محمد عباس محمد عرابي - وقفة مع قصيدة "المساء" للشاعر خليل مطران

يعد الشاعر اللبناني (شاعر القطرين )خليل مطران (1872م-1949م) من أبرز الشعراء المجدين شاعر غزير الإنتاج، له الكثير من روائع القصائد الشعريَّة، ويتسم بأسلوب شعريُّ صادق الوجدان، وموسيقاه عذبة، ومن أكثر قصائده شهرة قصيدة "المساء" التي تتسم بسمات التجديد في الشعر ؛ لذا تدرس هذه القصيدة على طلاب المرحلة الثانوية في بعض الدول العربية ومنها مصر منذ عقود ،وفيما يلي وقفة مع هذه القصيدة ، فقد اشتملت هذه القصيدة على ثلاثة محاور يتم عرضها على النحو التالي :
المحور الأول : المرض وآثاره دعوة للاستجمام:
يقول خليل مطران في هذا المحور في مستهل القصيدة مبينا لحالة نفسه المثقلة بالهموم والمرض ومبينًا لأثر المرض عليه ودعوة أصدقائه للاستجمام في جو نقي على شاطئ البحر المتوسط بالإسكندرية :
داءٌ ألَمَّ فَخِلْتُ فِيهِ شَفَائِي
مِنْ صَبْوَتِي فَتَضَاعَفَتْ بُرَحَائِي
يَا لَلضَّعِيفَيْنِ اسْتَبَدَّا بِي وَمَا
فِي الظُّلْمِ مِثْلُ تَحَكُّمِ الضُّعَفَاءِ
قَلْبٌ أَذَابَتْهُ الصَّبَابَةُ وَالْجَوَى
وَغِلاَلَةٌ رَثَّتْ مِنِ الأَدْوَاءِ
وَالرُّوْحُ بيْنَهُمَا نَسِيمُ تَنَهُّدٍ
فِي حَالَيَ التَّصْوِيبِ وَ الصُّعَدَاءِ
وَالعَقْلُ كَالمِصْبَاحِ يَغْشَى نُورَهُ
كَدَرِي وَيُضْعِفُهُ نُضُوبُ دِمَائِي
هَذَا الَّذِي أَبْقَيْتِهِ يَا مُنْيَتِي
مِنْ أَضْلُعِي وَحَشَاشَتِي وَذَكَائِي
عُمْرَيْنِ فِيكِ أَضَعْتُ لَوْ أَنْصَفْتِنِي
لَمْ يَجْدُرَا بِتَأَسُّفِي وَبُكَائِي
عُمْرَ الْفَتَى الْفَانِي وَعُمْرَ مُخَلَّدٍ
بِبيَانِهِ لَوْلاَكِ في الأَحْيَاءِ
المحور الثاني :الشكوى للبحر وحلول المساء وتزايد المرض :
في هذا المحور يصف خليل مطران تزايد المرض عليه فيقول وخاصة عند حلول المساء :
فغَدَوْتَ لَمْ أَنْعَمْ كَذِي جَهْلٍ وَلَمْ
أغْنَمْ كَذِي عَقْلٍ ضَمَانَ بَقَاءِ
يَا كَوْكَباً مَنْ يَهْتَدِي بِضِيائِهِ
يَهْدِيهِ طَالِعُ ضِلَّةٍ وَرِيَاءِ
يا مَوْرِداً يَسْقِي الوُرُودَ سَرَابُهُ
ظَمَأً إِلى أَنْ يَهْلِكُوا بِظَمَاءِ
يَا زَهْرَةً تُحْيِي رَوَاعِيَ حُسْنِهَا
وَتُمِيتُ نَاشِقَهَا بِلاَ إِرْعَاءِ
هَذا عِتَابُكِ غَيْرَ أَنِّيَ مُخْطِيءٌ
أَيُرَامُ سَعْدٌ فِي هَوَى حَسْنَاءِ
حَاشَاكِ بَلْ كُتِبَ الشَّقَاءُ عَلَى الْورَى
وَالْحُبُّ لَمْ يَبْرَحْ أَحَبَّ شَقَاءِ
نِعْمَ الضَّلاَلَةُ حَيْثُ تُؤْنِسُ مُقْلَتِي
أَنْوَارُ تِلْكَ الطَّلْعَةِ الزَّهْرَاءِ
نِعْمَ الشَّفَاءُ إِذَا رَوِيْتُ بِرشْفَةٍ
مَكْذُوبَةٍ مِنْ وَهْمِ ذَاكَ المَاء
نِعْمَ الْحَيَاةُ إذا قضَيْتُ بِنَشْقَةٍ
مِنْ طِيبِ تِلكَ الرَّوْضَةِ الغَنَّاءِ
إِنِّي أَقَمْتُ عَلى التَّعِلَّةِ بِالمُنَى
فِي غُرْبَةٍ قَالوا تَكُونُ دَوَائِي
المحور الثالث : أثر الحالة النفسية للشاعر على الطبيعة:
لقد أثرت الحالة النفسية للشاعر على الطبيعة فرسم صورة حزينة لكل العناصر من حوله: بالشمس، والليل، والغروب، والبحر حيث يقول :
إِنْ يَشْفِ هَذَا الْجِسْمَ طِيبُ هَوَائِهَا
أَيُلَطَّف النِّيرَانَ طِيبُ هَوَاءِ
أَوْ يُمْسِكِ الْحَوْبَاءَ حُسْنُ مُقَامَهَا
هَلْ مَسْكَةٌ فِي البُعْدِ للْحَوْبَاءِ
عَبَثٌ طَوَافِي فِي الْبِلاَدِ وَعِلَّةٌ
فِي عِلَّةٍ مَنْفَايَ لاِسْتشْفَاءِ
مُتَفَرِّدٌ بِصَبَابَتِي مُتَفَرِّد
بِكَآبَتِي مُتَفَرِّدٌ بَعَنَائِي
شاكٍ إِلى البَحْرِ اضْطَرابَ خَوَاطِرِي
فَيُجِيبُنِي بِرِيَاحِهِ الهَوْجَاءِ
ثاوٍ عَلَى صَخْرٍ أَصَمَّ وَلَيْتَ لِي
قَلْباً كَهَذِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ
يَنْتَابُهَا مَوْجٌ كَمَوْجِ مَكَارِهِي
وَيَفُتُّهَا كَالسُّقْمِ فِي أَعْضَائِي
وَالبَحْرُ خَفَّاقُ الْجَوَانِبِ ضَائِقٌ
كَمَداً كصَدْرِي سَاعَةَ الإِمْسَاءِ
تَغْشَى الْبَريَّةَ كُدْرَةٌ وَكَأَنَّهَا
صَعِدَتْ إِلى عَيْنَيَّ مِنْ أَحْشَائي
وَالأُفْقُ مُعْتَكِرٌ قَرِيحٌ جَفْنُهُ
يُغْضِي عَلَى الْغَمَرَاتِ وَالأَقْذَاءِ
يا لَلْغُرُوبِ وَمَا بِهِ مِنْ عِبْرَةٍ
للِمْسْتَهَامِ وَعِبْرَةٍ لِلرَّائي
أَوَلَيْسَ نَزْعاً لِلنَّهَارِ وَصَرْعَةً
لِلشَّمْسِ بَيْنَ مَآتِمِ الأَضْوَاءِ
أَوَلَيْسَ طَمْساً لِلْيَقِينِ وَمَبْعَثاً
للِشَّكِّ بَيْنَ غَلاَئِلِ الظَّلْمَاءِ
أَوَلَيْسَ مَحْواً لِلْوُجُودِ إِلى مَدىً
وَإبَادَةً لِمَعَالِمِ الأَشْيَاءِ
حَتَّى يَكُونَ النُّورُ تَجْدِيداً لَهَا
وَيَكونَ شِبْهَ الْبَعْثِ عَوْدُ ذُكَاءِ
وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالنَّهَارُ مُوَدِّعٌ
وَالْقَلْبُ بَيْنَ مَهَابَةٍ وَرَجَاءِ
وَخَوَاطِرِي تَبْدُو تُجَاهَ نَوَاظِرِي
كَلْمَى كَدَامِيَةِ السَّحَابِ إزَائِي
وَالدَّمْعُ مِنْ جَفْنِي يَسِيلُ مُشَعْشَعاً
بِسَنَى الشُّعَاعِ الْغَارِبِ المُتَرَائِي
وَالشَّمْسُ فِي شَفَقٍ يَسِيلُ نُضَارُهُ
فَوْقَ الْعَقِيقِ عَلى ذُرىً سَوْدَاءِ
مَرَّتْ خِلاَلَ غَمَامَتَيْنِ تَحَدُّراً
وَتَقَطَّرَتْ كَالدَّمْعَةِ الحَمْرَاءِ
فَكَأَنَّ آخِرَ دَمْعَةٍ لِلْكَوْنِ قَدْ
مُزِجَتْ بِآخِرِ أَدْمُعِي لِرِثَائِي
وَكأَنَّنِي آنَسْتُ يَوْمِيَ زَائِلاً
فَرَأَيْتُ فِي المِرْآةِ كَيْفَ مَسَائي
ويتضح من هذه القصيدة قوة العاطفة وصدق الوجدان من خلال كلمات معبرة عن اللوعة والأحاسيس المختلطة بالذكرى ولألم والحنين، وقد استخدم مطران البيان لإيضاح وبيان المعاني في صورة ملموسة حيث وظف التشبيه ، للضرورة التصويرية حيث شبه مرضه بالضعيف المستبد والروح بالنسيم ،وعقله بالمصباح، وهذا ليس بغريب على شاعر من رواد التجديد الشعري كخليل مطران .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى