدرِكه أُذنيكَ، يتطايرُ الرذاذ من أفواههِم مثل إناءٍ على نارٍ مشتعلةْ. يلوِّحونَ بأيديهِم في اتجاهاتٍ مختلفةٍ. وتخرجُ أعمدةُ الدُخَانِ من أفواههِم وهُم يُدخِّنونَ سجائرهم، ومن تحتِ أرجلهِم وهُم يضرِبونَ الارضَ، تتصاعدُ أعلى رؤوسهم لتتشكل وكأن الشيطانَ يحلّقُ فوقهُمْ .
أعينُهم كانت تضجُّ بغضبٍ عارمٍ فتستحيلَ الى قطعٍ من الجمرِ مستقرةً في محاجرهِمْ، وأجسادهم النحيلة ترتجُّ داخلَ ملابسهم الرثَّة.
تصلك أصواتُهم متقطعةً وأنت لا تعرفهم جميعاً غير (سيد) الذي التقيته وأنت تُكملُ إجراءاتِ تسجيلك قبلَ شهرْ، كان لطيفاً معكْ. أرشدكَ الى مكتبِ المسجلْ، وأكملتما اجراءات التسجيلِ بالسكنِ الداخليْ. لم تلتقيا بعدَ ذلك الا على فتراتٍ بعيدةٍ ،أهداك كتاباً ذاتَ مرهْ، وحدّثك عن الجامعةِ وشيءٍ اسمُهُ الاتحادْ. حكى لك عن النشاطِ وحذرك من أشرارٍ يضرِبونَ كلَّ مَنْ يختلفُ عنهمْ. كانتِ الدهشةُ تملؤك من كلِّ هذه الحكاياتْ، للحدِ الذي جعلك تتفادى لقاءَه.

******

تواصل زحفُكَ نحو البوابةْ، وذاكرتُك ما زالت تستحلِبُ الأشياءَ من ضرعِ الالمْ، فبعد أن تجاوزت الطلابَ في الجهةِ الشماليةِ من الممرْ، الطلّابُ الحانقينَ الذين يلوّحونَ بأيديهم في اتجاهاتٍ مختلفةٍ، وأعينهم تضجُّ بغضبٍ عارمْ. جلست لتشربَ شاي الصباح عند العم محمد والذي بعد أن حيّاك بابتسامةٍ جميلةٍ، قائلاً: ( الليلة الجامعة دي فيها كركبة).
قالها وارتسمتْ على عينيه نظرةٌ غامضةٌ فيها كثيرٌ من الاشفاقِ، بادلته الردَ بإبتسامةٍ فاترهْ. أنهيت كوبَ الشاي بسرعةٍ وكلماته تدقُّ في رأسك كطبولٍ إفريقيةْ.
لملمت دفاترك سريعاً وذهبت للقاعةِ في انتظار المحاضرْ. بدأ زملاءُك بالدخولِ واحداً تِلو الآخرْ، امتلأت القاعةُ المخصصةُ للطلابِ الجُدُدْ، ولم يحضرِ المحاضرْ. أطبقَ صمتٌ مهيبٌ عليكم عند سماعِكم نِقاشاً في الخارجْ، ولكنّ أحداً لم يدخلْ، دام الصمتُ لمدة طويلاً.

*****

قميصكُ الازرق تلطخَ بالدماءِ والقاذوراتْ، وحذاءُك الاسود اهترأتْ مقدمته بفعل الزحفْ. تُرسِلُ عينيك يميناً ويساراً باحثاً عن شجرةِ نيمٍ تُخفِفُ عنك أثر الغازِ المُسيِّلِ للدموعْ. الصياحُ يزدادُ هناك، الرعبُ يجثم ثقيلاً فوق صدرٍ الجامعةْ، وكأن مَلَك الموت يتجوّلُ هنا. زملاؤك يركضونَ بذعرٍ في كل الاتجاهاتْ. تأتيك في هذه اللحظاتٌِ دعواتُ أُمِك ووصاياها وأنت على أُهْبةِ السفر ( لا تذهب مع الغرباءْ، ولا تُؤذي أحداً، وإذا حدث شيءٌ أنت لست ضلعاً به فلا تمكث في مكانك واهرب).
تتذكّر تلويحك لإخوانك الصغار وأنت تخترقُ الظلامَ مغادراً نحو المجهولِ وفي عينيك إشارةُ أملٍ بأن تعودَ إليهم.
تزحفُ ببطءٍ وأنفاسُك تُثيرُ الارضَ تحتك ويكسو وجهك الغبارْ.

******

لم تبقَ أمامك سوى أمتارٍ قليلةٍ للوصولِ الى البوابةْ. الجميعُ يهرعونَ ذاهلينَ إلى الخروجْ. الفتياتُ يتزاحمن على البوابةِ مع الفتيانْ، وأعينهن تصنع أنهاراً من الدموع على أوجههنّ الحزينةْ.
تختلطُ الأصواتُ التي تحفزكم على البقاءِ والثباتِ مع صوتِ تساقُطِ الحِجارةِ وصياحِ الفتيّاتْ. تقف متحاملاً على رجلك اليسرى تنتظر فرصةً ما لتخرجْ. عيناك تسيلانِ بلا توقفْ، تبدو لك شجرةُ نيمٍ صغيرةٍ جوار البوابةِ تهم بالاتجاهِ نحوها.

*******

تلمحُ الشخصَ الذي أخرجكم من المحاضرةِ وكسرَ صمتكم الطويل بقوله إن هناك أمرٌ مُهِمٌ سيكونُ في ساحةِ النشاطْ. وهو أيضاً الذي ابتدر الكلامَ بأبياتِ من الشعرِ ألهبت حماسَ جميعِ الواقفينْ، فصفقتم له بقوةٍ تحركت معها الأشجارُ التي تقِفونَ تحتها.
إنتقل للحديثِ عن الظلمِ والقهرِ والحريةْ، وعن الجامعةِ والدراسةِ والمستقبلِ واتحادِ الطلابْ، وعن الآخرينَ الذين لا يريدونَ الخيرَ الا لأنفسهم أولئك الذين يحسبونَ أنهم لن يتزوجوا نساءاً من الأرضْ. وأنت تقفُ متجمداً من الخوفْ، وقلبُك يخفِقُ بقوةٍ ويكادُ يخترقُ صدركْ.
أعينُ زملائك تتحركُ بقلقٍ، يُغالِبونَ ذلك الشعور بالتصفيقِ والهتافْ.
صعدَ المتحدثُ الثاني على الكرسي، إنه ذاتَ الشخص اللطيف الذي قابلته أيام التسجيلْ، تحوّل الآن إلى كُتلةٍ ملتهبةٍ من اللحمِ، يصرخُ كأسدٍ جريجٍ فتهتزُّ الأرضُ تحتنا، يسردُ في حكاياتٍ سابقةٍ حدثتْ هنا هي ذاتها الحكايات التي حكاها لك من قبل، وعن بطولاتٍ لأشخاصٍ غير موجودين ولكن سيرتهم تملأ المكانْ. إمتدَّ حديثه طويلاً وحدثكم عن كيفيةِ التعاملِ في مثل هذه المواقفُ،... ونزل.
صعد المتحدثُ الثالثْ، والذي كان هادئاً في حديثه ودقيقاً فيما يقول، متزناً كشيخ هرِمْ، حدد نقاطاً واضحةً عليكم الالتزام بها. وقبل أن يختِم حديثه داهمكم آخرونَ لم يكونوا واقفينَ معكم، ولكنهم يلبسون نفس ملابسكم ويجلسونَ معكم في قاعاتِ الدروس، تميز أشكالهم فهم ذاتهم الذين ينامونَ جواركم في السكنِ الداخليٍّ يأكلون الخبزَ بالجبن ويشربونَ شاي العم محمد.
ترتفع أصوتهم وهم يكبّرونَ، اخترقوا جمعنا كالبغالِ غير المروضةْ وسياطٌُ من الغضبِ تصفعُ مؤخراتهم... وبدأوا بالضربِ... هرعتم كلٌ إلى اتجاه... حاصرك اثنانُ منهم ضربك الأولُ في مقدمة رأسك، والآخرُ على ظهرك ويدك اليمنى. صوتٌ حادٌ وغاضبٌ يحثّكم على الثباتْ، ولكن قسوةَ الضربِ كانت أكبرَ من طاقةِ الاحتمالْ... انطلق بعدها غازٌ حجب الرؤيةَ وأسال الدموعْ.

*******

الآن بينك وبين البوابةِ وشجرةِ النيمِ التي لمحتها مسافةٌ قليلةْ، تجرُّ رجلك اليمني متحاملاً على اليسرى، وتستندُ بيدك اليمنى النازفةِ على الحائطْ. ويزدادُ الهرجُ حول البوابةِ، يسقط شخصانِ أمامك، وآخران بالخارج، تدوسهم الاقدامُ... خُطوتان وتكون بالخارجْ....
تَمدُ يدك لتأخذ من شجرة النّيم، لكنها أبعد من أن تنالها أصابعك، تبدو لك كالشجرةِ المحرّمة التي لا يُمكن لمسُها. تقف على أصابع قدمك ثم تقفز ...تخترقُ رصاصةٌ جموعَ الهاربينَ وتستقرُ في صدرِك النحيلْ... تشهقُ كمَنْ لم يذُقْ الماً من قبلْ... وتصرُخُ بصوتٍ أرعب الطيورَ التي على الاشجارِ البعيدةْ. تسقُطُ مرتطماً بالأرضِ كحائطٍ سقط وقد حاصرته المياهْ. يلتف حولك الجميعُ، يحملونك وهم يهتفونَ، وأنت لا تكادُ ترى شيئاً، يتلاشى حيز الوعي عندك، دخلت الرصاصة من خلفكَ، وصعدتَّ أنت الى بوابة السماء.

عثمان الشيخ خضر ــ السودان




* االقصة الفائزة بالمرتبة الأولى لمسابقة فن السرد في دورتها الأولى.
  • Like
التفاعلات: عفراء فتح الرحمن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى