د. أبو زيد بيومي - قصيدتي المُعلَّقَة على مَشانق الصباح

قصيدتي التي أثّرت فيّ، وفي تَلَقِّيَّ للشعر، هي كلُّ قصيدةٍ تحمل هَمَّاً عامّا، أو تلك التي تقف في بؤرة إنسانية لتناقش جوهر وجود الإنسان، أو الهدف الأسمى من حياته. قصيدتي تلك القصيدة التي تحمل رمزا لا يُبْليه تعاقب السنوات والأيام، بل تقف صامدة، حاضرة في الأذهان. وقصيدتي كذلك كل قصيدة قامت بمواجهة ما في أي مرحلة من مراحل التاريخ.
وبالرغم من كتابتي للقصيدة العامية، إلا أن الفصحى كان لها قصَب السَّبْق في تأثيرها على وجداني. بداية من العصر الجاهلي، ومرورا بما تلاه من عصور، وبما أن قصائد العصور الأولى تقوم على وحدة البيت، فإن أبياتا بعينها علقت بالذاكرة، لما تحمله من حكمة يبقى أثرها على الزمن، من ذلك قول زهير بن أبي سُلمي في معلقته:
"وَمَن يَغتَرِب يَحسِب عَدُوّاً صَديقَهُ = وَمَن لا يُكَرِّم نَفسَهُ لا يُكرمِ
وَمَهما تَكُن عِندَ اِمرِئٍ مِن خَليقَةٍ = وَإِن خالَها تَخفى عَلى الناسِ تُعلمِ"
وإذا انتقلنا إلى مرحلة تَلَتْ مرحلة الشعر الجاهلي بعدة قرون، حيث جاء أبو العلاء المعرى، بتأملاته، وفلسفته العميقة، التي يغوص بنا في بحارها، ليكشف لنا عن جوهر الإنسان، وحقيقة الحياة. ومما أنشده له:
صَاحِ هَذِي قُبُورُنا تَمْلأ الرُّحْ = بَ فأينَ القُبُورُ مِنْ عَهدِ عادِ
خَفّفِ الوَطْء ما أظُنّ أدِيمَ ال = أرْضِ إلاّ مِنْ هَذِهِ الأجْسادِ
سِرْ إنِ اسْطَعتَ في الهَوَاءِ رُوَيداً = لا اخْتِيالاً عَلى رُفَاتِ العِبادِ
أما في العصر الحديث، نجد أمل دنقل يقف مُتفرِّدا كرمز من رموز الرفض، ولا أعتقد أن شاعرا أو ناقدا أو مهتما بالشعر، إلا وتوقف كثيرا عند عدد من قصائده، ولا سيما "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة، أو قصيدته "لا تصالح"، والتي يقول فيها:
"لا تُصَالِحْ!
ولو مَنَحُوك الذَّهب
أتُرى حين أفقأ عينيك
ثم أثبِّت جوهرتين مكانهما..
هل تَرَى..؟
هي أشياء لا تُشتَرى"
وكذلك المقطع الشهير من قصيدة " كلمات سبارتاكوس الأخيرة":
"مُعَلَّقٌ أنا على مشانقِ الصَّباحْ
وجبهتي – بالموتِ – مَحنيَّهْ
لأنني لم أَحْنِها... حَيَّهْ!
ومن القصائد التي توقَّفْتُ عندها كثيرا، قصيدة "كافور"، للشاعر السوري بدوي الجبل:
كافور جمّع حول عَرشك كلَّ من حَقَدُوا وهانوا
مَجْدُ البَغِيّ تَعاَفُ بَهرَجَه المُخَدَّرةُ الرَّزانُ
أشبعتَ بالخطبِ الجياعَ فكلُّ هادِرةٍ خُوَانُ
خطب الرئيس هي الكرامة والعُلَا، وهي الضمانُ
هي للجياع الطيباتُ وللعراة الطَّيْلَسانُ
نحن العبيد فلا تحرّكنا الضغينة واللِّعانُ
لا الفقر يلهب في جوانحنا الإباء ولا الهوانُ
همدت حميّتنا على الجلىّ ومات العنفوانُ
والظلم من طبع الجبان وكلّ طاغية جبانُ
ومن القصائد ذات الرونق الخاص عندي، قصيدة محمد إبراهيم أبو سنة، "البحر موعدنا"، والتي يدعو فيها كل إنسان، أن لا يستسلم، وأن يقاوم وحده، وأن لا يؤمِّل في مساندة تأتيه ممن حوله:
البحرُ موعِدُنا
وشاطئُنا العواصف
جازفْ
فقد بعُد القريبُ
ومات من ترجُوه
واشتدَّ المُخالف
لن يرحم الموجُ الجبانَ
ولن ينال الأمن خائف
القلب تسكنه المواويل الحزينة
والمدائن للصيارف
خلت الأماكن للقطيعة
من تُعادي أو تُحالف؟
وكانت اللقاءات المباشرة، مَعِيناً يحمل داخله العديد من القصائد المؤثرة، ولا سيما في المرحلة الجامعية، حيث التقيتُ، من خلال دراستي في كلية الآداب جامعة سوهاج، بالدكتور مصطفى رجب والذي اشتهر بقصائده الحلمنتيشية، والتي أكسبتني روح السخرية، فضلا عن قصائده التي استمعت إليها من خلال لقاءات نادي أدب الجامعة، ومنها قصيدته "أقوال إضافية للهدهد"، والتي يقول فيها، واصفا ما آلتْ إليه حالُ بلاد العرب:
بريق أسياف الكماة خانه الصدأ
والسوس في مكامن الرجولة ابتدأ
من الخليج للمحيط بحرهم هدأ
وموجهم هدأ
وتركوا بلقيس وحدها
تمارس السجود إن تشأ
كما التقيتُ من خلال ندوات الجامعة بالدكتور نصار عبد الله، فكانت قصيدته "التيس والمرآة"، من المحطات المهمة من بين ما استمعت إليه، والتي يصف فيها ذلك النرجسي المُتغطرِس، الذي لا يرى إلا نفسَه، ولا يَسمع إلا صوتَه الداخلي المُضلِّل، حتى إنه رغم هزيمته التي يراها بنفسه، يتوهم أنه انتصر، يقول في هذه القصيدة:
يوما ما
وقف التيسُ يحدّق فى المرآه
فرأى التيسَ يحدق فى المرآه!
هز التيسُ الرأس
فهز التيس الرأس
ظن التيسُ بأن التيسَ الآخر يتحدَّاه!
ثار ، وهبّ، وسَبَّ أباه
فثار التيس وهبّ، وسبَّ أباه !
نطح التيسُ التيس
فانخلع القرن وشُــجّ الرأس
وقف التيس يُحدِّق فى اللاشئ
فرأى لا شيء
تمتم لا بأس
قد فرَّ التيسُ الرعديد أمام التيس الصنديد
لا بأس
حتى لو خلع القرن وشُجَّ الرأس
يا كلّ تيوس العصر
هذا ثمن النصر
أما فيما يتعلق بشعر العامية، تأتي رباعيات صلاح جاهين على رأس النصوص التي تحتل مكانة كبيرة عندي، لمعانيها الفلسفية العميقة، فكل رباعية تعد قصيدة قائمة بذاتها، إلا أنها قصيدة مكثفة، تحمل رغم التكثيف رسالة، تشخص في الذاكرة كلما مررتُ بموقف من المواقف الحياتية، ومن رباعياته التي أرددها على الدوام:
يا عندليب ماتخافش من غنوتك
قول شَكْوتك واحكى على بلوتك
الغنوة مش ح تموتك إنما
كتم الغنا هو اللى ح يموتك
عجبى
وكذلك الرباعية التي يقول فيها:
يا باب يا مقفول ... إمتَي الدخول
صبرت ياما و اللي يصبر ينول
دقيت سنين ... و الرد يرجع لي : مين؟
لو كنت عارف مين أنا .. كنت أقول
عجبي
فالقاسم المشترك بين كل هذه النصوص وغيرها، من النصوص المؤثرة عندي، تلك الجدلية الأبدية، والصراع الأزلي، بين ما يحلم به الإنسان من حق وخير وجَمَال، وما يجده على أرض الواقع، حيث غالبا ما يأتي الصباح، لكنه يأتي ومعه مشانق، تتعلق عليها أحلام المرء، في ظل غيابٍ شبه كامل للعدالة والضمير، وغلبة قيم الأثرة والأنانية، والرغبة في تحقيق المكاسب بأية وسيلة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبوزيد بيومي



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى