دقات خاطفة علي باب المنزل الساعة الثانية صباحًا. القلق يكهرب الجو والتوتر يأخذ مساربه في جسد الأب و تحركات الأم، يأتي صوت الأب من داخل المنزل مترددا ولكن فيه حزم وغضب لإقلاق الراحة في هذا التوقيت من الليل :
مين... مين
يأتي الرد خافتا وقويا:
أنا ضيف ... ضيف
تتهلل أسارير أبي وهو يحث الخطي نحو باب المنزل الخارجي لفتحه، وقد تبدلت حالته من الضيق إلي الفرح وهو يردد من وراء الباب :
يا مرحبا.... يا مرحبا
لم أكن رأيته من قبل، أسمر اللون في طيبة، فارع الطول قوي البنيان أول مايهولك منه شفته العليا حيث تجد وكـأن هناك شفة أخري نمت أسفل منها وتتضح أكثر حينما يضحك وكنت أتساءل هل هذه هي خصيصة للخال ضيف أم أنها تنمو مع من هم علي شاكلته، كنت تحس في القرب منه بالطيبة وحينما يضحك كأنه طفل كبير يضحك و يترك نفسه، فتجاريه في الضحك وأنت لاتدري سبب كل هذا .يداه كبيرتان ضخمتان وكأنهما تلفان المكان والأشياء. كنا نتحلق حوله في براءة الأطفال ونأكله بعيوننا المتساءلة ونحن نبحث فيه عن النموذج المحتذي. كانت حركاته وسكناته تحت أعيننا التي لاترحم ولاتترك شيئا إلا وتسجله ككاميرا التصوير الدقيقة الحثيثة والمتأنية.
يأتي الخال "ضيف" و معه حقيبته الممتلئة بأشياء الجيش من بسكويت بالكمون و أشياء أخري عديدة لاأتذكرها. ضخامة الخال ضيف كانت تحتل السرير كله بمفرده اللهم إلا من مكان صغير ننحشر فيه إلي جواره ، كانت لديه لازمة يرددها و كنا نضحك منها حين نسمعها:
كله بالهبل .. كله بالهبل
كلماته صادمة لأذاننا الصغيرة و نحن لأول مرة نسمع منه هذه الكلمات ونسمع بعدها عبثيته وضحكاته وسخريته من الأمور والأشياء التي تقض مضاجعه.
كانت "الجوزة" تصاحبه أينما كان وتحرك لدرجة كنت أخاله يريد أن يدخلها معه دروة المياه . كنت أخرج إلي الشارع لأحضر باكو المعسل بل كنت أحضر أكثر من باكو ، كنا نتحلق حوله و هو يرص الحجر حيث يضع المعسل و قطعة الفحم المتقدة و يشد نفسا من عصا الجوزة فنجد مائها يقرقر و نجد سحابات الدخان تملأ سماء المكان، كنا نشم للجوزة رائحة دخان غير رائحة دخان سجائر .
كان قريبا لأمي و كنا ننادي عليه: خالو خالو، كانت تنظر أمي إليه حينما تراه و هي تقول له :
أخبارك إيه يا"ضيف"؟.. و كيف حال الحاجة والأسرة؟
كان يتحاشي نظراتها وكان يجيب ورأسه مطأطئ بأن كل الأمور بخير، ثم يعاود رص الحجر تلو الأخر في نشاط وهمة وكأنه في سباق . أبي يحب الخال "ضيف" و يحكي عنه كثيرا و عن رجولته وجدعنته معه في مواقف كثيرة و كيف أنه عاصر الحرب الأخيرة بين مصر وإسرائيل و كان يسوق سيارته لحمل التموين للجيش و كيف أنه كادت قذيفة أن تقتله ذات مرة .
يضحك أبي من كلمات الخال "ضيف" و قفشاته و يصرخ في أمي أن تحضر الطعام المناسب و نحن نترقب ذلك و نجد هناك الحمام و الفراخ و باقي مالذ وطاب و حجرة الضيوف و التي كنا نسميها فيما بيننا بـ "الحجرة التانية" ، كنا نأكل حتي نشبع لشهور قادمة و نضحك .
الخال "ضيف" معظم الليل لاهم له إلا حجر المعسل تلو الأخر و الحكايات المختلفة عن الجيش و الحرب والحياة و اللصوص و ندرة الأكل هناك و طلقات المدافع و غيرها من الحكايات التي نسمعها و نجعله يعيدها علينا و نحن نسمع تجارب لأول مرة في حياتنا .
أه .. كم من الصور رسمت في مخيلتي عن هذه المعارك ولكم صحوت من نومي متوترا علي أحداثها التي غزت أحلامي ورأيت علي إثرها منزلنا ينفجربقذيفة من القذائف التي كان يحكي عنها خالي " ضيف".
ظل خالي "ضيف " ثلاثة أيام و في يوم من الأيام سأله أبي بلطف عن ابنه و مكانه وأحواله ، وكان ساعتها قد إستيقظ لتوه من علي السرير و قد إفترش الأرض حيث كانت هناك حشية أعددناها لجلسته التي لايغادرها إلا علي النوم و بجواره المذياع الصغير .
وجدناه يخفض رأسه إلي الأرض و رجة تأخذ هذا الجسم العملاق و إذا بدموعه تجري علي خديه والنشيج يملأ صدره ، لقد تذكر إبنه الوحيد الذي غادره و هاجر إلي كندا تاركا له المنزل هو وزوجته وأخذ بكاؤه في الإشتداد مما دفع أبي إلي التهدئة من خاطره و هو يقول :
طالما كويس .. يبقي كله تمام ياضيف و بكره راجع إن شاء الله
حينما إستمرت كاريزما البكاء بخالي "ضيف" ووجدنا أبي نحن الصغار قد أخذنا في البكاء لبكائه ، أمرنا أن نصعد إلي السطح كما كنا نطلق عليه الدور الثاني فيما بيننا ، ونحن لانصدق في أنفسنا أن هذا العملاق يمكن أن يبكي مثلنا وأن يضعف و أن ينتابه الحزن .
خرجنا و في إيدينا بعض البسكويت بالكمون الذي أعطاه لنا بالأمس و نحن نعد أنفسنا لما سنفعله من خطط الحرب و الدبابات التي سنصنعها بالقرب من عشش الفراخ .
نهنهات خالي "ضيف " و صوته عال لدرجة جعلتني الأن لا أتذكر المشهد برمته بعد أربعين عاما أو يزيد إلا ومسحة من الحزن تأخذ بخناقي و أنا لاأعلم أحي هو في دنيانا هذه أم ميت؟
مين... مين
يأتي الرد خافتا وقويا:
أنا ضيف ... ضيف
تتهلل أسارير أبي وهو يحث الخطي نحو باب المنزل الخارجي لفتحه، وقد تبدلت حالته من الضيق إلي الفرح وهو يردد من وراء الباب :
يا مرحبا.... يا مرحبا
لم أكن رأيته من قبل، أسمر اللون في طيبة، فارع الطول قوي البنيان أول مايهولك منه شفته العليا حيث تجد وكـأن هناك شفة أخري نمت أسفل منها وتتضح أكثر حينما يضحك وكنت أتساءل هل هذه هي خصيصة للخال ضيف أم أنها تنمو مع من هم علي شاكلته، كنت تحس في القرب منه بالطيبة وحينما يضحك كأنه طفل كبير يضحك و يترك نفسه، فتجاريه في الضحك وأنت لاتدري سبب كل هذا .يداه كبيرتان ضخمتان وكأنهما تلفان المكان والأشياء. كنا نتحلق حوله في براءة الأطفال ونأكله بعيوننا المتساءلة ونحن نبحث فيه عن النموذج المحتذي. كانت حركاته وسكناته تحت أعيننا التي لاترحم ولاتترك شيئا إلا وتسجله ككاميرا التصوير الدقيقة الحثيثة والمتأنية.
يأتي الخال "ضيف" و معه حقيبته الممتلئة بأشياء الجيش من بسكويت بالكمون و أشياء أخري عديدة لاأتذكرها. ضخامة الخال ضيف كانت تحتل السرير كله بمفرده اللهم إلا من مكان صغير ننحشر فيه إلي جواره ، كانت لديه لازمة يرددها و كنا نضحك منها حين نسمعها:
كله بالهبل .. كله بالهبل
كلماته صادمة لأذاننا الصغيرة و نحن لأول مرة نسمع منه هذه الكلمات ونسمع بعدها عبثيته وضحكاته وسخريته من الأمور والأشياء التي تقض مضاجعه.
كانت "الجوزة" تصاحبه أينما كان وتحرك لدرجة كنت أخاله يريد أن يدخلها معه دروة المياه . كنت أخرج إلي الشارع لأحضر باكو المعسل بل كنت أحضر أكثر من باكو ، كنا نتحلق حوله و هو يرص الحجر حيث يضع المعسل و قطعة الفحم المتقدة و يشد نفسا من عصا الجوزة فنجد مائها يقرقر و نجد سحابات الدخان تملأ سماء المكان، كنا نشم للجوزة رائحة دخان غير رائحة دخان سجائر .
كان قريبا لأمي و كنا ننادي عليه: خالو خالو، كانت تنظر أمي إليه حينما تراه و هي تقول له :
أخبارك إيه يا"ضيف"؟.. و كيف حال الحاجة والأسرة؟
كان يتحاشي نظراتها وكان يجيب ورأسه مطأطئ بأن كل الأمور بخير، ثم يعاود رص الحجر تلو الأخر في نشاط وهمة وكأنه في سباق . أبي يحب الخال "ضيف" و يحكي عنه كثيرا و عن رجولته وجدعنته معه في مواقف كثيرة و كيف أنه عاصر الحرب الأخيرة بين مصر وإسرائيل و كان يسوق سيارته لحمل التموين للجيش و كيف أنه كادت قذيفة أن تقتله ذات مرة .
يضحك أبي من كلمات الخال "ضيف" و قفشاته و يصرخ في أمي أن تحضر الطعام المناسب و نحن نترقب ذلك و نجد هناك الحمام و الفراخ و باقي مالذ وطاب و حجرة الضيوف و التي كنا نسميها فيما بيننا بـ "الحجرة التانية" ، كنا نأكل حتي نشبع لشهور قادمة و نضحك .
الخال "ضيف" معظم الليل لاهم له إلا حجر المعسل تلو الأخر و الحكايات المختلفة عن الجيش و الحرب والحياة و اللصوص و ندرة الأكل هناك و طلقات المدافع و غيرها من الحكايات التي نسمعها و نجعله يعيدها علينا و نحن نسمع تجارب لأول مرة في حياتنا .
أه .. كم من الصور رسمت في مخيلتي عن هذه المعارك ولكم صحوت من نومي متوترا علي أحداثها التي غزت أحلامي ورأيت علي إثرها منزلنا ينفجربقذيفة من القذائف التي كان يحكي عنها خالي " ضيف".
ظل خالي "ضيف " ثلاثة أيام و في يوم من الأيام سأله أبي بلطف عن ابنه و مكانه وأحواله ، وكان ساعتها قد إستيقظ لتوه من علي السرير و قد إفترش الأرض حيث كانت هناك حشية أعددناها لجلسته التي لايغادرها إلا علي النوم و بجواره المذياع الصغير .
وجدناه يخفض رأسه إلي الأرض و رجة تأخذ هذا الجسم العملاق و إذا بدموعه تجري علي خديه والنشيج يملأ صدره ، لقد تذكر إبنه الوحيد الذي غادره و هاجر إلي كندا تاركا له المنزل هو وزوجته وأخذ بكاؤه في الإشتداد مما دفع أبي إلي التهدئة من خاطره و هو يقول :
طالما كويس .. يبقي كله تمام ياضيف و بكره راجع إن شاء الله
حينما إستمرت كاريزما البكاء بخالي "ضيف" ووجدنا أبي نحن الصغار قد أخذنا في البكاء لبكائه ، أمرنا أن نصعد إلي السطح كما كنا نطلق عليه الدور الثاني فيما بيننا ، ونحن لانصدق في أنفسنا أن هذا العملاق يمكن أن يبكي مثلنا وأن يضعف و أن ينتابه الحزن .
خرجنا و في إيدينا بعض البسكويت بالكمون الذي أعطاه لنا بالأمس و نحن نعد أنفسنا لما سنفعله من خطط الحرب و الدبابات التي سنصنعها بالقرب من عشش الفراخ .
نهنهات خالي "ضيف " و صوته عال لدرجة جعلتني الأن لا أتذكر المشهد برمته بعد أربعين عاما أو يزيد إلا ومسحة من الحزن تأخذ بخناقي و أنا لاأعلم أحي هو في دنيانا هذه أم ميت؟