مختار محمود عبد الوهاب منصور - وقائع انقسام أديب مغمور

" يحدث كل يوم "

" في ستين داهية يا سبع البرمبة" قالها وهو لا يعلم ما سيحدث بالضبط ، واستدار بكرسيه الفاره ناحية الغرب ، ليودع بناظريه عبر النافذة الزجاجية الشمس وخطوات السيد (س) الجادة المنفعلة ، الشمس في غروبها تبدو مختنقة صفراء ، وهي تسقط خلف سلاسل جبال البحر الأحمر – الكائنة خلف مياه خليج السويس ،وأسوار قصر الثقافة التي لا تحجب الرؤية .

خطوات السيد ( س) مازالت جادة ومنفعلة ، طويلة وسريعة ، وهو يجرجر شبشبه ليجتاز بوابة الثقافة متجها إلى شارع المنشية.

"الجوة” (1) قالها حارس البوابة : مبلط القيشاني في غير أوقات العمل منتظرا "الله يجويك" .. لم يرد السيد(س) بينما تحسس قصاصات الصحف الخاصة بمؤتمر أدباء الأقاليم في جيب القميص.

علي شرفه وفنجال قهوة –بصوت عال – دعاه صاحب الكشك المقابل لمديرية الثقافة .. عليه أن يترك الأدب تماما ويتفرغ لطفلته الصغيرة ، سوف يفكر جيدا في الانتقال إلى كفر الشيخ – مسقط رأسه – من أجلها ، في الشهر القادم ؛ سيأخذ مرتبه ومرتب زوجته ويسافر إلى القاهرة لإجراء فحوصا علي مخ الصغيرة التي ما تحرك لسانها بأبجدية . في المؤتمر من سيقبل التطبيع ومن سيعلو صراخه بالرفض.

" الطريق مقفول" صرح بذلك عسكري الأمن المركزي الذي يؤمن مرور السيد المحافظ وأمره بالمرور من الشارع الموازي . مهما قدمنا للساحة الأدبية لن نصير عظماء ،ملايين يكتبون القصة القصيرة ، علاج البنت أولى ، لا شيء يأتيه من الثقافة سوى الإهانات والانفعالات ، لمح بعينيه من بعيد ممثلة المسرح الممتلئة ذات الوجه المستدير والعيون الرمادية والبيت الطيني ؛ تجلس وأخواتها البنات في عرض الشارع .

" صحصح يا باشا " صرخ فيه عربجي الكارو وهو يقطع شارع المنشية في الاتجاه المعاكس ، كيف تكون الشوارع في اتجاه واحد في مثل هذا البلد ؟ ألم وجع بصدره ، وضع راحة يده اليمنى فوق صدره من الجهة اليسرى ومازال يستجمع شيئا من قوته لتمر الأزمة التي يؤكد الأطباء أنها ليست قلبية ، وسوف يقف أمام وزير الثقافة ويفند ممارسات مستخدميه ،وسيرفع صوته لأنه ليس موظفا لديه . " المسا ..الأهرام المسائي " قالها موظف حكومي مرتزق يزيد دخله بعد الظهر ببيع الجرائد ، كم أرسل من خطابات للمجلات المتخصصة ولم يواف برد ، سوف ننشر لك في العدد القادم ، تفقد كتاب جمال حمدان في واجهة المكتبة التي تتصدر شارع المنشية وحرص متعمدا ألا يسأل عن سعره حتى لا يسقط من طوله …. يعرف كثيرا من الصحفيين والرد علي رسائله كل مرة : برجاء إرسال أعمال أخرى ، انتظر النشر قريبا ، الدراسة غير صالحة للنشر وهو لا يعلم ما هو الصالح للنشر بعد عشرين سنة إبداع ، للأديب الكبير (...) قصة بهذا الاسم – هل هو توارد خواطر ؟ . اجتاز الإسفلت الممتد وصعد السلم المعكوس ، وما ان وضع المفتاح في الباب حتى جرت "بطة الصغيرة" تقف خلف الباب الذي انفرج قليلا فتبدت زوجته وطفله الصغير وبرواز لا يظهر التراب المتراكم فوقه محتواه وفاطمة التي ما إن وقعت عيناها في عينيه حتى شعرت بالانتصار .

" لم يحدث من قبل"

ستخرج من بوابة الزراعة يا سيد (س) في غير مواعيد الانصراف اليومية حاملا همومك ومتجها إلى بوابة السنترال للاتصال بالدكتور المعالج ، وأنت المهموم بحال الأدباء ، وبيان نادي الأدب لا تغادر صيغته مخيلتك ، وستؤكد أنه سيكون آخر مسمار في نعش الثقافة.

"26،18،5،18"مصر " ..." واحد زميل "،" لأ دي عيادة دكتور" ستترك الثقافة تماما وتتفرغ للحركة بالصغيرة التي أفقدتك كل لذيذ في هذه الدنيا ، تستطيع لاحقا أن تكتب للإذاعة المحلية ، ولعلها ذات بريق الآن ، وهل ستقبل كاتب دراما أم معد برامج ،سيخسرون كثيرا إذا تجاهلوك " جرس وبس يا أستاذ " . "22،42،صفر ،7 ، بنها" .. سيؤرقك كثيرا أن اهلك في كفر الشيخ ، وبينك وبينهم مسافة عشر ساعات سفر ، وستزعم أن مرض ابنتك بسبب انقطاعها عن حياة الأسرة الكبيرة ، طفلة صغيرة لا تعرف إلا الجدران الأربعة في البيت والحديقة التي بالحضانة والشارع الذي يصل بينهما ، لا وجوه ، ولا فضاءات ، ولا حوار ، ولا ريف قديم ومباني طينية تصنع علما في ذهن الصغار ." كلم ...في كابينة واحد يا أستاذ " وددت كثيرا أن تحادث الدكتور بعيدا عن زحام العيادة ، وتفهم منه لماذا طلب أشعة مقطعية علي المخ ! وهو يعلم أن الحالة المادية لا تسمح ؟ هل مشكلة البنت في التخاطب ؟ الو يا دكتور ... أنا أبو الطفلة فاطمة ...حضرتك متذكر الطفلة ... عندها بؤرة صرعية في مخها " سيرتفع صوتك شيئا فشيئا وتغلق الباب الخاص بالكابينة بعنف ، تخرج محمرا ، ومنتفخ الأوداج ، ساخطا علي الدنيا ومن فيها ، وتظل تسب و تلعن لإغلاق الخط في وجهك ، ويتناول عامل التليفون من يدك الجنيه دونما تعليق ، وستتجه خارجا إلى الثقافة تفكر في بؤرة صرعية لا يمكن علاجها ، ستقف أمام بوابة الثقافة تحادث إحدى الموظفات ، وسيخرج مديرها يبصق في وجهك ويسبك ، وعيناك المفتوحتان ازدادتا اتساعا وانكسرتا إلى الأرض ! ! ! وستبتعد الصورة ...تبتعد ، وتتوه يا سيد (س) في رهط من الرجال في شارع السنترال الموجود بوسط مدينة طور سيناء القابعة شرق خليج السويس ، التائهة بين بحرين وقارتين وعالم كبير ، وكون لا نعلم له حدودا.

"لن يحدث مرةً أخرى"

الكل لم ير ما حدث رأي العين، والكل هنا لا يستطيع تفسيره ، غير أن واحدا من الطورة(2) أكد أن هذا مس من الجن ، واجتمعنا وانفض جمعنا ولم نصل لشيء ، هل هناك سبب مباشر لما حدث ؟ وتعددت الأسباب والنتيجة هي النتيجة ، لا نقدر على علاجها أو احتوائها ... من الطبيعي أن يكون للشخص رأس وأنف وفم " له رأسان وأنفان وفمان " أطلقها وفغر فاه ليستحثنا علي الاستغراب ونحن لا نصدق ، لعله لم يره جيدا وبالبحث في تاريخه الأخلاقي تبين أنه لم يتناول مسكرا ولا خمرا قط ، وأكد بعض المبالغين أنه لا يعرف المياه الغازية فهو صادق : رأسان وأنفان وفمان؟

" وعينان ؟؟" سألناه نستدرجه للسقوط ونقيم عليه حجة الكذب والتدليس " أربع عيون ! !" أكد وأشار بالسبابة اليسرى ، وأشهد الله علي قوله أنه رآه يبص أمامه بعينين وخلفه بعينين أخريين ، والعينان الخلفيتان لونهما أخضر ، لم نمهل أنفسنا سماع بقية مبالغات الذي لا يعرف المياه الغازية ، لعله لم ينم جيدا فأثر ذلك علي رؤيته .....الطريق لملاقاته استلزم مناقشة عدم التصديق ، وتفنيد آراء المشككين وحجب وجهات نظر ذوي المصلحة من ضياعه. "... عداءات السيد (س) كثيرة والغرض تشويهه " قالها مدع أدب اندس في طابور الأدباء وقت قيام المناوشات بين مدير الثقافة وراغبي الزعامة من أنصاف الموهوبين .
" ... صدامي ولكن .. ليس إلى هذه الدرجة " رد عليه شاعر عامية لا يريد أن يطلق لخياله العنان.
"هل أقدامه الأربع في اتجاه واحد ؟" سأل واحد حسن النية وهو لا يعرف أن هذا يؤكد الإشاعات.

" يا أخي : هل صدقت ما يقال ؟ دي بلد إشاعات " قالها صاحبنا كاتب القصة التقليدي ، لا يمكن تخيل ما حدث ؛ رجل بأربع عيون ، كذلك لا يمكن السكوت عليه ، سوف نرفع شكوى للمسئولين وأولي الأمر ، كل الأدباء يتم علاجهم علي نفقة الدولة ، وهذا أقل القليل الذي يمكن تقديمه للسيد (س) ، ولكن هل مسألة العلاج بسيطة إلى هذا الحد ؟ هل سيتم استئصال (س) الناتئ .
" رجل له رأسان ورقبتان ومتصل في منطقة البطن ! " سأل ساذج يريد دس أنفه في الموضوع دون داع . ليس الأمر مقطوع بصحته إلى هذه الدرجة ، ربما الاتصال في منطقة الرأس ، آخرون أكدوا أن الاتصال في منطقة البطن والأرداف .

هذا الرجل الفارع الطول، الضامر الجسم ، النحيل الرقبة ذو اللحية ، الفالج الأسنان ، انقسم وأصبح بجسمين ورقبتين ولحيتين و.. سألت علي الفور القصير الذي يرافقني ويكتب الشعر الغنائي ويتحدث بملامحه : " هل له لحيتان" " لا أظن " أجاب بلهجة الفيلسوف وصيغة رجال السياسة التي تحتمل الوجود و العدم في آن واحد .

((((((((((( ))))))))))


خرج حاملا همومه في الصباح ، وابنته الصغيرة بطة التي بلغت سنواتها الست ، لم تنطق بكلمة حتى الآن غير وأوآت ، وسأسآت ، وأكد طبيب المخ المعالج أن برأسها بؤرة صرعية ربما ولدت بها وربما لازمتها ما دامت حية . راتبه الصغير الذي لا يكاد يسد الأفواه المفتوحة والأيدي الممتدة ، جيرانه الذين يؤجرون شقتهم مفروشة لمجموعة من سائقي النقل الثقيل يقلقونه ليل نهار ، ولا ينامون إلا على أيدي بوليس النجدة ، أنصاف الموهوبين من الأدباء الذين يقفون بأحذيتهم على رؤوس سامعيهم ومنصات التتويج ، والقائمين على الثقافة الذين يحملون بجيل من ماضغي العلك وحركي الأرداف على رأس الحركة ..
حرصي على رؤية المهتم المنقسم جعلني أهرول في مشيتي وبقية الرهط يتناثرون في طول شارع المنشية متجهين إلى مساكن الدبش(3) يستطيع الشيخ المفوه الذي سبه سابقا أن يقف وسط الجموع ويقول : وحدوا الله ، هذه من آياته ، لقد اختاره – سبحانه وتعالى لأن أشد الناس بلاء الأنبياء والصالحين ثم الأمثل فالأمثل ، وسيظل يهتف ورعاة الماعز وزارعي البانجو سيتوافدون من الجبل الشرقي ومن اتجاه شرم الشيخ لرؤية المنقسم ، بينما يفكر شيوعي سابق كيف يصوغ مشكلة السيد (س) وسيتوقف كثيرا أمامه ، لقد كان رجلا واحدا فكيف انقسم ؟؟ وكيف سيتغوط ؟ وسيظل يسأل ،بينما يفكر الشاعر الممتلئ كيف يستغل انقسامه في الحصول على طعام أكثر ؟ حين يصحبه للمؤتمرات يأخذ بونات تغذيته .

السؤال المطروح الآن ونحن لم نسلم بعد بانقسامه ؛ هل يفكر فكر واحد أم فكران وكيف سيحيى بأكثر من وجهة نظر ؟وسيفسر بخبث ممثل مسرح متهم بممارسة الشذوذ : " كيف يستطيع مجامعة زوجته ؟"

..وسوف نعترض جميعا منقادين إلى متحدث يهتم كثيرا بالأخلاق …. لحظات وينجلي الأمر وتخرس الألسنة ويبت في كل ما قيل ….. وقفنا ننظر إلى الإسفلت الممتد حتى نهاية مساكن بدر،والسيد (س) قادم من بعيد ...

((((((((((( هوامش )))))))))))


(1)الجوة : تحية عرب سيناء ، وتعني القوة ، وردها : الله يقويك.
(2)الطورة بتشديد الطاء : مجموعة من العرب الرحل الذين سكنوا مدينة الطور وتركوا الجبل .
(3)مساكن الدبش وحي بدر وشارع المنشية أماكن في مدينة الطور .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى