محمد فايز حجازي - رائحة الجوافة.. قصة قصيرة

مع بداية فصل الشتاء، يكون الجو منعشًا، وتميل الشمس في تلك الأيام أن تُشرق على استحياء، في طفولتي كان هذا يتزامن مع موسم بدء الدراسة، وانتشار فاكهة الجوافة، كانت رائحتها تسري في جو الشوارع القديمة والحارات، على طول طريقي من وإلى المدرسة، تفوح من دكاكين الفاكهة، وعربات الباعة المتجولين.
حينها كان كل شيء واضح المعالم، محدد، كائن، قائم هنا.
في طريقي، كنت أرقُب الناس، أتأمل ملامحهم، ومن نافذة بيتنا القديم كنتُ أفعل المثل، كانوا ينضحون طيبة، يضاهون تلك الطبيعة السخية التي تزخر بالمساجد القديمة والأسبلة التاريخية.
ولعل السر الأبدي بيني وبين تلك الأيام، ليس فقط في أهل المكان أو طبيعته، بل في الآثار التي خلَّفها أناس آخرون عبروا من هذا المكان، آثار تفيض بقوة تكمن في المساحة والمباني والرمز، آثار كأنها سفن ضخمة تبتلعها الأرض في هوادة، لم تكن علاقة الناس الطيبين آنذاك وتلك الآثار، علاقة عابرة، بل كانت علاقة ما أوثقَها!
كانوا يشبهون بعضهم بعضًا، الناس والآثار، لهم نفس الروح الطيبة الأصيلة، وبركة الأيام الغابرات.
تمامًا كارتباطي برائحة الجوافة.
أحيانًا ما يحتاج المرء إلى أن يستعيد مشاهد أيام ولَّت، والحديث عن ذكريات عبرت، مشاهد لا رابط ظاهر بينها، وذكريات متناثرة تتقافز أمامه بلا سبب وبلا ترتيب، ولا يدري تحديدًا لماذا تلك المشاهد والذكريات في هذا الوقت تحديدًا، أو عند استنشاق تلك الرائحة بالذات؟!
وهذا ما يحدث لي دائمًا عندما يداعب أنفي رحيق الجوافة، يسري في دمي وجسدي، حينها تتداعى عليَّ الذكريات طفرة واحدة، ذكريات الطفولة، وأرغب في الحديث عنها كثيرًا، ربما لا أجد في صحبتي من يستمع، ولكني سأتحدث هذه المرة على كل حال.
سأتحدث عن غفوتي صغيرًا، على السرير الخشبي الصغير، تحت نافذة غرفة أمي المطلة على شجرة التوت، تداعب وجهي أشعة الشمس الواهنة في نهاية فصل الصيف، والمتسللة عبر أغصان الشجرة وفتحات النافذة، تسري داخل جسدي كالخِدر، كانت غفوتي دائمًا في تلك الصورة التي يطلق عليها الأطباء وعلماء النفس «وضع ما قبل الولادة» (قبضة اليدين على العينين، والركبتين في الفم تقريبًا)، مندمجًا مع كل ما يحيط بي، كالجنين في رحِم الأم.
آه أمي، لعل هذا الطقس وهذه الحياة، هما ما خلقتا بين مشاعري ومشاعر أمي وقتما كانت تحملني على صدرها مشاعر، صارت فيما بعد مشاعري أنا الذاتية، فقد تأثرت بقصصها، وكان لكلماتها التي كنت أسمع صداها، وأنا أضع أذني على صدرها، فأحلِّق في أجواء الحلم والخيال، وتتراقص في مخيلتي وأمام عيني المقفولتين صورٌ جلية ومتميزة، نفس سلطان لبنها الذي أمدني بالحياة.
سأتحدث أيضًا عن القط مشمش، حكايات مشمش سمعتها من أمي، لأنه مات قبل أن أُولَد، ولكني أشعر كأني رأيته بعيني، ممددًا تحت قدمي أمي بلحمه وعظمه وشعره المشمشي، في مثل ذلك الوقت من السنة، مع بداية فصل الشتاء، أما أمي فكانت تبتسم وتلمسه بقدميها لتحاول أن تفيقه من حلمه، كانت تفعل ذلك وهي تخيط بعض الملابس القديمة، تنتظر أبي الذي كان يجيء بخطوات مسرعة، حتى لا تفوته لقطة من مباراة الكرة، حاملًا معه أكياس الفاكهة، والتي كانت الجوافة إحداها بلا شك.
حدث هذا في زمن بعيد يصعب حسابه، وإن كان يرجع بالتأكيد إلى تلك المدة قبل ولادتي.
ومشاهد أخرى لا حصر لها، أراها رأي العين، في هذا التوقيت من العام ومع تلك الرائحة.
ولعل تلك العقدة المحكمة.. ذلك الخليط المتشابك من الذكريات والمشاعر التي اجتاحتني في طفولتي، هي ما يربط بيني وبين رائحة الجوافة برباط وثيق.
مرت حياتي بعد ذلك بأحداث أليمة، وقسوة كانت تلمسني عن قرب، قسوة نابعة ممن حولي.
وهذا ما يجعلني أتوجس من المتعة التي تبعثها في نفسي رائحة الجوافة، أتوجس منها رغم عشقي اللامحدود لها.
أتوجس منها لأنها دعوة أستسلم لها، فتحلق بي في سماء الذاكرة وتطيب لها نفسي، يطول الصمت والتفكير والتذكُّر، سرعان ما أهتز بعد ذلك فجأة، على صوت طفل في البيت أو سيارة في الشارع أو أحد من الباعة الجائلين ينادي، فأسال الله ألا يكون واحدًا من أولئك الذين يبيعون الجوافة على عرباتهم، فأستنشق مرة أخرى رائحتها، رائحة الجوافة!
حينها تتنمل أعصابي.
ويتألم قلبي أشد الألم.
وآه كم أخشى أن تتوقف نبضاته إلى الأبد، في مرة من تلك المرات!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى