محمد فايز حجازي - حدث في الميدان.. قصة

- إلى أين؟! (سألته الزوجة في حين هي جالسة في صالة بيتهما القديم، تُعمل في مهارة إبرة الخياطة، تعالج بها ثقوب ورتوق بعض الملابس القديمة).
- أخي في صحبة صديق قديم، ينتظراني في ميدان صلاح الدين عند النافورة هناك. (أجاب الزوج وهو يهمُّ واقفًا بعد أن انتهى من ربط حذائه الأسود اللامع).
- خذه هو أيضًا معك، يلعب في جواركم بدراجته. (استعطفته السيدة).
- لا.
- لماذا؟
- لأنه فاشل، عديم الفائدة. (أجاب الزوج بانفعال). ثم صمت برهة، وقال : لا يُذاكر.
- لا يذاكر؟! لقد ذاكر طوال اليوم. (احتجت الزوجة).
في ركن منزوٍ من الصالة، استفاق من غفوته صبي في الرابعة عشرة من عمره، نحيل، قصير شعر الرأس، يرتدي بنطالًا رياضيًّا أحمر، وقميصًا قطنيًّا أبيض، وينتعل صندلًا جلديًّا بنيًّا.
يجلس على كرسي خشبي صغير، ينظر خلسة جهة أبيه وأمه، ويضع على ركبتيه كتابًا مغلقًا، كُتب على غلافه «قواعد النحو للمبتدئين».
- حسنًا، (قالها الزوج مُخاطبًا الطفل في قسوة، ورافعًا رأسه في صرامة) أعرِب هذه الجملة «أنا مقصر في أداء واجباتي».
نهض الطفل بطريقة آلية كما يفعل في المدرسة، وقال بلا تفكير:
- أنا، ضمير متكلم مبني على الضم في محل رفع مبتدأ، مُقصِّر. (قالها الطفل متمتمًا ومرتبكًا، ثم صمت ولم يزد حرفًا).
أومأ الزوج برأسه ساخرًا، وقال:
- هذا يعني أنك سترسب في امتحان الملحق أيضًا.
- هو يعرف لكنه يرتبك لأنه يخاف منك. (قالتها الأم مدافعةً عن صغيرها).
- سأخرجه من المدرسة، (قالها الزوج ثم كررها مشجعًا نفسه) يقينًا سوف أُخرجه من المدرسة، فليكن.. (ثم صمت لحظة وقال)، فليكن صبي ميكانيكي.
حتى هو نفسه لم يدر على وجه التحديد، لماذا اختار هذه الصنعة، وفي الغالب لم يفكر فيها قط.
- تعال إلى هنا يا حسن، (قالتها الأم في حنان) سوف تذاكر يا حبيبي أليس كذلك؟ (واصلت وهي تضمه إلى حضنها) ولسوف...
- يشعل غضبي هذا الغبي. (قاطع الزوج كلامها) ثم كرر جملته مُستمتعًا، وكأن الغضب يوسع شرايينه ويجعله يتنفس بشكل مريح، ويخلصه بشكل لطيف من ملل ما بعد الظهيرة.
- سأذاكر. (تمتم الولد في ذُل وبصوت يكاد لا يسمع، باحثًا عن الحماية في حضن أمه).
- لا تذاكر! (لوح الزوج بيده).. لا تذاكر أبدًا.. لا فائدة مرجوة منك.
- بل سيذاكر. (قالت الأم وهي تمسح على شعر الصبي، مُحتضنة رأسه تحت إبطها).
- أما أنت فاعفُ عنه. (قالتها موجهةً كلامها للزوج) ثم حولت كلامها للصبي قائلةً على حين غِرة.
- حسن يا حبيبي، خذ دراجتك وانتظر عند باب المنزل، أبوك سوف يأخذك معه إلى الميدان كي تلعب إلى جواره.
لم يفهم الولد ما حدث، كيف أنهت أمه تلك المشاحنة، بهذه السرعة وعلى هذا النحو الاستبدادي، لكنه على رغم ذلك هرول خارجًا إلى الشرفة، وبقطعة قماش قديمة أزاح الغبار عن دراجته، ثم طبع قبلة على وجه أمه المعشوق، وخرج مُسرعًا إلى باب المنزل، دون أن يلتفت إلى أبيه، الذي بدا مُتحيرًا وهو يتوجه بدوره إلى الباب، دون أن ينبس ببنت شفة لزوجته، في حين استمرت هي في رتق ثقوب الملابس والشرابات القديمة.
كان الولد قد رسب في امتحان آخر العام، في السنة الثالثة الإعدادية، في مادة اللغة العربية، وهو في الصيف يستعد لامتحان الملحق، وقد حرمه أبوه حتى ظهور نتيجة امتحان الملحق، من اللعب بالدراجة، أو النزول إلى الحارة لرؤية أحد من أصدقائه، وها هو الآن يتشبث بالفرصة واقفًا مُنتظرًا أباه عند الباب، ينظر إلى الأرض في ترقب.
عبر الأب بجواره مُتصلبًا، أما وجهه الذي تفحصه الولد بنظرة سريعة من الجانب، فقد كان مُتجهمًا، مرفوعًا ينظر إلى اللاشيء.
هكذا تراءى للولد أن أباه لا يُلاحظه ولا يعبأ به.
الولد الذي كان الخبر المفرح قد أشعل نشاطه، صار الآن حزينًا، يسير بتمهل، شعر بظمأ وأراد أن يشرب، وأراد الذهاب لقضاء حاجته، تمنى أن يستدير إلى الخلف، لكنه خاف من توبيخ أبيه له مرة أخرى، وهكذا وجب عليه تقبُّل الموقف في ظل مخاوفه من حدوث ما هو أسوأ، وانتظر ليرى ماذا عساه أن يحدث له.
كان الطريق من المنزل إلى الميدان يُقطع كاملًا في أربع دقائق، وكانت الحارات المتعرجة التي تفضي إلى الميدان بائسة للغاية، ووضيعة في حالة يُرثى لها، بعض النساء والرجال على عتبات البيوت المُتهالكة، يأكلون البطيخ والذرة مُرتدين جلاليب صيفية، وبعضهم عاري الأقدام.
ألقى الرجل التحية على معارفه بصوت لطيف، صوت استنتج الولد منه، أن أباه ليس غاضبًا للدرجة التي يُظهرها، غير أنه بعد ذلك قطب جبينه مرة أخرى في قسوة.
كان الرجل يسبق ابنه بعشرين خطوة تقريبًا، وكان الابن يركض خلفه دون أن يركب دراجته التي يشتاق إليها، حتى سحق صندلَه الجلديَّ الغبارُ، وأدرك أباه سريعًا لكنه أبطأ السير قبل أن يصل إليه بعدة خطوات، وانسل جانبه بحذر مثل الكلب، لأنه مازال غير متيقن من أن أباه لن يزجره للخلف، وكان من فرط اضطرابه في أثناء سيره يتفحص قدميه، يتفحصهما بانتباه كما لو كان يراهما للمرة الأولى.
على هذة الحالة، اخترقا الحارات حتى وصلا إلى النافورة في الميدان.

النافورة..الميدان، النافورة..الميدان، النافورة..الميدان. تلك الكلمتان اللتان سمعهما كثيرًا في البيت، ولم يحظ برؤيتهما ليلًا قط، دائمًا ما كان يسأل نفسه كيف تتدفق المياه عبر النافورة في الميدان ليلًا، تخيلها بكل الصور، وهكذا أحاط به مشهد الميدان ليلًا كواقع خفي، فخم ومضيء وصارم ومتعذر بلوغه، لم يكن بامكانه المجيء إلى هنا تحت أي ذريعة أو حجة من الحجج.
كان مشهد قلعة صلاح الدين والمساجد القديمة، المحيطة بالميدان من كل جانب مُتوجهًا بإضاءات رائعة وخلابة على الجدران، تمامًا مثل إضاءة الفلاشات في أثناء التصوير ليلًا، وكانت المياه تتدفق من النافورة ملونة ومتراقصة في هدوء ساحر.
بعد أن وصلا إلى الملتقى، تبادل الأب التحية مع أخيه وصديقهما اللذين قبَّلا الولد في حنان، ظل الولد يدور بدراجته حول النافورة في فرح وقد اكتسب بعضًا من الثقة، فأبوه سعيد يضحك مع جالسيه والأمر يسير في خير وهدوء.
- أخبرني أخوك أن ابنك في سنه الصغيرة هذه، يسمع أغاني محمد عبد الوهاب ويحفظ كلماتها. (قالها الصديق ولم ينتظر ردًّا من الأب).
- حسن... حسن! (واصل مناديًا الولدَ).
- نعم يا عمي! (قالها الولد في أدب بعد أن توقف بدراجته أمامه).
- علمت أنك من عشاق الموسيقار عبد الوهاب.
- نعم، جدًّا، أحب موسيقاه، أسمعه في الراديو مع أمي.
- أنت من عشاق الراديو أيضًا؟!
- نعم.
- أيَّ برامج الراديو تحب؟
- غواص في بحر النغم، من تسجيلات الهواة، ما يطلبه المستمعون،

تسجيلات من زمن فات، وغيرهم الكثير. (أجاب الولد في ثقة).
- رائع، أنت ولد موهوب، أنا أيضًا من عشاق عبد الوهاب وأعشق سماع الراديو، أخبرني عن آخر أغنية سمعتها قبل لقائنا.
- النيل نجاشي.
- وهل تعلم معنى كلمة نجاشي؟
- نعم، أي من الحبشة، وقد كتب هذه الكلمات أمير الشعراء أحمد شوقي.
- ممتاز، أنا لا أصدق! كم أنت رائع يا حسن! من الآن نحن أصدقاء، سنتقابل ونتحدث كثيرًا، فليس لدي من الأصدقاء من هم في مثل روعتك. (قالها ونظر إلى صديقيه بابتسامة ذات مغزى).
- أشكرك يا عمي (قالها الولد بعد لحظة صمت، وهز كتفيه في خجل).
- ابنك ولد لطيف مدرك واعٍ، ويبدو أنه طالب ناجح أيضًا. (قالها الرجل للأب الذي كان شاحب الجبين يتصبَّبُ عرقًا).
- نعم إن ابني هذا ولدٌ مُجِدٌّ، مُجتهد. (قالها ونظر إلى ولده في فخر). الآن أسرع يا حبيبي إلى المنزل كي تنام مبكرًا، (قالها واحتضنه ثم قبَّله) مع السلامة يا حسن (أضاف في حنان).
احمر وجه الولد حتى أذنيه، حيا الجميع، ولكنه انحنى أولًا أمام أبيه، ومضى بدراجته في طريق العودة، طريق الحارات المتعرجة.

فكر مليًّا، لماذا عاملني أبي هكذا؟! هو في البيت لا يعاملني هكذا أبدًا، تشعثت الأفكار وتشابكت في رأس الصبي الصغير، توهجت وجنتاه وأذناه، وأخذ يعتصر مقود دراجته بكفيه المبللتين بالعرق، كان سعيدًا، مضطربًا، ومرتبكًا، أخذ يمضي ويمضي في الحارات، ثم نشج باكيًا وركض، في أثناء الركض كان يمسح دموعه التي تسيل على وجنتيه، كان يمسحها بيد ويمسك الدراجة باليد الأخرى.
واصل الركض...

واصل الركض باكيًا حتى وصل إلى المنزل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى