بهاء المري - الدليل العلمي في الفقه الإسلامي

الدليل في اصطلاح فقهاء الشريعة، هو ما يَلزم من العِلم به العلم بشيءٍ آخر، وكلمة الدليل في الشرع تعَنى البـَيِّنة، أي الحُجَّة والبرهان.
والأدلة الجنائية في الفقه الإسلامي تنتمي إلى القرائن، والفراسة، والعلم، وقد أخذ قضاة الإسلام الأوائل بهذه القرائن في أقضيتهم في مجال الإثبات ومنها القرائن العلمية.
وقد امتازت أقضية الإمام عليّ رضي الله عنه باعتماده على الأدلة الشرعية والعلمية معًا، فقضى بالبينة والإقرار، وهي أدلة شرعية، وقضى في القضايا المُشتبهة بالأدلة العلمية لاستكشاف الحقيقة، والأخذ بقرينة الدليل العلمي، كما سيأتي.
(*) مما أورده ابن القيِّم الجوزية في كتابه "الطُرق الحُكيمة في السياسة الشرعية" أنه رُوى أنَّ امرأة قد تَعلقت بشاب من الأنصار وكانت تَهواه، فلما لم يُساعدها احتالت عليه، فأخذت بَيضَة فألقت صُفرتها، وصَبَّت البياض على ثوبها وبين فَخذيها، ثم جاءت إليه صارخة، فقالت: هذا الرجل غلبني على نفسى وفضَحَني في أهلي، وهذا أثر فِعالِه، فسأل عمر النساء فقُـلن له إنَّ ببدنها وثوبها أثر المَنْي، فهَمَّ عمر بعقوبة الشاب، فجَعل يَستغيث ويقول: يا أمير المؤمنين تَثبَّت في أمرى، فوالله ما أتيتُ فاحشةً وما همَمتُ بها، فلقد راودَتني عن نفسى فاعتَصمتُ، فقال عمر: يا أبا الحسن ما ترى في أمرهما؟ فنظر علىّ رضي الله عنه ما على الثوب، ثم دعَا بماء حار شديد الغَليان فصبَّ على الثوب فجمَد ذلك البياض، ثم أخذه واشتمه وذاقه، فعرفَ طعم البَيض، فزجر المرأة فاعترَفَتت.
وفي هذا القضاء يتضح أنه على القاضي أن يستظهر كافة الوقائع والسُبُل التي تؤدي إليها، ولا يكتفي بأدنى فَهم دون أقصاه، فإذا ضاقت به السُبل فعليه اللجوء إلى العِلم ومُستحدثاته، وما مَسألة تَخَسُر بياض البَيض بفعل الحرارة؛ سوى مسألة عِلمية اعتمدها الإمام عليِّ في كشف الحقيقة.
(*) وجاء رجلان إلى إياس بن معاوية يَختصمان في قَطيفَتين إحداهما حمراء، والأخرى خضراء، فقال أحدهما: دخلتُ الحَوض لأغتسل ووضعتُ قطيفتي، ثم جاء هذا فوضع قطيفته تحت قطيفتي؛ ثم دخل فاغتسل فخرج قَبلي وأخذ قطيفتي فمَضى بها، ثم خرجتُ فتبعته فزعم أنها قطيفته فقال: ألكَ بَينة؟ قال: لا، قال: ائتوني بمشط؛ فسرَّح رأس هذا ورأس هذا، فخرج من رأس أحدهما صُوف أحمر، ومن رأس الآخر صُوف أخضر، فقضى بالحمراء للذي خرج من رأسه الصُوف الأحمر، وبالخضراء للذي خرج من رأسه بالصُوف الأخضر.
(*) وكان الهيثم في جيش، فلما جاءت امرأته بعد قُدومه بستة أشهر بولد فأنكر ذلك منها، وجاء به عمر وقصَّ عليه، فأمر برجمها، فأدركها عليّ رضي الله عنه، قبل أن تُرجَم، ثم قال لعمر: إنها صدقت، إن الله تعالى يقول:
﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ الأحقاف: 15. وقال: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ البقرة: 233. فقال عمر: لولا عليّ لهلكَ عمر، وألحق الولد بالرجل( ).
(*) قال شريح: كنتُ أقضي لعمر بن الخطاب، فأتاني يومًا رجل فقال لي: يا أبا أمية إن رجلا أودعني امرأتين، إحداهما حرة مهيرة، والأخرى سريَّة، فجعلتهما في دار، وأصبحتُ اليوم وقد ولدتا غلامًا وجارية، وكلتاهما تدعي الغلام وتنتفي الجارية، فاقض بينهما بقضائك، فلم يَحضرني شيء فيهما، فأتيتُ عمر، فقصصتُ عليه القصة، فقال: فما قضيتَ بينهما؟ قال: لو كان عندي قضاؤهما ما أتيتك.
فجمع عمر جميع من حضر من أصحاب النبي، وأمرني فقصصتُ عليهم ما حدثته به، وشاورهم، وكلهم ردَّ الرأي إليَّ وإليه، فقال عمر: ولكني أعرف حيث مفزعهما، وأين منتزعهما، قالوا: كأنك أردتَ ابن أبي طالب، قال: نعم، وأين المذهب عنه، قالوا: فابعث إليه يأتيك، فقال: لا، له شَمخة من بني هاشم، وإثرة من علم، يُؤتَى إليها ولا يأتِي، وفي بيته يُؤتَى الحكم، فقوموا بنا إليه، فأتينا أمير المؤمنين عليّ، ثم استأذنوا عليه فخرج، وتوجه إلى عمر يسأله: ما الذي جاءك؟ فقال: عرض، وأمرني فقصصتُ عليه القصة، قال: فبما حكمت؟ قلت: لم يَحضرني حكم فيها، فأخذ بيده من الأرض شيئا ثم قال: الحكم فيها أهوَن من هذا، ثم أحضر المَرأتين، وأحضر قَدَحًا ثم دفع إليَّ إحداهما فقال: احلبي فيه، فحلبَت فيه، ثم وَزَنَ القدح، ودفعه إلى الأخرى وقال: احلبي فيه، فحلبَت فيه، ثم وزنه، فقال لصاحبة اللبن الخفيف: خُذي ابنتك، ولصاحبة اللبن الثقيل: خُذي ابنك، ثم التفت إلى عمر فقال: أما علمت أنَّ الله جعل للرجل مثل حظ الأنثيين، وكذلك لبنها دون لبنه، فقال عمر: لقد أرادك الحق يا أبا الحسن، ولكن قومك أبوا، فقال: هوِّن عليك أبا حفص ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا﴾ النبأ: 17.
(*) وجاء رجل إلى الإمام عليّ ادَّعَى أنه ضُرب على رأسه وقد نقص سَمعه، فنقر له الدرهم ثم أقبل يباعده منه وينقره حتى قال: لا أسمع، فعلم عليّ منتهى سمعه، ثم حوَّل وجهه من الأربع جوانب، ثم قال له: إن استوت الجوانب كلها فأنت صادق، فإن اختلفت فأنت كاذب فيما تدعي، فلما استوت أقعد رجلا بسنّه إلى جنب الذي ادعى نقصان سمعه، ثم نقر الدرهم، ثم لم يزل يباعده حتى قال: لا أسمع، حتى فعل ذلك من أربع جوانب، ثم يقيس مقدار سمعه الصحيح والمصاب فيعطيه الدية على مقدار ما نقص من سَمعِه.
فقد عرف الإمام عليّ قواعد الطب الشرعي، وحدد نسبة العاهة التي حدثت للمجني عليه، وقدر التعويض حسب هذه النسبة.
(*) ومن النصوص التي اقتدى بها الفقه الإسلامي في هذا الصدد؛ ما جاء في القرآن الكريم بشأن تلوث قميص يوسف عليه السلام بدم كاذب ﴿وَجاؤُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُون﴾ الآية 18 من سورة يوسف.
فلما أراد إخوة يوسف أن يَجعلوا الدم علامة صِدقهم، قرن الله بهذه العلامة تعارضها، وهي سلامة القميص من التمزيق، فلا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس القميص، ويَسلم القميص من التمزيق، ومن هنا وجب إعمال الأمارات على مسائل كثيرة في الفقه.
(*) وما جاء بالقرآن الكريم من أمر امرأة العزيز ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ﴾ سورة يوسف الآيتان 26، 27.
(*) ورَوَى العلاَّمة شيخُ الحنابلة، أبو القاسِم عُمرُ بن الحسين بن عبد الله البغداديُّ، عن الإمام أحمد: أنَّ المرأة إذا ادَّعت أن زوجها عِنِّن وأنكر ذلك وهي ثيب، فإنه يُخلى معها في بيت، ويقال له: أَخرج ماءك على شَيء، فإن ادّعت أنه ليس بمَني؛ جُعل على النار، فإن ذابَ فهو مَني، وبطل قولها، وهذا مذهب عَطاء بن رباح، وهذا حكم بالأمارات الظاهرة فإن المَني إذا جُعلَ على النار ذاب واضمحلَّ، وإن كان بياض بيض تجمع ويبس، فإن قال: أنا أعجز عن إخراج مائي صح قولها.
(*) وقِيلَ لعليّ رضي الله عنه في فداء أسرى المسلمين من أيدي المشركين، قال: نادوا منهم من كانت جراحاته بين يديه، دون من كانت ورائه فإنه فار.
فاتخذ عليّ رضي الله عنه من موضع الجروح دليلا في الاستعراف.
(*) ولمَّا تَداعَى ابنَيْ عفراء قتل أبي جهل، فقال ﷺ "هل مَسَحتُما سيفيكما؟ قالا: لا. قال: فأرياني سيفيكما، فلما نظر فيهما، قال لأحدهما: هذا قَتَلهُ" فالدم في النصل دليل قوى.
(*) ومن المنقول عن كعب بن سُور قاضي عمر بن الخطاب أنه اختصَم إليه امرأتان كان لكل منهما وَلَد، فانقلبَت إحدى المرأتين على أحد الصَبيين فقتلته، فادَّعت كل واحدة منهما الباقي، فقال كعب: لَستُ بسليمان بن داود، ثم دعَا بتراب ناعم ففَرشَه ثم أمر المرأتين فوطئتا عليه، ثم مَشى الصبي عليه، ثم دعا القائف(*) فقال انظر في هذه الأقدام فألحَقه بإحداهما.
ويؤخذ من هذا القضاء حُجية الدليل العِلمي، فقد عَرف من قصاص الأثر مَن هي صاحبة القدم وأن بَصمَة قدم الطفل تُشبه بَصمَة قدمها.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- المراجع:
(1) الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية لابن القيم. المكتبة التوفيقية بالقاهرة.
(3) مناقب آل أبي طالب، محمد بن علي بن شهر آشوب المازنداراني، المطبعة الحيدرية بالنجف 1956، الجزء الثاني.
(4) قضاء الإمام عليّ، حسن البصام، أمل الجديدة للطباعة والنشر، سورية دمشق، الطبعة الأولى 2018.
(*) القائف: في اللغة: مُتتبع الآثار، وفي الشرع من يلحق النسب بغيره عند الاشتباه، بما خصه الله تبارك وتعالى به من علم ذلك. فالقائف يستعان به بوصفه وسيلة من وسائل إثبات النسب، فإذا وجد شك في بنوة إنسان لإنسان، فإنه من المشروع أن يؤخذ برأي بالقائف، وهو الشخص الذي أعطاه الله القدرة على أن يعرف وجوه الشبه بين الابن وأبيه.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى