عبدعلي حسن - نص ونقد.. الذات والاغتراب الكوني

- ( في القرية يقولون لي مكانك ليس هنا
في المدينة يقولون لي مكانك ليس هنا .
في الوطن يقولون لي مكانك ليس هنا .
وفي المنفى يقولون لي مكانك ليس هنا .
أين مكاني إذاً؟ في الفضاء!
في مرحلة الفطام , وأنا أحبو باكياً , وراء أمي المنصرفة عني , وراء الكنس والمسح ونفض الغبار , كنت آكل كل ما تطوله أظافري الغضة من تراب العتبة والشارع وفسحة الدار . ويبدو أنني أكلت حصتي من الوطن منذ ذلك الحين !)
- محمد الماغوط


* الذات والاغتراب الكوني
________________________

يتشكَّلُ الإغتراب الوجودي عبر تقاطع توق الذات لتحقيق انتماءها الإنساني / الإجتماعي / الديني وغيرها من الهويات مع ممكنات تحقيق هذا الإنتماء ، وعلى مرّ التاريخ البشري فقد حازت هذه البنية -- الاغتراب -- على موقع متقدم من اهتمامات المفكرين والمبدعين على حد سواء ، وكلّما تشهد الكينونة البشرية تحوّلاً في حيثيات علائقها بالوسط وذاتها الداخلية ، فإن أشكالاً أخرى من الاغتراب تظهر إلى السطح بفعل ظهور عوامل تحدي جديدة تضع تلك الكينونة في اختبار كفاحها من أجل مقاومة الكوابح التي تحول دون توكيد هوية الانتماء التي عدها المفكرون سجية بشرية لاغنى للإنسان عنها ، ومن الشعراء الذين امتدّت بنية الإغتراب في معظم منجزهم الشعري هو الشاعر الراحل محمد الماغوط الذي يعدُّ واحداً من أهمّ روّاد قصيدة النثر العربية ، ففي النصّ موضوع النقد تحتلُّ هذه البنية موقعاً مركزيّاً تبدّىٰ منذ السطر الاول حتىٰ الجملة الأخيرة التي شهدت توهّجاً في التعبير عن أقصىٰ مديات الشعور بالإغتراب الذي اتَّصف بالكونية ، انطلاقاً من القرية ثم المدينة ثم خارج حدود انتماء الذات / المنفىٰ لتقترح مكاناً عائماً / الفضاء ، لتستقر فيه دون أن يطردها أحد ، على أن هذا الفضاء المجهول هو الحد النهائي الذي لايملك أي جزءٍ يير إلى تفاصيل الانتماء ، لكن الذات الشاعرة وجدت فيه انفصالاً وغربة أخرى ، فعبر تحليلنا للعناصر المكونة لبنية الإغتراب في النص ، فإننا سنتلمس قدرة وقابلية النص علىٰ تخليق العناصر المكوّنة لتلك البنية في كافة مستوياتها المتراتبة بدءً من أصغر مكان / القرية /المدينة/الوطن / المنفى وحتى اللامكان/ الفضاء ، فالذات وجدت نفسها مطرودة وغير مرحّبٍ بها في تلك الأمكنة التي تنتمي إليها ، إلّا أن غير الترحيب والطرد جعلها فاقدة قدرة التواصل المكاني / الوجودي لتبحث في الفضاء مكانا استحالياً لتأكيد وجودها وانتمائها، فقد تخلَّقت العناصر المكونة لبنية الأغتراب في الجمل الخبرية الخمس الأولىٰ من النص مُشكّلةً القسم الأول من النص عبر تأكيد عدم مقبولية الذات الساردة في الأماكن المشار إليها في كل جملة تكرّرَ فيها إصرار ال (هم) /يقولون علىٰ إنفصال الذات القاهر عن الأمكنة الممثّلةِ لإنتماء الإنسان لواحد منها ، ولعل الإشارة إلى جمعية هذه الإمكنة تصريح بمحاصرة الإنسان ومطاردته في كل الأمكنة ماعدا المكان المستحيل / الفضاء ، في حين تمكَّن القسم الثاني من النص الذي يبدأ من جملة (في مرحلة الفطام) من وضع التفسير لمحاولات الطرد التي أخبر عنها النص في قسمه الأول ، فالتراب الذي كان الشاعر يأكله في مرحلة الفطام والموزع على العتبة /الشارع/ فسحة الدار كوّن حصّته من تراب الوطن الذي ينتمي إليه وقد استنفذها في مرحلة فطامه حين كان يحبو ، فقد كانت الجملة الأخيرة في النص ( ويبدو أنني أكلتُ حصّتي من الوطن منذ ذلك الحين !) هي اللحظة الإشراقية التي توهّجت فيها شعرية النص ، وكان لابد للنص أن يضع نهاية تشكّلُ كسراً لأفق التوقع الذي مهّد لها في القسم الأول الذي حاز أيضاً علىٰ النمط الاستهلاكي للغة علىٰ الرغم من وظيفته الخبرية ، في حين تكفّل القسم الثاني من النص بتحقيق وظيفته الشعرية ،
لقد كرّس النص فجائعية الإغتراب في كل مستوياته مؤكداً توق الذات الإنسانية للعيش في امكنةٍ تجد فيها انتمائها رافضة كل عوائق تحقيق هذا الإنتماء.

عبد علي حسن
تشرين اول/2021



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى