فتحي عثمان - من الاستقلال إلى التغيير

تفتح الأزمة السياسية والمجتمعية في ارتريا اليوم آفاقا متعددة للتناول والتساؤل، وتوفر كذلك مادة دسمة للحوار. من هذه التساؤلات الملحة أسئلة التغيير وما بعده. تماما كما دارت أسئلة الاستقلال وما بعده في فترة النضال السلمي وفترة الكفاح المسلح.
المشاهد الآن من عمل المعارضة وخطابها هو تكرار أخطاء الماضي التاريخية.
في فترة النضال السلمي والكفاح المسلح كان الاستقلال هو الهدف الأساسي لكل العمل الوطني؛ ولكن لم يساير ذلك العمل نظر وتنظير "لنوع" الاستقلال المنشود لارتريا المستقلة. والسبب في ذلك هو شيوع مفهوم أن الاستقلال هو الحرية؛ أو بعبارة أخرى أن الاستقلال هو الحرية؛ ولا فصل بينهما. بينما في حقيقة الأمر أن الاستقلال شيء والحرية شيء آخر تماما.
فأنت قد تحصل على وطن "مستقل" ولكن ليس بالضرورة أنك حصلت على شعب "حر".
والمشاهد في ارتريا اليوم هو الفرق الجوهري بين مفهومي الاستقلال والحرية.
الشعب المكبل في البلاد المستقلة بالقيود المادية الملموسة: السجون، موانع الحركة والتجمع والتنظيم والتعبير، وقيد الخوف غير المادي هو تجسيد لذلك الفرق الجوهري بين المفهومين.
فمن أين تولد الفصل بين الاستقلال والحرية في الواقع الارتري؟
لأننا لم نتعرف بدقة على "نوع" الاستقلال المرغوب. كانت الثورة هي المقاومة العملية للظلم؛ ولكنها في مقاومتها كانت تنشد "بلاد مستقلة" وليس "إنسانا حرا"؛ وعندما حصلت على الوطن المستقل وجدت نفسها خالية الوفاض من الإنسان الحر.
الثورة الامريكية، على سبيل المثال، تعتبر نموذجا للثورة التي نالت الاستقلال والحرية معا. فمن ناحية حصلت الولايات المتحدة الامريكية على استقلالها السياسي عن التاج البريطاني؛ وأصبحت في نفس الوقت حرة بوضعها لدستور يمنع الاستبداد ويرسخ الحرية.
حرية الانسان في الولايات المتحدة اليوم قد تكون محل جدل ونقاش حسب الألوان المتفرعة من موشور الحرية ذاته، ولكن موانع حكم الفرد والاستبداد السياسية والقانونية والاجتماعية ترسخت بحيث لن يكون هناك استبداد وأن يعنى الاستقلال كذلك الحرية، وليس هناك انفصال بينهما، كما هو الحال في دولة ارتريا المستقلة اليوم. فمن ناحية صادت الثورة الارترية عصفور الاستقلال الثمين؛ وأصاب المستبد الحاكم بدوره ببندقيته عصفور الحرية ووضعه في قفص محكم الإقفال ثم أبتلع المفتاح.
واليوم عندما نتحدث عن التغيير فإننا نفصله عن الحرية؛ تماما كما فصلنا الاستقلال عن الحرية ذات يوم. فالتغيير المطلوب ليس هو إزالة المستبد وحكمه؛ بل هو إزالة "فكرة" الاستبداد ووضع كل الموانع الثقافية والسياسية والقانونية والاجتماعية لعودة أي نوع من الاستبداد وسلب الحرية؟ فهل مشروع التغيير اللاهث يحتوي على هذا الجوهر الثمين؟
أم أنه يسلم بأن الارتباط بين الحرية والتغيير هو حقيقة مسلم بها؛ تماما كما سلم من قبلنا بأن الاستقلال والحرية مفهومان لا ينفصلان عن بعضهما حتى تبين لهم الفرق في ضحى الغد.
الأعراض المرضية في مشروع التغيير تشير إلى أنه يكرر أخطاء الماضي وبأعجوبة مثيرة للحيرة، وذلك بجعله الحصول على السلطة هو هدف التغيير، وتمنى المعارضة نفسها بأنها "سوف" وبعد إحداث التغيير ستصنع مستقبل البلاد الحرة؛ أي افتراض أن الصراع اليوم هو صراع "سلطة" وليس صراع مصير ووجود وشرعية. خطابات الأحزاب وبرامجها تشير وتكرر نوع التغيير والحرية الموعودة؛ لكن المقياس هنا هو العمل والممارسة.
فأول الاختلالات يظهر في بوادر العمل وبواكيره والتي تفترض أن التغيير في ارتريا هو أمر أو شأن سياسي بالدرجة الأولى؛ عليه هو شأن يخص الأحزاب والتجمعات والمنظمات والأحلاف السياسية، قبل أن يكون شأن "مجتمعيا" جامعا، وهذا يفسر غياب المجتمع المدني بكل منظوماته عن العمل الساعي إلى التغيير، ويفسر أيضا غياب أو ضعف المنظمات الفئوية داخل الأحزاب أو الأجسام السياسية.
فصل التغيير عن الحرية هو فتح جديد لباب الكارثة الوشيكة، وإنتاج حديث لأخطاء ماضي قديم.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى