خير جليس خضير فليح الزيدي - سارق الكتب

يكشف التاريخ الثقافي عن الطريف والملفت للنظر في أحوال وأهوال نشأة الثقافة العربية، ظاهرة لصوصية يرفع أصحابها شعارا مثل “خُذْ الكتاب بخفّة”، حيث نقف على حالتين بارزتين مما يسمى بالسرّاق الفضلاء، والسراق النبلاء، شكلا ظاهرة للتندّر الطريفة حين التطرق إليها، وهم النخبة المثقفة المفلسة لسراق الكتب الاحترافيين عبر تاريخ القراءة والتمثّلات المعرفية، سواء كانت السرقات من المكتبات أو من معارض الكتب الدورية، أو حتى من أكشاك الكتب على الأرصفة.

هم صنفان، الصنف الأول هو النوع السارق المشاغب، الذي امتهن سرقة الكتب للمتاجرة أو الاسترزاق بها وبيعها، بينما الصنف الثاني فيطلق عليهم باللصوص الفضلاء/ النبلاء. الأخير هذا يسرق الكتاب ويسهر على الغوص في سطوره، في ليالٍ متوالية، ثم يذهب بخفّة وامتنان ليعيده إلى مكانه في رف المكتبة من دون أن يعلم البائع بما حدث للكتاب من الاستعارة المخاتلة.

ثمة تناقض واضح في الحكمة التي تقول “إن القارئ لا يسرق، والسارق لا يقرأ” فتلك حكمة شابها الكثير من إشكاليات عصرية فرضتها الحالة الاقتصادية المتردية للمثقفين والأدباء عامة، فالقارئ للكتب ربما يسرق، لكنه لا يسرق سوى الكتب، لكن بقي السارق المحترف يسرق الملايين بعيدا عن فضاء القراءة، فاختلّ الطرف الأول من تلك الحكمة المنقرضة.

يرتدي اللص الفاضل معطفا طويلا في الشتاء، وهذا المعطف هو من عدّة العمل، وخاصة في الشتاء، ففي بطانته يخيط صاحبه جيبا عميقا يخفي فيه الكنز المستعار، وفي الصيف ثمة قبعة يخفي تحتها الكتاب. وفي كل الأحوال فهو ينتقي بعناية وعن دراية مسبقة لتفاصيل محتوى الكتاب المستعار، فقد أنجز قراءة درر ماركيز كلها بالطريقة ذاتها، وعليه أن يواصل البحث عن روايات هنري ميلر مثلا. لا يعترف السارق النبيل بديكور وبدانة مكتبته الشخصية، فهي متحركة حسب طبيعة النماذج القرائية وفق جداول معدة مسبقا.

اللصوصية الثقافية كانت سائدة إبان الفترة الأخيرة من القرن العشرين بشكل لافت، حتى غدت ظاهرة وحديث المقاهي الثقافية، وأصبحت خاصية المثقف المفلس أو القارئ المتمرد أو المتصعلك، أو ذلك الشخصية العدمية من مثقفي العصر آنذاك.

يحاول لص الكتب التواصل مع منتجات الثقافة والتاريخ والفلسفة بطريقته هذه، فأسعار الكتب المرتفعة، جعلت منه يمتهن السرقة النبيلة، بل يعتبرها استعارة لفترة محدودة لا غبار على شرعيتها الأخلاقية. ويبرر سرقته المؤقتة هذه وفق أخلاقيات المهنة، على نحو سارق الخبز من الفرن، ليوزعه على عشرة من الجياع أو المتسولين، تلك هي السرقة الفاضلة، ويسرق اللص كنوز الذهب لينقذ بها المرضى أو على طريقة المتمرد التاريخي الشاعر “عروة بن الورد”، ومثلما يسرق الآخر بقايا الوقت لينهي قراءة الكتاب ليحتدم في نقاش دامٍ مع المثقفين للغوص في تفاصيله، فالسرقة ليست سلبية في كل الأحوال وفق مسارات الثقافة الجائعة، فثمة سرقة لغاية نبيلة. كما هي سرقة الكتاب بقصد القراءة البريئة وإعادته من جديد إلى مكانه.

يذكر برناردشو بهذا الشأن عن البليد الذي يعير الكتاب إلى قارئ، وعن المثقف الأكثر بلادة الذي يعيد الكتاب المستعار، وتلك تتعارض مع مهنة السرقة النبيلة. كما تذكر لنا الحوادث التاريخية محطات ووقائع مهمة من حياة مشاهير الثقافة والكتاب، فيذكر لنا التاريخ عن محاكمة الذين مارسوا اللصوصية الفاضلة للكتب، فهذا جان جنيت الذي يودع السجن بعد محاكمة ظريفة لسرقته رواية لبلزاك من متجر الكتب، كما يذكر ماركيز في كتابه الشهير “عشت لأروي”، عندما كان صحافيا أنه يتفنن في سرقة الكتب من المتاجر، عندما كان صحافيا مفلسا، وذلك تولستوي ورغم عظم ثروته فكان يهوى سرقة الكتب بطريقة سرية لا يجيدها صحبته.

في مطار عربي وفي إحدى المرات نسيت كيس الكتب قرب كابينة ضابط الجوازات، كانت الكتب ثمينة جدا في حينها، فرجعت لاهثا للبحث عنها بعد ساعة تقريبا، فوجدتها متروكة في مكانها، حيث أخبرني عامل تنظيف المطار، لقد قلّبها الكثير ولكنهم تركوها بعدما عرفوا محتوياتها.

كاتب عراقي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى