ثقافة شعبية د. صلاح الراوى - الاستلهام الفنى للثقافة الشعبية

فى شأن المصطلح ودقته
لعله من المهم ونحن بصدد تناول قضية ( المأثورات الشعبية و استلهاماتها ) أن نقف عند قضية تأسيسية جديرة بأن تلقى منا جميعا اهتماما كبيرا وحقيقيا ، تلك هى قضية تدقيق المصطلح ، والتى نراها فريضة غائبة فى مجال الدراسات الشعبية وهو المجال العلمى الذى يمثل طرفا فى قضية الاستلهام بصرف النظر عن أن هذا الطرف لم يقم بمسئولياته العلميـة ( المنهجية ) إزاء موضوع الاستلهام أو قضيته وإن بدا له أن يراها موضوعا أصيلا من موضوعاته العلمية ، وأن يرى – بغير حق طبعا – أنه صاحب الولاية على القضية أو الموضوع أو الإشكالية . وفى رأينا أن واحدا من أسباب هذا الالتباس القائم بل والمقيم هو غياب تدقيق المصطلح ، إذ لو كانت المصطلحات دقيقة حاسمة لانجلى الضباب الكثيف وانكشفت طرق المعالجات وتحددت مناطات الولايات ، وعرف كل طرف دوره وأصبح على بينة منه ، واجتهد كل فى حدود معرفته واختصاصه فى غير تزاحم مع غيره من الأطراف يؤدى إلى اصطدام واشتباك لا يقود إلا إلى مزيد من ارتباك علاقة المثقف الرسمى / النظامى - وأيا كان موقفه الفكرى - بالثقافة الشعبية ، بل ويقود إلى مزيد من غموض حدود ووظيفة وطبيعة وآليات الثقافة الشعبية وتتفلت من أيدى المتنازعين .
ولا نود فى هذه الورقة المحكومة بحد معالجتها لمحور من محاور هذه الندوة المصاحبة لمهرجان طيبة الثقافى أن نستغرق فى بيان أهمية تدقيق المصطلح ، وأن نؤكد على أن هناك علما يعالج شأن المصطلح هو علم المصطلحية ( Terminology ) وأن هذا العلم له مدارس لها قدرها العلمى عالميا ، فهذه أمور تدخل عندنا فى دائرة البدهيات . ومع إننا جميعا نتفق على أهمية ومحورية تدقيق المصطلح أو ضبطه فإن هذا الاتفاق ظل حتى اللحظة الراهنة اتفاقا نظريا هو أقرب إلى ( تمشية الحال ) أو تمرير الاختلاف أو القفز عليه ، إذ الواقع يكشف عن اضطراب شديد فى المصطلحات التى يقوم عليها العلم الذى يتصدى لدراسة الثقافة الشعبية ، وهو اضطراب ناجم عن عدم تحديد وظيفة الثقافة الشعبية ، وهو اضطراب يؤدى إلى خلل فادح فى تعريف المصطلحات الأساسية لهذا العلم ، وفى تصنيف مادة هذا العلم . وكل هذه المظاهر للخلل تتجادل من زمن بعيد دون وقفة حقيقية وموضوعية للمراجعة (1) .
ولما كان موضوع هذه الورقة لا يتصدى لمعالجة قضايا علم دراسة الثقافة الشعبية وفى مقدمتها قضية المصطلحات والتعريفات وهى قضية مركزية بداهة ، فإنه ليس من المنطقى أن نستعرض تاريخ هذه القضية ونستغرق فى مناقشة الأسباب والـدوافع والنتائج ووجهات النظر ، العلمى منها وغير العلمى ، حسبنا فقط أن نحدد المصطلحات والتعريفات التى نتبناها علميا لتكون هى الإطار المرجعى ( أو العقد الإجرائى ) بيننا وبين قارىء هذه الورقة .
إن ما نرتضيه مقابلا عربيا لمصطلح الفولكلور هو ( الثقافة الشعبية ) وإن هذه الثقافة الشعبية تضم كل من ( التراث الشعبى ) و ( المأثور الشعبى ) وهما ليسا شيئا واحد ، وليسا شيئين متطابقين ليقوم أحدهما مقام الآخر فى تقديم المقابل الدقيق لمصطلح ( فولكلور ) ، ذلك أن المأثور الشعبى هو مصطلح دال على مدلول بعينه هو الثقافة الشعبية الحية بينما التراث الشعبى مصطلح دال على مدلول بعينه هو الثقافة الشعبية القديمة التى لم تعد قائمة فى حياة الجماعة أو فاعلة فيها ، والتى كانت يوما ما مأثورا حيا تنتجه الجماعة الشعبية وتحيا به ، ثم انتفت وظيفته ، وانتجت الجماعة الشعبية غيره ،مستجيبة لواقعها الآنى المتجدد (2).
أما استخدام مصطلحات تراث شعبى ، ومأثورات شعبية وأحيانا فنون شعبية بوصفها مترادفات وعلى سبيل المجاز فما نود هنا قوله فى كلمة واحدة هو أنه ليس فى المصطلحات العلمية ما يسمى مترادفات وأن العلم لا يقبل بطبيعته المجاز كأداة من أدواته لا فى البحث ولا فى الصياغة . ولعل ما يقطع بذلك فى مجالنا هذا هو أن استخدام مصطلح الفنون الشعبية كدال على مجمل الثقافة الشعبية أو ما هو تراث منها وما هو مأثور مّثل ويمثل واحدة من الخطايا العلمية التى قاد إليها قبول المجاز وتبرير استخدامه كأداة فى مجال العلم . ولم يقف الأمر عند حد الاستخدام المجازى لمصطلح الفنون الشعبية ( وهى جزء من كل أو على الدقة محض جنس من أجناس خمسة تضمها الثقافة الشعبية ) ليدل على الفولكلور ( = الثقافة الشعبية تراثا ومأثورا ) وإنما قاد هذا الاستخدام إلى اضطراب فى التعريفات وتقسيمات المادة وفى التصنيف ، وفى غير ذلك من مكونات هذه المتوالية التى لا تنتهى . ومن هنا وفى مواجهة هذا الاختلال جاء تقسيمنا للثقافة الشعبية على النحو التالى :
الثقافة الشعبية ( تراث شعبى – مأثور شعبى ) وتضم خمسة أجناس :
أولا : القيم / التصورات والمعتقدات .
ثانيا : الخبرات والمعارف .
ثالثا : العادات والتقاليد .
رابعا : الفنون ( قولية – موسيقية – حركية – تشكيلية – درامية ) .
خامسا : تشكيل المادة .
ومن البديهى ألا يقوم جنس الفنون علما على الثقافة الشعبية نيابة عن كل هذه الأجناس المكونة لهذه الثقافة تكوينا أساسيا أصيلا بلا أفضلية معيارية لجنس على جنس .
لقد كان هذا التمهيد ضروريا فغاية ما نتصوره هو أن المقصود بمصطلح مأثورات شعبية فى عنوان المحور الذى دعينا لمعالجته هو الثقافة الشعبية مأثورا وتراثا إذ من غير الوارد أن تقصد الندوة إلى قصر المعالجات على استلهام المأثورات الشعبية الحية وحدها مستبعدة التراث الشعبى ، ومن ثم حرصنا على تحديد المصطلح بحيث تتجه معالجتنا إلى تناول استلهام الثقافة الشعبية بوصفها المصطلح الجامع للتراث والمأثور على حد سواء .
وإذا كنا قد حسمنا أمرنا فى شأن المصطلح الرئيسى باختيـار محدد يعكس موقفنا العلمى ، فإنه يبقى أن نطرح أمر مصطلح ( الاستلهام ) سعيا إلى تحديده كدال يستدعى بطبيعة الحال مدلولا بعينه ، يدور حوله النقاش .
ونزعم من البداية أننا لم نجد أية محاولة تسعى إلى قراءة معانى لفظة الاستلهام فى المعاجم العربية للوقوف على جذر الاشتقاق وتحرير المصطلح وتحديده فى إطار شبكة أو منظومة الدلالات العديدة التى تنصرف إليها مادة ( لهم ) . ونعتمد فى مهمتنا هذه تاج العروس للزبيدى ( ت 1205 ه ) مصدرا للفحص اللغوى وهو معجم جامع لعديد من المعاجم العربية مما يتيح ميزة الاستقصاء ، حيث يعرض صـاحب التاج مـادة وفيرة لدلالات لفظة ( َلهِمَ ) (3) ، فَلهِمَه : ابتلعه بمرة أى دفعة واحدة ، والِّلهَم : الرجل الجواد عظيم الكفاية ، والِّلهَم : البحر الكثير الماء ، والجواد السابق كأنه يلتهم الأرض ، وأم اللُّهَيم : الداهية والحمى والمنية لالتهامها الخلق ، واللُّهْموم : الـناقة الغزيرة اللبن ، وجهاز المرأة ( أى عضوها التناسلى ) والسحابة الغزيرة القطر والجيش العظيم لأنه يلتهم كل شىء أو يغتمر من دخله ويغيبه فى وسطه ، والِّلهْم : المسن من كل شىء ، وألهمه الله تعالى خيرا : لقنه إياه ، والإلهام : ما يُلقى فى الروع بطريق الفيض ويختص بما من جهة الله والملأ الأعلى ، ويقال إيقاع الشىء فى القلب يطمئن له الصدر يخص الله به بعض أصفيائه . هذه هى الدلالات العديدة التى استقصاها لنا الزبيدى ، مما اتجهت نحوه العرب فى استخدامـها اللسانى للفظة ( لهم) واشتقاقاتها ، واللافت أنها تدور فى فلك الابتلاع السريع والقوى والمحيط ، والغمر والطى والاستيعاب ، والقدرة أو الكـفاية ، كما أنها تميز بين الفـعل لهم والتهم بمعنى ابتلع - وهو فعل متعدٍ لمفعول واحد - وبين الفعل ألهم وهو متعد لمفعولين فأعطت الفعل ألهم ملمحا خاصا أو هى على الدقة صبغته صبغة روحية إيجابية ( ألهمه الله خيرا : لقنه إياه ) فلا يكون ثمة إلهام فى الشر ، بل إن اللسان العربى مضى خطوة أبعد عندما خص الالهام بأنه ما يلقى فى الروع بطريق الفيض وجعل هذا العمل مختصا بما هو من جهة الله والملأ الأعلى ، وأنه أمر يخص الله به أصفياءه بل بعضهم فحسب . وكل هذه أمور ينبغى أن تستوقفنا وتدعونــــا إلى التأمل والتدبر واستخـلاص ما يحيط بمصطلح ( استلهام ) من دلالات بعيدة وظلال معان من شأنها أن تضبط فهمنا للمصطلح ومن ثم استخدامنا له وما أحوجنا إلى ذلك حقا .
أما ما يحتاج منا جميعا – متخصصين ونقادا ومبدعين مستلهمين – إلى تأمل عميق فهو ما ينص عليه تاج العروس فى شأن لفظة استلهم حيث يقول : ( استلهمه إيـاه : سأله أن يلهمه ) فمن يستلهم إنما يتجه إلى طلب مدد وعون لا يملكه ويسأل من لديه القدرة على إلهامه أن يلهمه أى يلقنه ، وهو بذلك لا يكون فى موقع الفاعل إلا فى حدود طلب الإلهام سائلا راجيا بل ربما داعيا ، ثم هو أن اُستجيب له يتحول إلى مفعول به لفعل الالهام . هذا هو حتم اللغة التى نستخدمها فى حياتنا .
وإذا كان من يستلهم الله أمرا إنما يتوجه إليه مقرا من البداية بقدرته المطلقة على أن يلقى فى روعه بطريق الفيض نورا يضىء له طريق أمر لا تتيحه قدرته الإنسانية المحدودة بحدود الممكنات ، فهو يلجأ إلى القوى العلوية طلبا للعون والمساعدة ، مؤملا مزيدا من التمكين الذى يتجاوز به العجز وغموض الطرق والافتقار إلى الوسائل الناجعة فى تفكيك المشكل و اجتيازه وبلوغ الأرب . إذا كان ذلك كذلك أفلا يبقى أى سهم من هذه المعانى محيطا أو ملتبسا باستلهام المبدع الفرد لثقافة الجماعة الشعبية ، أى يسألها أن تلهمه وتمد له يد العون فيما هو فى سبيله إلى إبداعه ، وأنها حين تستجيب له وتلهمه فإنما هى تمارس عليه فعل فاعل الإلهام وهى بهذا تكون فى جوهر الأمر صاحبة اليد العليا ؟ .
حقيقة الأمر هو أن هذا المعنى ظل بعيدا عن وعى الخائضين فى موضوع الاستلهام كافة ، وغلب على وعيهم أن المستلهِم ( بكسر الهاء ) هو الفاعل الوحيد بجدارة ، وأنه يفعل فعل الاستلهام وهو مطلق الحرية من كل قيد حتى شروط اللغة ومقتضياتها ، فهو المسيطـر على الأمـر برمـته ، وهو الطرف الأوحـد الممتلك لارادته ولكل الإرادات ، وأن المستلهَم ( بفتح الهاء ) مجبول على الاستجابة له ومجبر على الانقياد لإرادته المطلقة . هذا هو الاحساس السائد والنابع عن هذا الفهم المنقوص والمجافى لحقيقة الأشياء . ومثل هذه الالتباسات هى التى قادت وتقود إلى غموض مصطلح الاستلهام والتباسه كمفهوم يفترض المنطق أن ينطبق على ما صدقات . ويحتاج المفهوم دائما إلى تعريف جامع مانع أى بالجنس والفصل ، فالجنس يجمع السمات المميزة للمعرف ، والفصل ( النوعى ) هو الذى يمنع دخول أنواع أخرى متميزة من الجنس ذاته إلى هذا النوع ، ومن هنا كان التعريف هو تحديد ماهية الشىء وذاتيته .
فإذا كان الاستلهام هو نشاط إنسانى فإنه إذن يقع فى دائرة جنس النشاط الإنسانى ، ولكن أى نشاط إنسانى ؟ إن كل فعل إنسانى هو نشاط من أنشطته وما أكثرها داخل هذا الجنس . هنا نحتاج إلى الفصل النوعى الذى يجعل مفهوم الاستلهام محددا تحديدا واضحا قاطعا ومنصبا على ما صدقات بعينها لا يدخل فيها ما لا ينتمى إلى هذا النوع وفى حدود جنسه . لكن قبل ذلك هل كل استلهام ينصرف مفهومه إلى الاستلهام الفنى أو الثقافى ، أليس هناك استلهامات أخرى فى مقدمتها أن يستلهم الإنسان إلهه أى يسأله أن يلهمه الصواب عموما وفى أى شأن أو أن يلهمه الصبر أى يمنحه إياه أو يفرغه عليه أو يلقنه القدرة عليه . إذن فإطلاق لفظ الاستلهام على عموميته يحول دون تحديد المفهوم فى مجالنا المحدد وهو اتجاه الفنان إلى استلهام الثقافة الشعبية أى الاتجاه إليها طالبا أن تلهمه أى تلقنه لينتج نصا فنيا جديدا هو غير قادر على انتاجه ابتداء بمفرده أو من عندياته مستغنيا عن إلهامها .
لا مندوحة إذن من أن نقيد مصطلح الاستلهام بأنه الفنى ولو قلنا الثقافى لاختلف الأمر نوعيا فالاستلهام الثقافى للثقافة الشعبية أمر أكثر اتساعا من الاستلهام الفنى لهذه الثقافة ، وبديهى أن استلهام الثقافة الشعبى بالمعنى المطلق يضم انواعا من الاستلهام غير الثقافى فهناك مثلا الاستلهام الاقتصادى للثقافة الشعبية أى اتجاه الاقتصاديين إلى هذه الثقافة ومحاولة الاستعانـــة برؤيتها وآلياتـــها فى مجال الاقتصاد ( الزراعة والرى والصناعة والتجارة ... الخ ) .
إذن لنصطلح على الاستلهام الذى نعنيه فى مجـالنا بأنه ( الاستلهام الفنى للثقافة الشعبية ) ، وتعريفا لهذا المصطلح المحدد نذهب إلى ما يلى :
الإستلهام الفنى للثقافة الشعبية : هو ذلك النشاط الإنسانى النوعى الذى يسعى فيه الفنان من خارج دائرة الجماعة الشعبية إلى الاستعانة بثقافة هذه الجماعة أو أحد أجناسها أو أنواعها أو عناصرها لبناء نص فنى خاص قولى أو موسيقى أو حركى أو تشكيلى أو درامى . هذا هو التعريف المنطقى الذى نراه جامعا مانعا دون أية مصادرة لمناقشة هذا التعريف ونقده علميا ومنطقيا .

موقف المستلهِم
عندما يلجأ المبدع الفرد – من خارج الجماعة الشعبية – إلى الثقافة الشعبية ( تراثا ومأثورا ) ليتخذ منها مادة لابداعه الذاتى الفردى الخاص ، فإنه يكون مدفوعا بدوافع تتفاوت طبيعتها من مبدع لآخر تعبيرا عن موقفه الفكرى / الاجتماعى من هذه الثقافة ، فهو إما منحاز إلى هذه الثقافة وإلى أصحابها ، سواء أكان عارفا بوظيفتها ودورها ومدركا لطبيعتها وآلياتها المحكومة بهذه الوظيفة أم لا ، أو هو منحاز ضد هذه الثقافة متجاهلا لوظيفتها الايجابية ودورها الاجتماعى التاريخى وقليل المعرفة أو حتى منعدمها بطبيعة هذه الثقافة وآلياتها متخذا منها موقفا سلبيا يتقنع أحيانا بقناع التقدمية أو الاصلاحية لتحرير هذه الجماعة الشعبية من تخلفها وركونها إلى الخرافة واستسلامها المطلق للا عقلانية وانعدام الوعى العلمى ، وثمة منزلة بين المنزلتين يمثلها بجدارة فريق يبدو محايدا غير معنىّ لا بتبنى رؤية الجماعة الشعبية التى تعكسها طبيعة ثقافتها وآلياتها والمعبرة بالضرورة عن وظيفة هذه الثقافة ، ولا هو متخذ موقفا سلبيا من هذه الثقافة حاملا عليها وعلى أصحابها تخلفهم المزعوم وتنكبهم لطرائق العلم التجريبى المحصن بالقوانين والمناهج والنظريات العلمية المعتبرة . وهذا الفريق الوسطى الخطر يتخذ من الثقافة الشعبية موقف المنتفع الذى ينظر إليها بوصفها مادة خام قابلة للتصنيع ، وهى بوصفها هذا متاحة للانتقاء والتهذيب وإزالة الشوائب وفى أحسن الأحوال هى عناصر وموضوعات بحاجة إلى ( تطوير ) يتصدى له الفرد تصديا يقوم على الوصاية التى يراها شرعية بل ويراها واجبا من واجباته ، ومن ثم يعمل فيها أدواته الغليظة غير مبال لحقيقة أنه أمام كيانه عضوى حى متكامل البنيان معقد العلاقات والآليات .
وحتى يكون الأمر واضحا ساطعا فإننا نرى أن كلا من موقف الانحياز المطلق إلى هذه الثقافة تعبيرا عن موقف أيديولوجى محض هو غالبا غير مبنى على معرفة علمية حقيقية بهذه الثقافة ، وموقف الانحياز المطلق ضد هذه الثقافة وهو أيضا تعبير عن موقف أيديولوجى محض هو بالضرورة غير مبنى على معرفة أمينة وجادة وموضوعية بهذه الثقافة ، وموقف الحياد المطلق ( الوظيفى ) إزاء هذه الثقافة واتخاذها محض عناصر لا وظيفة لها إلا أن تقدم للمنتفع بالثقافة الشعبية مادة يستخدمها فى نصه الذى ينوى إنتاجه متكئا إلى شذرات من هذه الثقافة على سبيل الترصيع أو الإبهار أو التجديد أو الإيهام بالتأصيل ومخاطبة الوجدان الجماهيرى العام ، بل وأحيانا ادعاء المحافظة على هذه الثقافة ونشرها ، كل من هذه المواقف نراه غير مجد جدوى حقيقية ، ونراه مجانبا للصواب المنهجى فى النظر إلى هذه الثقافة والتعامل معها أيا ما تكون أهداف وطبيعة هذا التعامل ، ذلك أن غياب المنهج العلمى فى تناول قضية الاستلهام هو السـائد ، وحضور الاجتهادات الفطيرة أو السطحية أو العملية والبراجماتية ( النفعية ) هو الأكثر سيادة ، ومن ثم ظلت قضية استلهام " الثقافة الشعبية فى إبداعات فنية حديثة مثار جدل بين المتخصصين والمبدعين ، وجاءت مشاركة النقاد فى هذا الجدل محدودة بدرجة لا تتناسب مع مسئولية هؤلاء النقاد وأهمية الدور الذى يمكن أن يقوموا به فى هذه القضية . ولعل انحصار الجدل فى دائرة الباحثين المتخصصين من ناحية والمبدعين من ناحية أخرى هو الذى انتقل بالحوار العلمى إلى منطقة الاشتباك . ولما كانت علاقة المبدع الفرد – غير الشعبى – بالثقافة الشعبية علاقة شبه حتمية ، إذ لا مفر من التقاطع معها أو حتى مجرد التماس أو الإشمام ، الانغماس فى عالمها أو التصادم معه . وعلى مر قرون من الإبداع الفنى الفردى – غير الشعبى – اتخذ المشهد العام لهذه العلاقة تجليات عديدة ، يغلب على بعضها الإخلاص الحميم لقيم هذه الثقافة والحرص المسئول على سبر أغوارها وفهم رؤية أصحابها للعالم ، وسيطر على بعضها تعسف الفهم واتخاذ مواقف أخلاقية صارمة تدين أحيانا وتسخر أحيانا ، وحكم رؤية بعضها مفهوم مضلل – معيارى أيضا – هو التطوير ، أى أن المبدع الفرد غير الشعبى يدعى لنفسه القدرة ( المستحيلة ) على تطوير الثقافة الشعبية من خلال ما يقدمه هو من أعمال فنية ، وقد واجهنا هذه الدعوى الغليظة مواجهة صارمة منذ مطلع الثمانينات بسؤالنا المباغت : من ؟ يطور ماذا ؟ لمن ؟ (4) ويبقى فى النهاية – وسيظل باقيا وربما سائدا – أحد التجليات وهو استغلال الثقافة الشعبية على نحو ارتزاقى يسوده منطق الاقتباس العجول والاتكاء الفج على مفردات من هذه الثقافة تنتزع من سياقها العضوى انتزاعا جهولا خاملا ومحاولا استزراعها فى ( صوبة ) ، أو تجريف مناطق خصبة من الثقافة الشعبية وحرقها فى قمائن وتخليق لبنات مصطنعة لاستخدامها فى بناء آخر وتحديدا ( بناء آخر ) لأنها فى نظرهم – ولو على مستوى اللاشعور – ثقافة الآخر " (5).

طرائق الاستلهام
يعتمد الاستلهام الفنى للثقافة الشعبية – فى رأينا - طرقا ثلاث للاستدعاء نوجزها فيما يلى :
1- استدعاء بالقراءة أو من خلالها .
2- استدعاء بالتذكر .
3- استدعاء بالمعايشة .
وهذه الطرق بينها اختلاف لا يقف عند حدود الاختلاف فى الدرجة بل يتعداها إلى الاختلاف فى النوع ، لأن كل طريق منها يعكس – فى اختيار الفنان له – رؤية هذا الفنان لمفهوم وطبيعة ووظيفة التراث والمأثور الشعبيين من ناحية ، ولمفهوم وطبيعة ووظيفة الاستلهام أو التوظيف ومن ثم تقنيات هذا الاستلهام من ناحية أخرى ، وهذه الرؤية تتبدى فى تجليات معالجة الفنان موقفا وتقنية .
وإذا كان الاستدعاء بالقراءة يتيح للفنان المستلهم مساحة عريضة من المادة بحيث يكون المنشور من المأثور الشعبى كله فضلا عن مادة التراث الشعبى التاريخى - المحلى وغير المحلى - مادة متاحة لاختياراته ، فإن هذا اللون من الاستدعاء على الجانب الآخر يقلص من اتصال الفنان بحيوية هذه المادة فهو لا يقاربها – خاصة فى التراث دون المأثور - إلا على الصورة المرقومة ( المكتوبة أو المدونة ) لهذه المادة ، وهى صورة ليست دالة دلالة حية نابضة ، إذ هى رقم ( كتابة ) لحكاية أو سيرة أو لجانب واحد من المعتقد هو النص القولى بعد تنحية الممارسة الشعائرية وهى الجانب الأساسى أو الوجه المعول عليه من وجهى عملة المعتقد كممارسة شعائرية فى الأساس يصاحبها آن الأداء العملى نص قولى هو وحده الذى يبقى غالبا محاطا بوصف قصصى يحكى – بالوصف – مراحل الممارسة ، وإما رقم لوصف جانب من حياة الجماعة الشعبية فى واحد من تجلياتها الاجتماعية الاعتقادية أو العملية مقتطعا عن السياق الفعلى الحى المتناغم المتجادل الدينامى وظيفيا . إن وصفا مكتوبا – مهما يكن مدعما بالنصوص المؤداة وبالتوثيق الدقيق – لظاهرة اجتماعية شعبية ( علاجية / اعتقادية ) كالزار لا يمكن أن يعطى القارىء صورة دقيقة للمجريات الحية للظاهرة . إنه باختصار نقل عن صورة جامدة للجسم الحى المفعم بالحركة فى السياق الشعبى للمفردة الثقافية الشعبية ، وهى صورة – فى أحسن تقدير – نزف موضوعها الذى هو ذاتها دمه حتى القطرة الأخيرة وتكفن داخل إطار بارد بحيث لا يتعدى تدوين الظاهرة كونه مجرد شاهد قبر لها ، إلا فى حالة الموسيقى لإمكانية تحول النوتة إلى حيوية الأداء مع ملاحظة انقطاع هذا الأداء عن سياقه الشعبى الاجتماعى الحى وهذا ما غلب على طريقة الاستدعاء هذه لزمن طويل قبل أن يستعين المستلهمون بمقاربة مواد الثقافة عبر وسيط التسجيل المرئى ، وهو وسيط يقدم صورة متقدمة بطبيعة الحال .
أما الاستدعاء بالتذكر فإنه يعلو درجة ( ويختلف نوعيا ) عن سابقه ، وإن ظل الفنان المستدعى واقعا فى حالة تماس مع الظاهرة التى يستلهمها ، يحك جلدها بظفره أو يتحسسها عن بعد ما ، فهو مهما تكن قدرته على تذكر ظواهر شاهدها – عايشها – فى فترات سابقة من عمره وطبقات ثقافته لن يتجاوز حدود استرجاع الملامح العامة الباهتة دون التفاصيل الجزئية – وهى بالغـة الأهمية – ودون جو الأداء الفعلى الحى وهو أحد المحاور الرئيسة لطبيعة الظاهرة موضوع التذكر .
ويجىء أخيرا الاستدعاء بالمعايشة ، وهذه الطريق من طرق الاستدعاء تمثل للفنان ميزة وتحديا ، والميزة والتحدى فيها متلاحمان متجادلان ، بل إن حجم الميزة مرهون بحجم التحدى ، فبقدر ما يتيح هذا الضرب من الاستدعاء للفنان فرصة الدخول إلى رحم الظاهرة وبوتقتها والاختلاط بدمها وتذوق دفء هذا الدم ، فإنه يقيم فى مواجهة الفنان تحديا يعد اجتيازه نجـاحا وبراعة فائقة ومثمرة ، إذ أنه سيكون بمعايشته للظاهرة فى تجربة عناء حقيقى ، يتمثل فى مكابدة حل المعادلة الصعبة ( بالغة الصعوبة ) فى مخالطة الظاهرة والدخول فيها من ناحية وتحقيق قدر مناسب من الانفصال عنها والحياد فى تلقيها والسيطرة على حدودها ، أى الانتقال من التلقى الوجدانى المتأثر إلى التلقى العقلى التحليلى المؤثر فى فهم الظاهرة لا فى الظاهرة نفسها إذ التأثير فيها غير وارد بحال من الأحوال . ويصعب لحد الاستحالة أن يحقق الفنان – الذى يستدعى الظاهرة الثقافية الشعبية بالمعايشة لغرض الاستلهام– الموقفين النقيضين فى آن واحد – هو آن التلقى الحى – أى أن يكون جزءا من الظاهرة داخلا فيها ( عائشا ) وأن يكون كلا محايدا خارجا عن قوانين الظاهرة ( مراقبا ومحللا ) ذلك أنه يعيش ظاهرة تمثل جانبا من مصادر ثقافة جماعته ( أو التى كانت يوما ما جماعته ) وهى جزء من مكوناته الثقافية والوجدانية مهما تكن نسبتها فى بنائه العقلى . ونواجه نحن الباحثين الميدانيين المتخصصين – ومهمتنا علمية أساسا وعلميتها تقتضى حيادنا أو تفترضه – هذه المعضلة إبان عملية جمع المادة ميدانيا ، إذ يتعرض الباحث الميدانى ، مهما يؤتى من مقدرة على الحـياد بالمـران والتوسل بالمنهج العلمى ، للاستقطاب – بصور متفاوتة – من قبل الظاهرة الثقافية الشعبية المؤداة إذ يتحول بدرجة ما – وعلى غير إرادته – إلى جزء من الواقع الإمبريقى للظاهرة فهى جزء من ثقافته أو طبقة كامنة تحت السطح من طبقات هذه الثقافة . وتتباين الآراء – وأغلبها شفاهى لم يتخذ طريقه إلى التقنين النظرى المكتوب – حول تحديد مهارة الباحث وسلامة موقفه داخل هذه المعضلة ، فعلى حين يرى البعض اندماج الباحث الميدانى فى الظاهرة أمرا محبذا على أساس براجماتى ولهدف عملى تحصيلى ، فإن درجة حياد هذا الباحث عن الظاهرة يدخل أيضا فى محددات مهارته ودقته العلمية . على أنه – فى رأينا العلمى الخاص – يعد احتفاظ الباحث الميدانى – فما بال الفنان المبدع - لدرجة توتره بين الانحياز للظاهرة ومحايدتها هو معيار حيوية هذا الباحث وإن كان الثمن باهظا من حيث ما يبزله من طاقة نفسية .
وعلى أساس هذه الطرق الثلاث فى الاستدعاء فإن الفنان المستلهم يبنى عمله ( نصه ) الفنى فى إطار علاقة ما مع المادة الأصلية التى يستدعيها مستلهما إياها .

مَجْمَع الاحتمالات
إن الفنان الفرد من خارج الجماعة الشعبية حين يبنى نصه مستلهما فإنه لا يخرج عن حدود الاحتمالات التالية :
1- البناء ( على ) الثقافة الشعبية : أى يتخذها أساسا يقيم عليه نصه .
2- البناء ( فوق ) الثقافة الشعبية : أى أنه لا يتخذها أساسا وإنما يبنى فوق سطحها .
3- البناء ( مع ) الثقافة الشعبية :
أ – بالتوازى مع هذه الثقافة بحيث يمضى كل منهما بموازاة الآخر مستقلا بذاته .
ب - بالتضفير مع هذه الثقافة فيتحقق لنصه قدرا من الالتحام بهذه الثقافة وهى درجة أفضل من البناء بالتوازى .
4- البناء ( خلف ) الثقافة الشعبية : أى أن نصه يتخفى أو يتوارى وراء هذه الثقافة التى تحتل الصدارة ويجىء نص الفنان الفرد محض ظل لها .
5- البناء ( أمام ) الثقافة الشعبية : أى أن نصه يبرز شاخصا ولا تمثل الثقافة الشعبية إلا خلفية لهذا النص .
6- البناء ( يمين ) الثقافة الشعبية : أى أن نصه يجىء على درجة من التقليدية تجعله متخلقا من قيم ومتواضعات ورؤى هذه الثقافة ، وذلك عن توهم لدى الناص أنه أمين مع هذه الثقافة محافظ عليها فى سمتها الحقيقى الذى يراها عليه .
7- البناء ( يسار ) الثقافة الشعبية : أى أن نصه يجىء مفارقا لهذه الثقافة ورؤية أصحابها للعالم وتجليات هذه الرؤية ، وذلك عن توهم لدى الناص أنه حريص على تجاوزه ما يراه تخلفا من هذه الثقافة .
8- البناء ( ضد ) الثقافة الشعبية : أى أن نصه يجىء مصادما لهذه الثقافة ورؤية أصحابها للعالم وتجليات هذه الرؤية ، وذلك عن رغبة من الناص فى اتخاذ موقف نقدى من هذه الثقافة . وربما يدهش المستلهمون عندمـا نذهب إلى أن هذا حق مشروع ، إلا أنه مشروط ببذل جهد مضن ومضاعف لتحقيق هذه الغاية بحيث لا يجىء البناء المضاد وليد رؤية سطحية أو أيديولوجية متشنجة أو مفرطة لم تعط الثقافة الشعبية حقها من الدرس والتحليل وعمق النظر ، وإنما تعتمد على أحكام معيارية مسبقة تدين قبل أن تستبصر وتدقق النظر وقبل أن توغل فى صحبة هذه الثقافة إيغال السـاعى إلى الفهم والحريص على استبطان المعانى والدلالات والمرامى .
9- البناء ( فى ) الثقافة الشعبية : أى أن نصه يجىء متناغما مع حقائق هذه الثقافة وطرقها فى المعالجات الفكرية والتقنية ، بحيث يتحقق فى هذا النص من الإبداع الخاص ، أو تغلب عليه مجموعة من السمات التى تجعله يبدو آتيا من الثقافة الشعبية وعائدا إليها ، لا تكاد تميزه عنها إلا العين المدققة .
وهذا الاحتمال الأخير هو أصعب الاحتمالات إلا أنه أجود الاحتمالات من حيث الصورة التى يجىء عليها النص القائم على استلهام الثقافة الشعبية ، ومن ثم فهو أندرها من حيث التحقق الواقعى . ولا نكاد نجد من استطاع تحقيق ذلك بالدرجة التى بلغها الفنان الراحل زكريا الحجاوى والذى يمثل عندنا تجربة فريدة ، فما أبدعه مستلهما الثقافة الشعبية تحققت فى أغلبه الأعم الشروط التى جعلت منه إبداعا فنيا يبدو شعبيا إلى أبعد حد ويصعب تمييزه عن الإبداع الفنى الشعبى وروافده الثقافية الشعبية بحيث تقبل الجماعة الشعبية على تلقيه وترديده والتـعامل معه بدرجة ما متقدمة وجديرة بتحليل دءوب بوصفه إبداعها أو بضاعتها ردت إليها .
والشروط التى تحقق شعبية النص الفنى الشعبى تتمثل فى أن الفنان الشعبى يشكل نصه الفنى وفق التقاليد الفنية التى رصفتها الجماعة الشعبية وأرضعتها له فى مهاده الأول بوصفه ابن رحمها الفيزيقى ، وابن رحمها الاجتماعى فعلى يديها تتم تنشئته الاجتماعية ، وابن رحمها الثقافى فهى التى تقوم بتنشئته ثقافيا وضمن هذه التنشئة التنشئة الفنية أى اكتساب التقاليد الفنية . إذن فالفنان الشعبى يبدع نصه محكوما بشروط الجماعة الشعبية وقوانينها ذلك أنه يبدع فى وسط متجانس .
ومن الشروط التى تحقق شعبية النص الشعبى شرط فاصل مميز يتمثل فى أن الفنان ابن الجماعة الشعبية يعبر ( بها ) و ( عنها ) و ( لها ) وفق هذا الترتيب ؛ يعبر عنها أى عن مجمل أحلامها وأشواقها وطموحاتها ومواجعها ، ويعبر لها أى بلغتها الفنية ، وهذان أمران يمكن أن يتوفرا للفنان من خارج هذه الجماعة أو يتوفر له أحدهما عندما يتبنى موقفها العام وينحاز لها سياسيا ، وعندما يتوسل بلغتها الفنية أداة تشكيلية لنصه . أما التعبير بالجماعة الشعبية أى بمجمل رؤيتها للعالم أو الوجود ( موقفها الأنطولوجى ) فإنه غير متاح البتة لغير الفنان الشعبى . هو حتم يكاد يكون طبيعيا بل هو كذلك ، وليس درجة يسعى إليها الفنان ويجتهد لبلوغها ، فالفارق نوعى وليس فارق درجة .
والوصول إلى فهم دقيق لمشكلات الاستلهام المنهجية والبنيوية رهين – فى رأينا – بالوقوف على طبيعة هذا الفارق النوعى الحاسم وتأمله تأملا علميا0 عميقا .

إطلالة على تجربة ( تاريخية ) فى بحث قضية الاستلهام
إننا وفى ضوء هذا الفهم لقضية الاستلهام وادراكا لأهميتها فى حياتنا الثقافية والفنية اتخذنا منها موضوعا لمشروع علمى كبير وعلى هيئة ندوة علمية صاحب مهرجان الاسماعيلية الدولى للفنون الشعبية على مدار دورات ثلاث 1995 – 1997 ، قدر لصاحب هذه الورقة أن يشرف على الندوة العلمية ويعد أوراقها الأساسية حتى الدورة الرابعة 1998 والتى لم تتم لظروف ثقافية وإدارية خارجة عن الإرادة مما لا مجال لمقاربته الآن إذ غاية ما يهمنا هو الوقوف على المرتكزات الأساسية لهذه الندوة ( التجربة ) والتى شارك فيها ببحوثهم ومناقشاتهم عشرات العلماء والخبراء والباحثين والنقاد فضلا عن شهادات أصحاب التجارب الفنية فى مجال الاستلهام ، وقد انطلقت مقاربات المشاركين من ورقة أساسية لكل دورة نحرص هنا على إيراد كل منها بنصه إضاءة لمناطق فى هذه التجربة لعمل جماعى بحثى وبعد مرور أكثر من عقد من الزمان على بدء التجربة وتوقفها وطلبا أيضا لمحاككة نقدية للرؤى التى تضمنتها هذه الأوراق :
" محور: المدخل النظرى والشهادات
تمثل الندوة العلمية فاعلية رئيسية من فاعليات المهاجان الدولى للفنون الشعبية تحقيقا لإضاءات جوهرية ترسخ الجانب العلمى للفاعلية الفنية المتمثلة فى الإبداعات التطبيقية للفنون الشعبية بوصفها جنسا رئيسا من الأجناس الخمسة للثقافة الشعبية ( الفولكلور ) .
وقد حرص المهرجان الدولى فى دوراته السابقة على تحقيق هذا السياق ويؤكد المهرجان على هذه الصيغة التفاعلية بين الجانب الفنى والجانب العلمى من خلال عقد ندوة علمية على مستوى عال تتضافر فيها جهود المبدعين من العلماء والخبراء والباحثين مع جهود المبدعين من الفنانين ، حيث تتلاقى الخبرات المعرفية والإبداعية لأبناء شعوب الدول المشاركة فى المهرجان .
إن عناصر الثقافة الشعبية تقطع شوطا أو أشواطا من التحولات ، من حالة كونها عناصر ثقافية صادرة عن الجماعة الشعبية إلى حالة أو حالات كونها تجليا إبداعيا أنجزته ذوات المبدعين الأفراد استلهاما لعناصر الثقافة الشعبية أو توظيفا لطاقتها وإمكاناتها الفكرية والجمالية ( على تفاوت معروف بين الاستلهام والتوظيف ) ومن ثم نجد أنفسنا أمام سياقين إبداعيين يلتقيان فى إطار شروط موضوعية محددة ، وينتج عن التقائهما منتج إبداعى جديد ، السياق الأول هو السياق الشعبى والسياق الثانى هو السياق الجماهيرى . ولكل منهما بالضرورة سماته النوعية المميزة إبداعا وتلقيا ( انتاجا واستهلاكا ) .
لما كان ذلك كذلك فإن الندوة العلمــية لمهرجان الإسمـاعيلية الدولى للفنون الشعبية ( صيف 1995 ) تتخذ لها عنوانا يعكس هذا التصور ويهدف إلى إضاءة جوانبه وتجلياتها وهو ( الفنون الشعبية من السياق الشعبى إلى سياق العرض الجماهيرى ) . وتضع الندوة مجموعة من المحاور التى تحقق هذه الغاية أو تسعى إلى تحقيقها .
المحور الأول : مدخل نظرى ( تعالج البحوث التى تتناوله العناصر المتضمنة فى عنوان الندوة من منطلق نظرى يناقش طبيعة السياق الشعبى وطبيعة السياق الجماهيرى فى مجال الفنون ) .
ومن البديهى أن يتخذ كل من مصطلحى الاستلهام والتوظيف حقهما من المناقشة العلمية من خلال أوراق بحثية تنفرد بمعالجة كل من المصطلحين أو من خلال الأوراق التى تعالج مفهوم طبيعة السياق الشعبى والسياق الجماهيرى .
المحور الثانى : علاقة عروض الفنون الحركية بأنواع جنس الفنون الشعبية :
ويقوم هذا المحور على خمسة عناصر :
أ – عروض الفنون الحركية والموسيقى الشعبية .
ب - عروض الفنون الحركية والأدب الشعبى .
ج - عروض الفنون الحركية والرقص الشعبى .
د - عروض الفنون الحركية والفنون التشكيلية .
ﻫ - عروض الفنون الحركية والدراما الشعبية .
ويمكن للأوراق البحثية التى تعالج عناصر هذا المحور أن تغطى مجمل العلاقات التى تربط بين عروض الفنون الحركية التى تستلهم أو توظف أنواع الفنون الشعبية أو عناصر من هذه الأنواع .
المحور الثالث : علاقة عروض الفنون الحركية ببقية أجناس الثقافة الشعبية :
أ - علاقة عروض الفنون الحركية بالقيم والتصورات والمعتقدات الشعبية .
ب - علاقة عروض الفنون الحركية بالخبرات والمعارف الشعبية .
ج - علاقة عروض الفنون الحركية بالعادات والتقاليد الشعبية .
د - علاقة عروض الفنون الحركية بالتشكيل المادى الشعبى .
وتحرص هذه الندوة على أن تتخذ الأوراق المقدمة لها طريقتين لمعالجة عناصر هذه المحاور :
1- البحث النظرى أو التطبيقى بالنظام المعروف فى إعداد البحوث العلمية .
2- الشهادة التى يقدمها أصحاب التجارب التطبيقية سواء كانوا من المبدعين ( تصميما أو تدريبا أو تلحينا أو إخراجا أو تنظيما ) أم كانوا من الباحثين أصحاب التجارب فى متابعة أو محاولة أو توجـيه الأعمال الإبـداعية أو التنظير لها ( تجارب محددة ) (6) .

محور : عروض الفنون الحركية وجنس الفنون
حددت الندوة العلمية لنفسها منذ البداية مشروعا واضح المعالم ، يناسب من حيث فلسفته وتوجهه وفروضه الأساسية ، ومن حيث مراحل تنفيذه – أو محاولة تنفيذه – حجم وأهمية قضية استلهام وتوظيف الثقافة الشعبية ( = الفولكلور ) فى المبادرات الفنية التى يبدعها أو يصوغها الفنانون غير الشعبيين لغاية العرض الجماهيرى ومن ثم فقد اتخذ هذا المشروع وهذه القضية – معا بالضرورة – اسم ( الفنون الشعبية بين السياق الشعبى وسياق العرض الجماهيرى ) .
وحرص هذا المشروع العلمى على أن تكون مرحلته الأولى / دورته الأولى ( 1995 ) هى مرحلة تعرف نظرى وتطبيقى عام ، والخروج بالموضوع من منطقة ( المتشابه ) حيث يغلب الحديث المرسل والشفاهى ، ووفق ما تتيحه الصدفة من لقاء الدوائر المتماسة ، إلى منطقة ( المحكم ) أو مقاربة هذه المنطقة حيث يفترض وينبغى ويُتوقع أن يسود الدرس الموثق المتجه إلى التحليل العلمى بإصرار وترصد ، فضلا عن اللقاء المحتشد بالمنطق وقواعد المنهج العلمى لمناقشة الاجتهادات بما هى أهل له من احتفاء .
ويقتضى التسلسل المنطقى – فضلا عن المنهجى بداهة – أن ننتقل من منطقة رصف المقدمة العامة أو وضع حدودها – وهو ما نأمل أن تكون بحوث الدورة الأولى قد حققته أو أنجزت بعضه – إلى منطقة التحليل العميق الذى يتناول محورا محددا من محاور الموضوع / القضية / المشكل . ويسبر – أو يسعى إلى سبر – أغواره بما يتيحه تعدد الرؤى والمناهج من أدوات التحليل العلمى الرصين .
ولما كانت غاية هذا المشروع هى دراسة الفنون الشعبية بين سياقين ، أولهما السياق الشعبى أى حالة كون هذه الفنون إبداعا شعبيا تنتجه الجماعة الشعبية لوظيفة بعينها ووفق قوانين وتقاليد وتقنيات فنية محددة وهو ما نستقر على تركيزه فى عبارة جامعة : ( الجماعة الشعبية لا تنتج فى فراغ ولا تبدع فى فوضى ) أى أنها تنتج الفن لوظيفة وتبدعه محكومة / حاكمة بقوانين وتقاليد ومواضعات صارمة لا يتجاوزها المبدع الشعبى الفرد ، هو لا يسعى إلى ذلك ولا يتأتى له أن يسعى ، ذلك أنه – وفى صيغة حتمية – يبدع فى وسط متجانس لا يشب فيه الفرد عن طوق الجماعة .
أما ثانى السياقين فهو سياق العرض الجماهيرى ، أى حالة كون هذه الفنون – أو وعاؤها الأكبر وجنس أجناسها أى الثقافة الشعبية – متناصة : مستلهمة أو مـوظفة أو مقتبسة ( والحدود بين هذه التوجهات / المستويات / التجليات غير متماهية أو منفرطة ، وإن بدا الأمر كذلك أو على شىء منه ) سواء أجاءت المقاربة / التناص مع الروح العام لهذه الفنون أم مع نص بعينه أم مع عنصر بذاته ، وسواء أجاءت مع البناء الكلى مترابطا بقضه وقضيضه أم مع شكله أو بعض شكله ، أو مضمونه أو قبضة – أو مجرد حسو الطائر – من هذا المضمون ، إن جاز – وهو غير جائز شرعا – فض هذا القران الأبدى بين شكل العمل الفنى ومضمونه الذى يحدد هذا الشكل ويصوغه فإذا نحن إزاء بناء صارم التكوين .
إن غاية رئيسة من غايات هذا المشروع العلمى هى الوقوف على طبيعة وآليات تلك الرحلة الشديدة التركيب والتى يقطعها النص الفنى ( غير الشعبى ) وصاحبه ( الفنان الفرد غير الشعبى ) من لحظة توفر نية مقاربته للسياق الشعبى ، ودوافع هذا الفنان وتصوراته وراء وإزاء هذا التوجه المتميز ، مرورا بآليات وتقنيات هذه المقاربة ، وانتهاء بتجلى النص متوجها به إلى جمهور / متلق من خارج السياق الشعبى ، وإن انطوى هذا الجمهور على متلقين يحملون سمات الشعبية ولو كانت خالصة ( المثال الساطع على مثل هذه الحالة أن يشاهد أبناء الجماعة الشعبية عملا فنيا تليفزيونيا يلامس مصدرا شعبيا دون أن يقود مثل هذا الوضع إلى عد العمل المبثوث شعبيا أو ينتمى إلى السياق الشعبى ) . هذه الرحلة العضوض ومحاولة جس نبضها الفكرى / الفلسفى ، والتقنى التشكيلى ، تمثل تحديا حقيقيا للدرس العلمى ( الموضوعى بطبيعته ) لاشتباك ظاهرة الاستلهام والتوظيف والاقتباس ... إلخ بكثير من المشكلات الجوهرية والعرضية على السواء ، وبكثير من الظلال والحواشى والجيوب . على أن صعوبة الأمر – من جوانب عديدة – لا ينبغى لها أن تحول دون المحاولة . والعلماء والباحثون ديدنهم وقضية عمرهم مجادلة الظواهر ومحاورتها لا التراجع أمامها أو تجاهلها ، ومغامرتهم الحقيقية تتجلى فى مشاكسة الظواهر واختراقها بالتحليل لا مداعبتها وتركها تمضى فى حال سبيلها ، ولو اقتصرت بعض المراحل فى دراسة الظاهرة على إثارة التساؤلات وتحديد المشكلات الحقيقية ، ولكن ذلك – فى حد ذاته – يمثل حلقة مهمة فى حلقات تناول أى علم لظاهرات موضوعه .
إن تعريفا للفنون الشعبية تتبناه هذه الورقة ليتمثل فى أن ( الفن الشعبى هو ذلك النشاط النوعى الذى يسعى فيه إنسان الجماعة الشعبية إلى إعادة تشكيل / صياغة الواقع تشكيلا رمزيا يعكس فيه موقف جماعته من العالم . ويتجاوز فى هذا التشكيل – بوعى جـماعى خاص – المستوى الإشارى وصولا إلى الطاقة الرمزية الكامنة فى لغة القول أو النغم أو الحركة أو الخط وهو يشكل من هذه الطاقة الرمزية نصا جماليا ، وهو يعبر فى هذا التشكيل الجمالى بالجماعة الشعبية وعنها ولها ) .
وتتبنى هذه الورقة فى شأن الفنون الشعبية تقسيما / تصنيفا يراها جنسا من أجناس الثقافة الشعبية يقوم على خمسة أنواع هى : ( الفن القولى – الفن الموسيقى – الفن الحركى – الفن التشكيلى – الفن الدرامى ) .
وتهدف دورة هذا العام من الندوة إلى دراسة رحلة توجه المبدع الفرد – غير الشعبى بداهة – إلى مقاربة أنواع هذه الفنون ( الشعبـية بداهـة ) وإلى انـتاج إبـداع جمالى آخر ( ومفارق ) يحرص على أن يشير فيه إلى مصدره أيا ما كان موقفه من هذا المصدر ( متبنيا لرؤيته وتجلياتها التشكيلية أو رافضا لها ، متعاطفا معها مشفقا عليها أو مشفقا منها ... إلى آخر صور المواقف القائمة أو المتوقعة ) .
وتأمل الندوة أن تغطى البحوث علاقة عروض الفنون الحركية بكل نوع من أنواع جنس الفنون الشعبية من خلال معالجات تحليلية ، دون إغفال لدور البحوث النظرية التى تنظّر للظاهرة أو تقننها ، فضلا عن دور الشهادات التى يبادر إلى تقديمها أصحاب التجارب التطبيقية من المبدعين بحيث تصل المعالجات فى مجملها وبالتلاقى أو بالاختلاف المشروع إلى إحاطة ولو نسبية بجوانب هذه الظاهرة الفنية / الثقافية التى لا تزال – وربما ستظل إلى حين بعيد – قيد النظر والتأمل .

محور : عروض الفنون الحركية وجنس العادات والتقاليد
ارتبطت العادات والتقاليد – وتظل ترتبط – بدورة الحياة ، فليس ثمة زمن من أزمنة حياة الإنسان ( فى الجماعة الشعبية ) حتى قبل أن يولد إلا وارتبط بعادة تحرص عليها الجماعة أو تلتزم بها ، لعلها بمعنى أدق تلزم نفسها بها ، بل لعلها لا ترى نفسها إلا بها . بل أكثـر من ذلك ومما لا يخفى عميق دلالته أن بعض المجتمعـات تطلق على القانون العرفى – وهو سلطة حاسمة قاطعة فى حكم وتنظيم شئون وعلاقات أفراد هذه المجتمعات – مصطلح " عوايد " . ولئن كانت العادات فى بعض جوانبها خالصة إلى معانى وأحكام القانون بمعناه الاصطلاحى المحدد فى التشريع والحكم والنظم الرسمية ، فإن العادات جميعا هى – فى حد ذاتها – قانون من قوانين الجماعة الشعبية تسيج بها عالمها ، وتناغم بين علاقاته تنظيما لها وضبطا وتوثيقا لعراها وتمتينا .
والعادات الشعبية ملتحمة بالقيم – التى هى عنـدنا منظومة تجريدية من المبادىء العامة – ونابعة منها عاكسة لها على هيئة تجليات سلوكية ( عملية ) . والعادات فى الوقت نفسه متواشجة مع كل أجناس الثقافة الشعبية ( وبالتالى مع كل أنواعـها ونويعاتها وعناصرها ) تواشجا سبائكيا ، إذ هى جنس من هذه الأجناس ، أو هى جهاز حيوى من أجهزة هذه الكيان العضوى ( الثقافة الشعبية ) لا يفصلها إلا تعسف الدرس ، ومقتضيات الفحص ، لا تشفع عنهما إلا غاية التحليل العلمى بوصفه سبيلا إلى الفهم وطأت البشرية له المناهج والأدوات ، وتتعهدها بالتطوير والإحكام بحيث تكفكف من واحدية نظرته وتقوده إلى أن ينظر إلى كل ظاهرة من الظواهر بوصفها تقوم على قوانين ذاتية لا تنفصل لحظة أو بعض لحظة عن القوانين الأشمل والأعم التى تحكم الظواهر والمجتمعات .
وإذا كانت العادات تعكس بعضا من جوهر الجماعات التى ترصف هذه العادات وتلتزمها ، وتعكس فيها قيمها وأعرافها وغاياتها الأساسية فى البقاء الآمن والاستمرار المحفوف بالاستقرار والسيطرة اليقظة الصارمة والمرنة على واقعها الاجتماعى وعلى حركة العلاقات بين أفرادها ، فإنها تنعكس كذلك أو تتجلى فى أنواع جنس فذ من أجناس ثقافة الجماعة الشعبية ، هو جنس الفنون . وهو جنس منفتح طبيعة ووظيفة على بقية الأجناس يرسخها ويؤكدها ويعبر عنها بل هو يعبر بالجماعة عبورا رشيقا ( ذا سحر خاص ) من قبضة إحساسها بغموض بعض عناصر هذه الأجناس – أو تعمدها تعميتها – إلى رحابة الكشف والجلاء بل وتحقيق الغلبة ( مثلا : الاعتقاد فى الجن وتداخلها المؤثر مع حياة الإنسان اعتقادا يبلغ عند كثير من الجماعات من القوة حدا باهظا ، ولا يجد الإنسان مخرجا من هذه المعضلة الكلية إلا خلال تشكيلها على هيئة عناصر تحملها صور الفن المختلفة ، تنضغط فيها رموزا أو تحل فيها أقوالا وخطوطا وألوانا وظلالا أو حركة وإشارة أو نغما وإيقاعا أو شخوصا وحوارا وأحداثا . وكل ذلك بطبيعة الحال يلتف حول جذوع وفروع وأغصان من الطقوس ، أو يلتبس بها ، ليمتزج معها ويعانقها أو يراقصها وقاية أو دفاعا ، مقتحما خوف الجماعة أو حتى مقاربته أو مسه بل ربما مراوغة مصادر الخوف والتحايل عليها ) .
والعادات تتخذ من جنس الفنون مجلى من أهم المجالى التى تجسدها أو تشخصها ، وتكشف عن مراميها ودلالتها ورموزها ، بحيث يندر أن نجد عادة أو بعضا من عادة إلا وقد اتخذت سبيلها إلى عناصر نوع من أنواع جنس الفنون تنشد عنده التجلى الجمالى والتكريس الإبداعى، حتى أن عادات الموت وجدت لها فى فنون القول والموسيقى والحركة والتشكيل والدراما ما تصاغ فيه أو تتوسل به فى التجلى المعبر عن حاجات إنسان الجماعة الشعبية من بنى البشر والطبقات جميعا فى التعبير ( بالتشكيل الفنى ) عن التجارب الحيوية، أليس فى قول العديد (المراثى) والتوقيع على الدفوف أو الطسوت والأداء الحركى فى الندب ، واتخاذ الألوان فى الأزياء، وأصباغ الوجوه وتشكيل عمارة المثوى الأخير ما يتوزع على أنواع جنس الفنون بما تقوم عليه هذه الصور الإبداعية من خصائص وسمات نوعية هى خصائص الفن وسماته المميزة له ـ نوعيا ـ عن غيره من الأنشطة البشرية. خلاصة القول إن حياة إنسان الجماعة الشعبية تنتظمها عادات (وتقاليد) هذه الجماعة وإن هذه العادات والتقاليد غالبا ما تتخذ من فنون هذه الجماعة مجلى أو وسائط للتجلى، ولا مندوحة للجماعة الشعبية عن هذا السبيل ما دامت العادات نسقا من أنساق النظام الذى يقوم عليه وجودها بما هى جماعة إنسانية فى واقع محدد بحتمياته الفيزيقية (الطبيعية) والميتافيزيقية (وراء الطبيعية) والطبقية (الاجتماعية) وبما هى جماعة تجادل هذا الواقع وتسعى إلى امتلاكه وإخضاعه لصالحها بكل الوسائل ومن بينها ـ بالضرورة ـ الفن (الموازى الرمزى للواقع). إن الفنان الذى يستلهم أو يوظف ما للجماعة الشعبية أو يتناص معه إنما يتجه إلى مقاربة هذه الشبكة المعقدة من العلاقت والتجليات التى تبدهه وتدهشه بما يراها عليه من غرائبية ، وقد تستفزه بما يظنها عليه من تشوش ولا انتظام ، وهو فى كل الحالات يتخذ مما (يقف ) عنده (موقفا) يختلف من فنان لآخر، وهو اختلاف قد يكون فى الدرجة وقد يكون فى النوع ، لكنـه فى كل الأحوال محكوم بانتماء هذا الفنان اجتماعيا، وبثقافته ، ووعيه، ومعرفته ، ورؤيته ، وفى جملة واحدة (موقفه من العالم) . ولما كانت العادات (والتقاليد) الشعبية جنسا من أجناس الثقافة الشعبية تتجلى أنواعه وعناصره واضحة شبه خالصة (شبه مستقلة) فى سلوك أفراد هذه الجماعة من ناحية، ومن ناحية أخرى تتجلى عبر أنواع من الفنون أوتتوسل بها فى توحد معها ، أوعلى درجة من درجات التداخل والجدل أو التلاقح بينهما فإن الفنان الفرد الذى يقصد إلى الانتفاع بالثقافة الشعبية استلهاما أوتوظيفا ـ أو على أى نحو من أنحاء الانتفاع - أمامنا فى أحواله ثلاثة احتمالات لا رابع لها ، فإما أن يقف عند عادات الزواج ـ مثلا ـ فى ذاتها ويرى فيها ما يصلح لإبداعه الذاتى، أو يقف عند الإبداع الفنى الشعبى الذى يؤدى فى معية هذه العادات بصرف النظر عن العادات نفسها ، أو يقف عند مظاهر هذا الإبداع فى حالة تواشجها مع العادات التى توسلت بها أواستوسطتها . لكننا فى الأحوال جميعا نجد أنفسنا أمام تجليات فنية فى سياق عروض جماهيرية تناصت مع شىء من الثقافة الشعبية، وهذه التجليات الفنية غير الشعبية والوقوف على مصادرها الشعبية، ومواقف وعلاقات المبدعين وإبداعهم من هذه المصادر هى هنا محل النظر العلمى. وتسعى دورة هذا العام من الندوة إلى دراسة مبادرة المبدع الفرد ـ من غير أبناء الجماعة الشعبية ـ إلى مقاربة العادات والتقاليد الشعبية أو ما يرتبط بها من إبداعات فنية شعبية سواء جاءت مقاربته الإبداعية هذه متوجهة إلى العادات والتقاليد فى ذاتها أو إلى الفنون ذات الصلة مستقلة عن العادات والتقاليد، أو للجنسين معا فى تزاوجهما أو تواشجهما. وتأمل الندوة أن تغطى البحوث علاقة العروض الفنية التى تقدم لسياق العرض الجماهيرى بمصادرها من العادات والتقاليد والفنون ذات الصلة بها فى السياق الشعبى قائمة ـ أى هذه البحوث ـ فى الأساس على المعالجات التحليلية، دون إغفال لدور البحوث النظرية، التى تسعى إلى أن تناقش القضايا النظرية فى موضوع التناص بين السياقين الشعبى والجماهيرى، وتظل الشهادات التى يقدمها أصحاب التجارب التطبيقية من المبدعين ـ على اختلاف تخصصاتهم ومصادرهم الفكرية ـ ذات دور جد مهم فى جلاء صورة الظاهرة المزدحمة بالمفردات والمتشابكة بالعلاقات ، سواء كانت علاقات تناغم أو تنافر ، تماس أوتقاطع، تلاق أو تقابل (بالتناقض أو بالتضاد) إذ الغاية من اختيار موضوع الندوة على امتداد دوراتها هو اختبار هذه الظاهرة علميا، سواء بالبحث النظرى يقنن أو يسعى للتقنين (أو التعميم العلمى) وهو ما يستوجب بداهة الاستقراء والتأمل والتأصيل، أو بالبحث التطبيقى (النقدى بالضرورة) وهو ما يقتضى تحليل التجارب الإبداعية على مستوى السياقين، وصولا ـ أو سعيا للوصول إلى ـ لماذات التناص (الاستلهام ـ التوظيف ... إلخ) وكيفات هذا التناص، وبالشهادات الواقعية التى يسعى فيها أصحاب التجارب إلى محاولة رصد تجاربهم ، والتباصر والتبصير باجتهاداتهم بالقدر الذى يتيحه تنوع وتراتب القدرات المختلفة لرصد الذوات لموضوعات تصدت لمعالجتها . وقد تتضمن هذه التجارب إضاءات لمنظرين أو آراء لنقاد تطبيقيين ، استلهمها – هى الأخرى – هؤلاء المبدعون أو غضوا الطرف عنها ، تمثلوها أو نبذوها ، وجدوا فيها خيرا ، أو وجدوا الخير فى الإبداع بعيدا عنها وفى حرية من قيود ضوابطها .

محور : عروض الفنون الحركية وجنس المعتقدات
إن ما نطمئن إلى الأخذ به تعريفا للمادة التى يعنيها مصطلح الثقافة الشعبية هو أنها ذلك الكل المترابط من معطيات النشاط الإنسانى والناتج عن جدل الجماعة الشعبية مع واقعها الفيزيقى والميتافيزيقى والطبقى ، ساعية فى هذا الجدل إلى إخضاع الواقع لسيطرتها وتحقيق وجودها الإنسانى منتفعة بمادة هذا الواقع صائغة منه عالما متجانسا ومألوفا وآمنا تأنس إليه وتطمئن إلى استجابته لها ولنشاطها الإنسانى المقاوم ولحتميات هذا الواقع الطبيعية وفوق الطبيعية والاجتماعية .
وبهذا التعريف فإن كل النشاط المادى والروحى الذى يصدر عن الجماعة الشعبية إنما هو ضرب من ضروب الثقافة ، ذلك أنها منذ أن توجد فى مكان وزمان وتهم إلى بدء أول حركة تجاه المكان ( وهو ما لا يتم حتما إلا فى زمان ) تكون قد بدأت فى الـتو واللحظة فى ( ثقف ) الواقع أى إخضاعه وتهذيبه وصياغته صياغة إنسانية ، وتمضى بعد ذلك فى تحوير صور الإخضاع والتهذيب والصياغة بما يلائم تطور هذه الجماعة ونمو وعيها بذاتها وبموضوعها الرئيس ( الوجود ) . وهى بطبيعة الحال لا تلقى من واقعها استسلاما أو استجابة آلية ، وإنما تلقى حتما مقاومة فظة لا يسعفها فى مواجهتها إلا تراكم الخبرة وتطور القدرة ونضج الرؤية باقتران التجارب الحيوية بالابتكار وتجريد المعرفة وصقل أدواتها فى صياغة الواقع وهى فى هذا كله تجرى فرزا لا يتوقف للمعضلات التى تلقاها ، فثمة ما هو طبيعة ذات قوانين عصية على السيطرة وعلى الفهم وإن فهمها الإنسان سيطر وإن سيطر عليها فهم ، وما استمر على استعصائه على السيطرة وعلى الفهم لا يمكن للجماعة أن تتركه معلقا فى فراغ ، بمعنى أصح أن تترك نفسها معلقة إزاءه فى فراغ ، وإنما هى تحيله إلى ما وراء الطبيعة والذى جعلت منه مستودعا تدفع إليه بكل ما ند عن طوق سيطرتها عضليا أو ذهنيا . على أن هذا المستودع لا تدفع إليه الجماعة الشعبية الظواهر على هيئتها من الغموض والجلافة والغفولة ، وإنما تكتسب الظاهرة وهى فى طريقها إلى مستودع الميتافيزيقا تفسيرا إنسانيا يجعل باب هذا المستودع مفتوحا ، بحيث تظل الصلة بينها وبين مودِعها الإنسان قائمة وحيوية ومرهفة ، بل إن الصلة بينها وبين الظواهر الطبيعية لا تكاد تنقطع ، ومن ثم فإن مستودع الماوراء هذا يظل مزدحما ومائجا بما لا حصر له من المفردات التى تأخذ فى التشابك مشكلة عالما يحفه الغموض والرهبة والرجاء وتحرس بوابته منظومة من الطقوس هى وسـائط هذه الجماعة ومكمن تحايلها على الظواهر المخيفة والمستغلقة على الفهم الجمعى ، وليس ثمة مفر أمام الجماعة الشعبية من التكيف مع تداخل العالمين . وغاية ما يجود به واقعها العقلى والروح هو ساتر شفيف قائم بالكاد بين هذين العالمين ، ولكنه ساتر لا يخلو من إحكام ، وذلك هو التابو تنسجه الجماعة بدأب وإلحاح مدفوعة بمخاوفها وحرصها على سلامة عالمها الفيزيقى والاجتماعى ، وهى تتعهد هذا النسيج بمداومة رتق ثقوبه التى قد تنفلت منها بعض قوى هذه الظواهر لتصيب بعض هذه الجماعة أو ( تمسه ) فيضطرب على نحو ما نرى فيمن تتلبسه الجن مثلا من جراء كسر التابو .
وإذا كان هذا العالم الثانى المتداخل هو صنيعة العقل الجمعى فإن الجماعة الشعبية بحكم إلحاح هذا العالم وشدة تداخله تأبى إلا أن تجسمه بل تشخصه وتنتقل به من مجال التصورات ( الهيولى ) إلى مجال التجسيدات والتشخيصات ( الصورة ) .
وإننا إذا كنا قد وضعنا – فى تقسيمنا العلمى لمادة الثقافة الشعبية – القيم / التصورات والمعتقدات فى جنس واحد ينصرف فى اضطراد التقسيم والتصنيف إلى أنواع ونويعات فإن تعريفنا للتصورات يذهب إلى أنها مجموعة المفهومات الذهنية التى تشكلها الذات الإنسانية إزاء الموضوعات، وهى مفهومات فى عمومها كلية الطابع، ولا تكتسب شعبيتها ـ شأن كل أجناس وأنواع ونويعات ومفردات الثقافة الشعبية ـ إلا إذا تحقق لها القدر المناسب من التواتر والاضطراد أفقيا (مكانيا ) ورأسيا (زمانيا). ولما كانت التصورات تستغرق المعتقدات ـ إذ الأخيرة ضرب من ضروب التصور ـ فإن أى تعريف نضعه للمعتقدات لابد أن يقوم على تعريفنا للتصورات مضيفا إليه حدودا تعريفية، إن هى جمعت خصائص المعتقدات حصرا فإنها تمنع دخول ما ليس معتقدا من التصورات، والتى تشمل بطبيعتها المعتقد وغير المعتقد، ومن ثم فإن المعتقدات هى: تلك المجموعة من التصورات التى اكتسبت قدرا من التقديس وقد تكون مصحوبة بشعائر أو طقوس . إذن فالتقديس حد لازم من حدود تعريف المعتقدات (كل معتقد تصور وليس كل تصور معتقدا). أما الشعائر أو الطقوس فليست من لوازم كل معتقد ، فبعض أنواع المعتقدات يقترن بهذه الشعائر أو الطقوس وبعضها الآخر لا يقترن. بل إن معتقدا واحدا قد يكون مقترنا بشعيرة أو طقس فى حالة بعينها ولا يكون مقترنا بشىء من ذلك فى غير قليل من الحالات، فمثلا ثمة من يعتقد فى الحسد أو فى الأولياء وكراماتهم أو القديسين ومعجزاتهم دون أن يرفد اعتقاده هذا بشعيرة أو طقس الرقية أو النذر أو الأضحية مما يمكن أن يمارسه بعض أفراد الجماعة فى ظروف بعينها. وإذا كانت الجماعة الشعبية قد صاغت عالمها الغيبى على صورة موازية (ومتداخلة) لعالمها الطبيعى والاجتماعى بحيث بنت نسق ما لا تراه شاخصا مستلهمة ما تعيشه وتلمسه فى عالم الشهادة من صور للهيئات والعلاقات والتنظيمات، فحولت الجن مثلا إلى هيئات الحيوان وقسمتها أنواعا وعشائر وعائلات وأسكنتها البر والبحر والبيوت والآبار والأشجار بل وأبدان الإنسان، فإن هذه الجماعة الشعبية تدير علاقتها بهذا العالم عبر منظومة متشابكة من التدابير والإجراءات والوسائط كرا وفرا، وقاية وعلاجا، استرضاء واعتذارا، بل واستخداما وتسخيرا كما نرى فى تسخير الإنسان للجن وغيره من القوى الغيبية، وهو أبرز ما يكون فى السحر الذى اتخذه الإنسان منذ أقدم العصور وحتى لحظتنا الراهنة أداة من أدوات السيطرة على الواقع. وليس من مهام هذه الورقة ولا فى خطتها أن تستعرض صور وتجليات المعتقدات الشعبية فهى من الكثرة والتنوع بما يستدعى كثرة وتنوع التخصصات الدقيقة فى تناول هذه الظاهرة الرحبة وما تفيض به من عناصر ومفردات. وإذا كان تعريفنا للفن هو أنه ضرب من النشاط الإنسانى النوعى، يسعى فيه الإنسان إلى إعادة تشكيل الواقع على نحو رمزى يوازى به الإنسان واقعه موازاة رمزية تعكس علاقات هذا الواقع فى تشكيل جمالى يعبر عن رؤية الجماعة للعالم وموقفها تجاهه، ويتوسل الإنسان فى هذا التشكيل بوسائل وأدوات يميز كل منها نوعا فنيا بعينه سواء أكان ذلك قولا، أم نغما ، أم حركة، أم لونا، أم كتلة، وفى كل الحالات فإن الفنان يتجاوز الطاقة الإشارية المباشرة فى أبجديات هذه الأدوات وصولا إلى المستوى الرمزى من خلال إعادة تركيب حروف هذه الأبجديات ومفرداتها وجملها بلوغا لغاية صياغة نصوص جمالية قولية أو موسيقية أو حركية أوتشكيلية أو درامية ، فإن ما لا نحتاج إلى إيضاحه والتدليل عليه والتمثيل له هو اتخاذ الجماعة الشعبية لهذا الضرب من النشاط النوعى المتميز وسيطا من وسائط مجادلة (بل ومجالدة) هذا العالم الغيبى المفعم بالحيوية والمراوغة والاقتحام الدءوب لعالم الإنسان (جسدا وروحا ، يقظة ومناما) ولما يقع فى دائرة وسائل حياته حيوانا ونباتا وجمادا، ويكفى أن نشير إلى أن كثيرا مما يمارسه إنسان الجماعة الشعبية من إجراءات وتدابير ومن بينها الشعائر أو الطقوس يتجلى ـ فى مجمله ـ على هيئة إبداع فنى قولى أو موسيقى أو حركى أو تشكيلى أو درامى. ولعل النموذج الأمثل لذلك يبرز جليا فى طقوس الزار، والذى نرى أنه حين يقدم صورة ساطعة من صور المعتقدات الشعبية بالغة العمق والحدة، فإنه فى الوقت نفسه يقوم فى الممارسة الشعبية على الإبداع الفنى الجامع لكل أنواع جنس الفنون، لا يكاد يترك نوعا من أنواعه إلا التمس فيه حاجة من حاجات التعبير وإلا توجه إليه مشكلا عبر أدوات هذا النوع وتقاليده الفنية نصوصا تعكس الوظائف الأساسية للفن ورؤية إنسان الجماعة الشعبية للعالم، بل إن الزار ـ تحديدا ـ يتجاوز ذلك إلى حد أن يمثل منظومة متشابكة تحتشد فيها غالبية أجناس وأنواع الثقافة الشعبية. على أنه تجدر الإشارة هنا ـ ربما على سـبيل التذكير أو دفع اللبس مهما تقـل فرصة وقوعه ـ إلى أن المقصود بالمعالجة هنا فى هذه الندوة لا يقتصر على ما يقترن بالمعتقدات الشعبية من طقوس أو شعائر، أو ما يتخذه إنسان الجماعة الشعبية من تدابير وإجراءات تكريسا لرغبة فى استرضاء الكائنات الغيبية التى يعتقد فى وجودها وتأثيرها فى حياته، أو دفع شرها وعلاج أضرارها أو ما يصبه من تدابيره وإجراءاته فى قوالب فنية، وإنما تمتد المعالجة إلى ما ينطوى عليه فكره ووجدانه من تصورات اعتقادية تبدو تجريدية ثم تشخص فى طقوس أو تنتج ممارسات عملية، إذ من المعتقدات ما يقف عند حد التصور القداسى، الذى ينطوى عليه الاعتقاد ، ومنها أيضا ما يتجلى فى إبداع أدبى صرف كبعض أنواع الحكاية الخرافية. ولقد اتخذ المبدع الفرد ـ من غير أبناء الجماعة الشعبية ـ من كل ذلك مصادر لاستلهامه وتوظيفه، على تفاوت فى استقصاء الظواهر واكتشاف بنيتها وظيفة وتشكيلا ، وعلى اختلاف فى الموقف بين فنان وآخر من هذه المعتقدات وتجلياتها الفنية الشعبية جملة وتفصيلا مركزا وأطرافا. وتسعى دورة هذا العام من الندوة إلى تناول مبادرة هذا المبدع الفرد إلى مقاربة التصورات والمعتقدات الشعبية أو ما يقترن بها من شعائر أو طقوس أو ما يرتبط بها من إبداعات فنية شعبية ، وخاصة فى مجال عروض الفنون الحركية التى تقدم جماهيريا ، سواء أجاءت مقاربة المبدع الفرد للتصورات والمعتقدات الشعبية ومحاولة استلهامها أو توظيفها هى فى حد ذاتها، أم اتجهت إلى التجليات الفنية الشعبية تلتمس عندها مادة للاستلهام أو التوظيف. وتأمل الندوة أن تغطى البحوث المقدمة علاقة العروض الفنية التى تقدم لسياق العرض الجماهيرى بمصادرها من التصورات والمعتقدات والفنون ذات الصلة بها فى سياقها الشعبى، قائمة ـ أى هذه البحوث ـ فى الأساس على المعالجات التحليلية دون إغفال لدور البحوث النظرية التى تسعى إلى أن تناقش القضايا النظرية فى موضوع التناص بين السياقين الشعبى والجماهيرى، وتظل الشهادات التى يقدمها أصحاب التجارب التطبيقية من المبدعين ـ على اختلاف تخصصاتهم ومصادرهم الفكرية ـ ذات دور جد مهم فى جلاء صورة الظاهرة المزدحمة بالمفردات والمتشابكة بالعلاقات سواء كانت علاقات تناغم أو تنافر ، تماس أو تقاطع ، وتلاق أوتقابل (بالتناقض أو بالتضاد) إذ الغاية من اختيار موضوع الندوة على امتداد دوراتها هو اختبار هذه الظاهرة علميا، سواء بالبحث النظرى يقنن أو يسعى للتقنين (التعميم العلمى) وهو ما يستوجب بداهة الاستقراء والتأمل والتأصيل أو بالبحث التطبيقى (النقدى بالضرورة) وهو ما يقتضى تحليل التجارب الإبداعية على مستوى السياقين وصولا ـ أو سعيا للوصول إلى ـ وظيفة أو وظائف التناص (الاستلهام ـ التوظيف .. إلخ) ومناهج وأدوات وأساليب هذا التناص وبالشهادات الواقعية التى يسعى فيها أصحاب التجارب إلى محاولة رصد تجاربهم والتباصر والتبصير باجتهاداتهم بالقدر الذى يتيحه تنوع وتراتب القدرات المختلفة لرصد أصحاب هذه التجارب لموضوعات تصدوا لتناولها فنيا ، وقد تتضمن هذه التجارب إضاءات لمنظرين أو آراء لنقاد تطبيقيين استلهمها ـ هى الأخرى ـ هؤلاء المبدعون أو غضوا الطرف عنها، تمثلوها أو نبذوها وجدوا فيها خيرا ، أو وجدوا الخير فى الإبداع بعيدا عنها وفى حرية من قيود ضوابطها. ويجدر التنويه إلى واحدة من أبده البديهيات هى أن هذه الورقة بما تضمنته من تعريفات للتصورات والمعتقدات وغيرها لاتصادر ـ ولا يحق لها ـ على أى اجتهاد يختلف مع هذه التعريفات أو يعارضها ، بل إن الترحيب باختلاف الرؤى ووجهات النظر والآراء والطروح من أسس العلم وشروطه، إذ لامصادرة لاختلاف ولا تثريب على اجتهاد ولا فصل فى خطاب ".


الحواشى :
( 1 ) راجع كتابنا ( فلسفة الوعى الشعبى ) دار الفكر الحديث ، القاهرة ، 2001 ، ص ص 5 – 19 .
( 2 ) انظر بحثنا ( السيرة الهلالية بين الشفاهية والتدوين ) مؤتمر السيرة الشعبية ، جامعة القاهرة ، 1985 ، والمنشور بمجلة أدب ونقد ، عدد 11 ، 12 ، 1985 ، ثم ضمن كتابنا ( الثقافة الشعبية وأوهام الصفوة ) مركز الحضارة العربية ، القاهرة 2002 ، ص 209 ، حاشية 3 .
( 3 ) الزبيدى ، محمد مرتضى الحسينى : تاج العروس من جواهر القاموس ، ج 33 ، تحقيق إبراهيم الترزى ، سلسلة التراث العربى ، المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب ، الكويت ، 2000 ، مادة ( لهم ) .
( 4 ) راجع بحثنا ( الفنون الشعبية بين واقع المقاومة وأوهام الانتليجينسيا ) ندوة المهرجان القومى الأول للفنون الشعبية ، الثقافة الجماهيرية ، الاسماعيلية ، يونيو 1983 .
( 5 ) صلاح الراوى ( د ) : الثقافة الشعبية وقضية الاستلهام – ترسيم لحدود ورصف لعلاقات ، ضمن كتابنا (الثقافة الشعبية وأوهام الصفوة ) مرجع سابق ، ص 314 .
( 6 ) نشرت أعمال الدورة الأولى على هيئة كتاب تذكارى بعنوان ( الفنون الشعبية بين سياقين ) الهيئة العامة لقصور الثقافة ، أغسطس 1995 ، ثم جرت مقاومة شديدة لمسألة نشر أعمال الدورتين الثانية والثالثة ( 1996 – 1997 ) وتوقفت الدورة الرابعة ( 1998 ) قبل انعقادها ، ثم توقف المشروع برمته . كما توقف قبل بدايته مشروع نشر المناقشات الخصبة التى جرت خلال الدورات الثلاث والتى حرصنا على توثيقها صوتيا ومرئيا وحفظها ضمن أرشيف أطلس الفولكلور المصرى . وهى مناقشات نراها تنادد البحوث والشهادات المقدمة من حيث القيمة والفاعلية والأهمية !!

د . صلاح الراوى
أكاديمية الفنون - مصر





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى