فاطمة مندي - من نافذة القطار

جلس العجوز مع ابنه الذى يبلغ من العمر العشرين في القطار ، تمتم القطار يشي بعجلات المغادرة، من نافذته ينظر الشاب فى دهشة، تلونت تقاسيمه مع كل ثانية، ما بين دهشة ، سعادة ، إستغراب ، تتسع حدقتاه ، تستدير ، تغلق ، تفتح ، يحدق هنا وهناك يقف من ثبات ، يجلس ، يندهش عما يدور حوله

تظهر البهجة والفضول على وجه الشاب،
يخرج يداه من النافذة، يشعر بمرور الهواء، ينظر الي الخلف يصرخ يصيح: أبي انظر جميع الأشجار تسير خلفنا، يضحك بصوت مرتفع، ويضع قبلة على رأس والده.
يبتسم العجوز متماشياً وسعيداً مع فرحة إبنه.
أمسك بيده ضغط عليها بقوة وجهه تكسوه سعادة ورضا، طبع الشاب قبلة حانيه على يد العجوز وعلي رأسه.
فجأة صرخ الشاب: أبي انظر إلى الحقول وما فيها من خضرة وحيوانات، أنظر السحاب تسير مع القطار إنها تجرى خلفنا،
يضحك ضحكات عالية مدوية بريئة.
ثم بدأ هطول الأمطار ، وقطرات الماء تتساقط على يد الشاب يمسح بها وجهه المتلألأ بالسعادة
ويصرخ مرة أخرى : أبي إنها تمطر ، والماء لمس يدي ، انظر يا أبي وقف الشاب وبدأ فى الهتاف.
وقف القطار فى إحدى المحطات، نزل الشاب من القطار ثم رفع رأسه إلى السماء ، وفتح عيناه وهو ينظر إلى السماء وكلتا راحتيه مدها وبسطها لتلقى حبات المطر، فتح فيه ولعق بلسانه ماء المطر وهو يصيح بصوت مرتفع ، فى شيء من دهشة يمتزج بفرح وسعادة وسرور.
صعد مرة أخرى إلى القطار بجانب والده العجوز .
.يجلس أمامهما زوجان، يستمعان إلى ما يدور من حديث بين الأب وابنه، يشعرا بقليل من الإحراج واستنكر ا تصرفات الشاب، التى لا تصدر سوى من الاطفال وتتسم بالبراءة، فكيف يتصرف شاب في عمرة كالطفل؟! أيقنوا منذ اللحظة الأولى أن هذا الشاب يعيش بعقل طفل.
استمر تعجب الزوجان من حديث الشاب مرة اخرى، هالهم دعاء الشيخ بصوت مسموع اللهم لك الحمد والشكر على نعمتك، يارب اشكرك على نعمتك،
وتنهمر دموع السعادة على وجه الشيخ وهو يشكر الله كثيراً ويردد الشكر مرات عديدة .
في هذه اللحظة لم يستطيعا الزوجان السكوت، ولم يستطيعا أن يكتما دهشتهما، وسألا الرجل العجوز معنفان ومستنكران تصرفات هذا الرجل : لماذا لا تقوم بزيارة طبيب والحصول على علاج لإبنك؟!
الا تعلم (انكم راع وكلكم مسؤل عن رعيته) وهذا الشاب كيف تتركه هكذا؟!
قال الرجل العجوز وقد أمتلئت حدقتاه بالدموع : للمحنة صرير أبواب مغمضة، خلفت ورائها تراث معلول ، أقام المرض خيمة ظلل اوتادها اليأس من الشفاء ، وكلما لاح لي بصيص من أمل تنطقني الخيبة بشفاة ذابلة، هذا اليأس من الشفاء صار وجها ملفوفا بالدهشة، صرخات شيبتى أنجبت صبراً وقوة داخل نفسي، وجعلتني اسبت اوتاد الصبر في قلبي، كي أعاود بحثى عن منافذ جديدة من شعاع الأمل، وخطواط اليأس من الشفاء تشي بالرحيل،
إننا قادمان من المستشفى، بعد طول عناء مع المرض وعلاجات لا حصر لها، وقضينا سنوات كثيرة بين الأطباء والمستشفيات، إلى أن هزمني المرض، ونالت السنون من شيبتي وتملكني اليأس وأنهك أوصالي، ونفذت أموالي بين العلاج والأطباء والمستشفيات، والّاّن أراد الله لي الكف عن الدوران فى تلك الدوائر المغلقة، وأرد الله مكافئتي على صبري مع أبني هذا الذى ليس له فى هذه الدنيا سواي ، كانت تتملكني الهواجس من أن يلوح لي قطار العمر بعجلات المغادرة، قبل شفاءه، وأتركه بمفرده، تدهسه عجلات الزمن قبل ان يلوح لي الأمل بشفاءه، ثم بكي الشيخ بكاءاً مريراً أجبر دموع
الزوجان على النزول مواسية وأنتحب الجمع بما فيهم الشاب ثم أردف الشيخ العجوز : إن إبني منذ اكثر من خمسة عشر عاماً قد أصبح بصيراً.

فاطمة مندي



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى