عبدالله قاسم دامي - يا ريتني أنسى العربية.. قصة قصيرة

بدأت قطرات الخريف تتساقط في باحات إسطنبول، ترقص الأوراق في صباحات السكون الخالية من إزدحام الآدميين لعلّ الجميع تعبوا في السهرات الطويلة داخل الحانات التي يعزفن التركيات ألحان العشق بصدورهن العارية، أفخاذ بيضاء وعيون لامعة وراءها قصص الأرياف البعيدة وحكايات القرى الجبلية التي كانت يوما حصون الشرق بأكمله تروي قبورها أساطير الرجال الذين أوسعوا الأوروبيين صفعات الهزائم. هنا كل شيء له معنى حتى النظرات تخبرك باللاءات، لا مرحبا بالغرباء، لا مزيد من العرب، ولا مفرّ من الجميع. الطيور في كل مكان والقطط، وكذلك السياح والسجائر وكنبات القهوة المربعة، مآذنة في كل كيلومترين، صمت رهيب ومارّة مستعجلون. لم تكن رحلتي إلى هنا بقصد معين ولم تكن بلا مقصد، ربما أخذني التيه أوالتعب لأستريح شهرين في آخر حصن شرقي منيع. هنا أجيال تعبر نحو الغرب لمواجهة المجهول وبرودة الشتاء، أنا أمقت الغرب منذ أن قتلت طائرة روسية جدّي الذي كان زعيماً إشتهر بالشهامة والسخاء، لم أعد أطيق الشرق أيضاً بعد أن إفتكّت الحروب آمالي وسرق الفاسدون أحلامي، تخيل أن في وطني تباع المناصب بالعلن.

تزداد وتيرة الأمطار، يرتجف الفقراء واللاجئون برداً وجوعاً، الجميع يحرق سيجارته وينفخها كالبابور، الثلوج قادمة لا محالة، تجد عربياً في كل زاوية، إيرانيا أو باكستانيا، إفريقيا كان أو أسودا، ربما لاجئا أفغانيا هارباً، الجميع يسعى نحو شيء ما أو نحو اللاشيء. هنا في إحدى شبابيك صرف العملات يقف الناس صفاً ليس بطويل كطوابير الخبز لدينا، يقف قدامي شاب عراقي ملتح، سألني بفضول "من وين ؟". أخبرته عن جنسيتي. "دعني أسألك، لما أنتم في جامعة الدول العربية مع أنكم لستم عرباً؟" قلت له بأن الأمر كان مجرد سياسة لا أكثر. "ما لقيتم أحسن منّنا ؟". طمأنته بأنه لم يكن وجود لجامعة الدول العربية أصلا ولكنه أبى الهدوء، بدا غاضباً جدّا "ما عندنا فائدة والله، بس سنة وشيعة ومذاهب وحروب وسياسات قذرة، يا ريتني أبقى ما عربي زيك، بس يا ريتني أنسى العربية". ثم استدار دون أن يكمل مهمته ليشعل سيجارة لعينة تشبه تماما شقاءه وحظي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى