محمد السلاموني - موت المسرح.. (الجماعة والمعنى)

نحن الآن لا نرى المسرح ولا حتى جثته أو وهمه أو سرابه، بقدر ما نرى صورة مستنسخة أو منمذجة منه (فوق – واقع : Hyperreel) ؛ فقد تجاوز مرحلة الموت الفعلى، ولم يتبق منه سوى إعادة تدوير أنظمته المرجعية- تلك التى تمَّت تصفيتها طوال السنوات الماضية- لتعمل ضده هو نفسه / أى أننا نحيا الآن فى زمن بعث الأنظمة المرجعية (المسرحية) ، بعد تجريدها من سلطتها القديمة وشحنها بالإصطناع المبرمج.
يتحدث (بودريار) عن أن هذا المنحى العام الذى يشمل الواقع بأكمله ، ليس المقصود منه (محاكاة و لا تكرارا و لا حتى مسخرة . بل المقصود إستبدال الواقع برموز عنه ، أى بعملية ردع لكل سيرورة واقعية ببديلها الإجرائى) ..
[1] فى الوقت الذى تشهد فيه الظاهرة المسرحية تزايدا ملحوظا فى عدد الفرق ، فإنما تشهد أيضا تزايدا ملموسا فى حجم الإنصراف الذى يبديه الجمهور عن متابعة الإهتمام بفن المسرح!..
هذا وبينما لم يعد المسرح جزءا من المشروع الحضارى العام ، الخاص بالمجتمعات المعاصرة ؛ إذ فقد كمية كبيرة من سلطتة التاريخية القديمة (فى صناعة المعنى الذى يحتاج إليه المجتمع) .. سنجد أن المسرح ذاته - عند المشتغلين به- صار هو (المكان الرمزى الدال على المعنى الجمالى) ، وبتعبير آخر ، المشتغلون بالمسرح (الآن) يقيمون مع العالم علاقة وجودية ذات كثافة جمالية - لذا فما أعنيه بإصطلاح (المعنى المسرحى) هنا ، ليس (المعنى الإجتماعى) الذى يسعى المتلقون عادة لإستخلاصه من العرض ؛ ويصطلح النقد على تسميته بـ (المضمون أو المحتوى أوالخطاب ... إلخ) ، كما أن المعنى المسرحى الذى أقصده ليس هو (المعنى الجمالى) المتعلق بالشكل المسرحى ، أى ليس هو النظام القيمى الجمالى الذى ينتسب إليه العرض ، وإنما هو المعنى المحايث للنوع المسرحى ذاته ؛ ذلك الذى أرجعه أرسطو إلى (غريزة المحاكاة) ، وأفرينوف إلى (غريزة المسرحانية) ، وعدّه يوسف إدريس (ظاهرة بيولوجية حيوية تدفع الناس بعد انتهاء العمل واكتفاء غريزتى الوجود وحفظ النوع أو حتى من أجل إكتفائهما إلى غريزة التجمع بلا سبب فردى أو ذاتى وإنما بتأثير الغريزة الجماعية فى كل إنسان وتلبية لها...]، أمَّا وظيفة الإجتماع الإنسانى الذى يتحقق من خلال ذلك التجمع - الغريزى - كما يقول ، فهى [الشعور بالأمن الجماعى الذى يدفع كل فرد إلى نسيان خوفه الفردى ومنغصاته الذاتية وقلقه على وجوده الخاص] ، ويضيف : [شعور يشبه كثيرا أسطورة البجع المسحور الذى كان يتجمع وعند البحيرة تخلع كل بجعة غطاءها الخارجى كبجعة ويلتئم شمل الحوريات الخارجة ليرقصن ويمرحن ويستحممن معا . فى التجمعات الإنسانية التى تحدث بلا سبب معيشى أو جنسى يحدث نفس الشئ و يخرج كل فرد فى الجماعة من ذاته الخاصة وتلتقى الحوريات مكونة الذات الكبرى للجماعة كى تمرح وترقص وتنعم بكل ما يولده شعور الأمن الجماعى من نزوات] ، ويضيف أيضا : [هنا فى اللقاء باستطاعة كل فرد أن ينظر فى ذاته دون خوف وأن يسخر منها وأن يتحرر من قبضة خوفه الدائب عليها ويصبح أكثر حرية وتبدو له خصال أخرى فيزداد كرمه ورغبته فى السخاء على إخوته الآخرين ويصبح أكثر إستعدادا للتضحية وبذل النفس إلى آخره]..
هكذا ، فموت (مبدأ الواقع) - الذى أشرت إليه فى كتابات سابقة - و عجز الدولة المعاصرة عن إنتاج المعنى الذى يحتاج إليه المجتمع ، أفضى به - أى بالمجتمع - إلى البحث عن المعنى بنفسه لنفسه ؛ مما أدى إلى إنقسامه إلى (جماعات - قبائل) : جماعة دينية وجماعة رياضية وجماعة سياسية وأخرى إقتصادية... إلخ ، ومن ضمن تلك الجماعات (الجماعة المسرحية) ؛ تلك التى تحوَّل المسرح بالنسبة إليها إلى معنى المعانى كلها ؛ فهاهم المسرحيون يسعون بدأب لمزاولة المسرحانية باعتبارها هى معنى وجودهم نفسه. مما يضعهم كجماعة فى مصاف (الجماعات المتخيـَّلة) ؛ وهى تلك التى تحظى بوجود واقعى وتمتلك أدوات واقعية أيضا ، لكنها تتبنى مشروعا خياليا ؛ ذا طبيعة (جمالية) هذه المرة..
هذا وفكرة الجماعات المتخيـِّلة ، التى أشار إليها بندكت أندرسن فى كتابه الموسوم بذات الإسم – على ما يبدو لى - لا تقف عند حدود الجماعات السياسية أو الدينية المنتمية لتصور خيالى ما عن (القومية) ، بقدر ما تتجاوزها لتشمل كل جماعة ينبنى وجودها على تصور خيالى ما ، سياسى فى جوهره..
هذا و (الجماعة المسرحية) ؛ وأعنى بها الدائرة الكبرى التى تضم فى طياتها جميع المشتغلين بالمسرح ، وفقا لهذا المفهوم ، تعد جماعة متخيـَّلة ، وعلى الرغم من الطبيعة الجمالية للمشروع الذى تنتمى إليه ، إلا إنه (جمالى - سياسى) فى الأساس ، كما سنرى ..
وللحديث بقية ..



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى