د. سيد شعبان - أبوه السقا

ولأن الحكاية ولدت من رحم الجدة الكبيرة،حتى أنني نسيت اسمها، فذاكرتي مثل الغربال لا تحتفظ بشيء، لذا لجأت إلى حيلة ماكرة؛ أخذت كل ما تجمع لدي من قصاصات وذهبت إلى أمي التي تختزن في ذاكرتها كثيرا مما غاب عني، تعطي لأدق التفاصيل قيمة حين تعبر بوجه صاف ويد كأنها المغزل، هذه الليلة كان البرد شديدا والنوافذ تنتابها رعدة الشتاء المقبل، حبات البطاطا تثير شهيتي، أعدت حفنة من الفول السوداني، بدأت تمتاح من ذاكرة لا تنضب، إنهم يا ولدي يلعبون بالبيضة والحجر، تسللوا إلى حارتنا المنسية نحن هنا منذ أن فر جدك أيام هوجة عرابي،
ترتسم في مخيلتي صورته وقد أمسك بسيفه من وراء الجواد الأبيض، لا يعيبه أنه حافي القدمين، بل قيل إنه كان يحمل فأسه، آخرون برهنوا أنه كان أجيرا، كل هذا لا يثير غضبي، يكقي أنه كان هناك عند بوابة القصر الذي طمعت يوما أن أكون سيده، أورثتني الحكايات ولعا بالمقعد العلوي، حتى وأنا ابن العامة، نابليون كان مثلي، ولم لا؟
الخوف لا يصنع انتماء، قيل هذا كثيرا.
إنها الحمى أصابت عقلي صغيرا، كانت هوايتي أن أرسم القصور ذات الشرف العالية، حلمت أن ألبس ثياب الخديو، بل عشت وهم أنني أحببت أمبرة من البلاط، للأحلام طعم في جوف المنبوذين لا تعدلها لذة الطعام للمحرومين، كنت أردد مقولة عرابي: الله خلقنا أحرارا
عاقبني المعلم، يكره أن نتمرد على السلطة فقد تماهى معها حتى ولو كان يتلو الكتاب فما أكثر من دلسوا علينا بنصوصه المؤولة تبعا لأهوائهم!
يومها أنكر المعلم ما قام به جدي، فشعرت أنه يترصدني، أمسكت بالقلم دونت على الحائط أبوه السقا مات، انهال علي بعصاه، لم أدر أن جده كان سقاء الخديو، لم أرتكب جناية كل ما فعلته أنني شاغبت بالحرف، ومن يومها والعقاب يتنزل علي، إنهم يتربصون بي، كلما تألمت تسللت إلى مخدع أمي، لديها حكاية لما تنتهي من سردها، بي شغب طفولي أن ألتقم ثدييها أخشى زوجتي كيف تراني وقد انتكست رضيعا، إنهم يلعنون مفرداتنا التي وجدناها سلوى في عالم الضياع، جذورنا التي امتدت ألف عام ونيف، هزأوا بعمرو، وشيطنوا البخاري، سمعته فوق منبر الأزهر يقول هذا؛ ترى من الذي أزهق روحه؟
حاولت أن أرسم صورة لجدي؛ مرة فارسا وآونة يقاوم في القناة، وأخرى يبني السد العالي، لكنه هذه الأيام عليل، ضربه الكبر، غامت ذاكرته، أمي تظنه الخضر، وحين تكون غاضبة تردف: إنه مثل القطة بسبعة أرواح!
غضبت منها، إنها لا تريدني أن أعيش مشتتا، أخفت كتبي، أغلقت المذياع العتيق، حاولت أن تباعد بيني وبين السلطة، لسانها طويل إنهم مهرة في التدليس، لا تتمنى لي أن أبقى دون ولد، في هذا الصباح تأوهت زوجتي، إنها مصابة بالوحم؛ تريد الثوم والبصل، أخشى أن تصيب الصغير وخمة الوادي، أو تلحقه الذلة؛ فلا يتبع جده، غاب عرابي في ذاكرة الجغرافيا، ما تزال صورته ماثلة في مدونات القلعة.
لكن الضباب يغبش الرؤية يذرها هلامية، حتى إذا ظهر الغراب الأسحم تداعت الأحاجي وتسلل منها لغز؛ النهر مصاب بالتقزم، غار ماؤه، إنهم يلعنون عرابي وكل عربي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى