د. خالد نصر مالك العطا - مولانا نعمات.. قصة قصيرة

لا اخرج ولا اذهب كثيرا الى داخل العاصمه ، اذ ينحصر عملي كمدرس رياضيات داخل المدرسة بريف الخرطوم ، ولكن شاءت ارادة المولى عز وجل ان اذهب ذلك اليوم الى العاصمة لاجل استخراج بطاقة قومية ، اسوة بزملائي المدرسين الذين أوصفوا لي مكان استخراج البطاقة ، وبحمدالله وتوفيقه لم اجد صعوبه في استخراجها واستلامها في نفس ذلك اليوم، وبينما انا في احدى الطرق الرئيسية استوقفني احد الشباب وحياني بلطف وقال بأدب جم : ( ساختصر لك طلبي ، انا طالب علم وانوي السفر الى احدى الدول الأوربيه ولكن فوجئت بأن من ضمن الاجراءات ، طلب اقرار مشفوع باليمين واحتاج الى شاهد يشهد بأنني اعزب وغير متزوج ، وانا لا اطلب منك سوى أن تشهد لي بذلك) قلت : ( ولكن كيف لي ان اعلم بذلك وانا لا اعرفك ) قال : ( الثقة والحلف بالله ، أقسم بالله العظيم لم أتزوج ولم يسبق لي الزواج قط ) فسألته : ( وأين اشهد لك ) قال وهو يشير بيده : ( المحكمة قريبه من هنا على بعد واحد كيلومتر) فنظرت الى ساعتي وسألته : ( هل سيستغرق الامر وقتا اطول ) قال مؤكدا : ( لا اعتقد ذلك ) ودخلنا الى المحكمة ، ولأول مرة ارى هذه المحكمة ، عبارة عن مبنى ضخم ومحاط بسور عالي ، وبه غرف ومكاتب كثيرة و داخل كل الغرف قضاة واداريين ومحاسبين ومحامين وقانونيين ، ونساء يدخلن ورجال يخرجون ، وملايين من الناس تتحرك بصورة مزعجة ، كل يحمل في يده اوراق وملفات ،
كان ذلك الشاب يحمل بطاقتي القوميه في يده ويهرول ويدخل الى مكتب ويخرج منه ، ثم أتبعه الى مكتب به قاضي صغير ، لا يسألني القاضي اذا كنت اعرف هذا الشخص ام لا ، وهذا ما حمدت الله عليه كثيرا ، كل الاسئله تدور حول : ( هل هو متزوج ام لا ) فاتذكر قسم الشاب فاقول : ( لا) ، ثم قاضي اخر يسألني ذات السؤال فأجييه ب (لا) وظننت ان الاجراءات بهذا قد انتهت ، ولكن احد الرجال لا أعرف ما هي وظيفته طلب منا الدخول الى القاضي الاخير ، كانت هذه المره ليست غرفه صغيره كتلك الغرف واتما قاعة طويله وفخمه ، على جانبيها تراصت بعض المقاعد ، ووقف عدد لا باس به من رجال الشرطة والمحامين والقانونيين في ادب جم كأنهم اصنام منذ عهد الفراعنة ، وفي واجهة تلك القاعه هناك امتد مكتب ضخم وعالي جدا من الشرق الى الغرب ، توسطته إمرأة فائقة الجمال ، بيضاء كأنها الحور العين ، وترتدي ثوبا ناصع البياض ، ولها عينان كعيني المها ، وشفتان كحبة العنب ، وقف الرجل حائلا بيني وبينها ، ثم انحنى في أدب ومد لها ملف ذلك الشاب ، وهو يخاطبها : ( يا مولانا ) ثم سمعتها تتحدث اليه بصوت مملؤ وقارا : ( اين الشاهد)؟ فلكزني الرجل ، لأقف بالقرب من الشبك العالي ، ووقفت امامها اتامل تلك اللوحه التي تأخذ بالالباب ، ادهشني حقا جمالها وهيبتها فقلت : ( ماشاء الله تبارك الله ، يا الله !! كم انتي جميلة ) فاحمر وجهها ونظرت الي بغضب ثم قالت بعصبيه : ( انت اتيت للشهاده ام جئت للتغزل في جمالي ) فسمع صوتها كل من في القاعه ، فنادت على احد الجنود قائلة : ( ضعه في الحبس) ، فتقدم الي رجلين من رجال الشرطة فأمسكا بإبطي ، وجراني بقوة ، ولم اقاومهما ابدا ، ولكن قبل ان يخرجاني من القاعه التفت اليها ، فرأيت عينيها تتبعاني فابتسمت لها ، اما الشاب الاعزب فانه مد الي البطاقة في تأفف وحسره وهو يقول : ( انت مالك وما لجمالها وحسنها ) وقال احد الجنود يهددني : ( هذا انتهاك وتحقير للمحكمه عقوبته السجن لسته اشهر ، ياويلك) قلت مندهشا : ( ولكني لم ارتكب تلك الجريرة) ثم استطردت قبل ان يرميا بي داخل زنزانه ضيقة : ( انا غير مذنب ) فضحك احد الشرطيين بسخرية : (انت غير مذنب لكن يبدو انك مجنون وفاقدا لعقلك، وستندم على ذلك ).
جلست على ارض الزنزانه تلك القذره ، وكنت ارى من بعيد الناس وهم يتحركون كالدمى ،والشمس تلفح وجوههم وتتعبهم كثرة الاجراءات ، ويسندهم الصبر والامل بدلا عن لقمة تنزل في بطونهم تشبع جوعهم ، فاذا كان حديث الشرطي عن السجن لسته أشهر حقيقة ، فعلى نفسها جنت براقش ، مكثت بذلك الحبس ساعات وساعات مرت علي كانها دهرا ، ثم وقفت و ناديت احد الجنود جالسا امام الباب يتصفح هاتفه ومندمجا فيه ، لأنه سمع ندائي بعد أربع ، فقلت له : ( انا جائع ) فرد علي بلؤم : ( وهل ياترى انا صاحب مطعم ام ساعيا في مكتبك) فصمت على مضض وواصلت جلوسي على الارض .
فجأة فتح باب الحبس واستدعاني احد الشرطيين بصوت تعمد ان يسمعه الناس : ( خالد نصر مالك ) فاندهشت لم كل ذلك وانا اقرب اليه من حبله السري ، ثم اقتربت منه فأمسكني بقوة كأنني عصفوره يخشى عليها الطيران ، وعبر بي بعض الحجرات والممرات ، ثم وقف باحترام ، ثم دفعني الي حجره اقرب الى القاعه ، ورأيت مقاعد وثيره ومنضده عليها طعام وكنبه طويله مكسوة بحرير فاخر ، وهناك على احد المقاعد الوثيره جلست مولانا ذات القاضي الحسناء التي امرت بحبسي ، وقفت امامها ، وهي تتاملني بنظرات فاحصة ، فقالت بصوتها الهادىء الفخيم : ( إجلس) وارتبكت لهنيهة مترددا ثم جلست الى مقعد يواجهها ، ثم رايتها تضع ابتسامه جميله على شفتيها ، حينها شعرت براحه ورضا ، قالت تسألني : ( ما اسمك ) قلت : ( خالد نصر )
سالتني : ( اتعرف الجرم الذي ارتكبته في حق المحكمه ) اجبتها : (لا ) قالت : ( يسمى ذلك تحقيرا المحكمة ) قلت باسما : ( ولكنني ما قصدت استحقار المحكمة ولا تحقيرا لمولانا ، انما عبرت عن شعور شعرت به فخرج رغم انفي ذلك التعبير ) سألتني : ( وماهو شعورك هذا ) قلت : ( جذبني حسنك وجمالك وهيبتك ) ضحكت ثم قالت : ( يبدو انك اما شاعرا او اديبا يمتلك ناصية الحرف ) قلت باسما : ( ما انا الا مدرس رياضيات ليس إلا ) قالت بصراحه متناهية : ( انا ماوجدت شاب جرىء بمثل جرأتك ) قلت باسما : ( الحمدلله انك لم تعتبريها وقاحة مني ) قالت: ( كل الذين حولي قضاة وقيادات من السلك الدبلوماسي ومحامين وضباط في الجيش او الشرطه او مدنيين ، لكن لم اجد واحدا يذكر محاسني وجمالي امامي وجها لوجه ، ولذلك عفوت عنك ) ثم سألتني : ( اتمنى ألا اكون اضعت عليك وقتك كمدرس ) ؟ قلت : ( فقط اذتني رائحة الحبس ) قالت برحمه : ( وبالطبع لم تتذوق طعاما ) ثم استطردت واقفه : ( انا ادعوك لتشاركني الطعام ) تبسمت وقلت : ( لا اخفي عليك حاجتي للطعام ولكن رائحتي كريهة من اثر الحبس ) فاقسمت ان اشاركها الطعام وقالت : ( دعوتي لك تكفيرا لما ارتكبته في حقك وحبسك كل تلك الفترة ، مع ان القانون يحذرنامن الاختلاط بالعامه )
وفي اثناء الطعام حدثتني مولانا عن حياتها الخاصه ، فعرفت فيها امرأة عاديه ولكن القانون جعل منها امرأة قويه مهابه وعرفت عنها انها كواحدة من النساء لا تختلف عنهن كثيرا ، امراة احبت وتزوجت وتطلقت ، وانجبت ، وانها تبحث في داخلها عن الانس والسمر بدلا عن تلاوة الاحكام واطلاقها، امرأة في داخلها كل العواطف والمشاعر الجياشة ، فتحجبها مواد الدستور الوضعي ، وحدثتها بدوري عن اسرتي وعن تلاميذ المدارس ، وحبي لهم ، وعن مرتبات المعلمين ، وعن تهميشهم من قبل الدوله وعن حبهم للتدريس بشغف وعن تقوقعهم في نطاق المناهج ، مثلهم مثل القضاة ، لا يطلقون الاحكام الا من خلال الادله والبراهين
ثم فجاة سألتها عن اسمها فاجابت بسرور (نعمات) ثم ضحكت قائله: (انا نفسي نسيت هذا الاسم الا عندما اراه مكتوبا على الورق، فهم يطلقون علي اسم (مولانا). نظرت مولانا تعمات الى ساعة معصمها ثم قالت: (عندك خمسه دقائق تقضيها معي) قلت متوردا خجلا: (يا ليتها تبقى خمسون عاما) ، اطرقت مولانا الى الارض ثم ضحكت : ( انت تنطق بلسانك فقط وليس بقلبك ) قلت جازما : ( صدقيني، انا رايت جمال وجهك فحسب عندما دخلت قاعتك، ولكنني عندما جلست اليك ايقنت انك اجمل من الداخل اكثر فأكثر) توردت وجنتاها، ثم قالت باسمه: (لازلت تغازلني ولا تنسى انني قاضي محكمة عليا استطيع سجنك هذه المره الى الابد) قلت ضاحكا: (انا اقبل) قالت تضع يدها في يدي هامسة: (وانا اقبل).

د. خالد نصر مالك

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى