عواطف أحمد البتانوني - أوراق من كراس مسافرة.. قصة قصيرة

يومٌ غير عادى. الشمس ساطعَة والجو حار كالصيف في شهر يونيو فى مصر. أهدأ وأستمتعُ بالنظر إلى المحبين. هناك بهاءٌ ما يَشِّعُ حولَهم. أَهو النسيم يشِفُّ ويرقُّ وهو يمر بهم، يكاد يرسم فراشات وأزهاراً ملونة ؟ هل هي الكلماتُ التي يَهمسون بها تكاد تقفز هنا وهناك كأطفال تلبسُ ملابسَ العيد، وتحتضنُ اللعبَ الجديدة، وتضحك في براءة؟ هل هي الأمواج التي تشع من قلوبهم فتدفأ كلُّ الدوائر حولهم كشعاعِ الشَّمس في يومِ شتاءٍ دافِئ ؟ هل هذا البريقُ الأخَّاذ المنبعثُ من عُيونِهم.. والذي يقول فى عفوية وتلقائية، ما لا تستطيع قوله الشفاه : أهواك.. أحبك، وأحلم بكل ما تحلم به ؟ هل هو الحديثُ المتواصلُ الذي إذا انطقع يوصله الصمت الذي يشبه سلسلةً من الفِضَّة، لا يقطعُها إلا حباتٌ من العقيقِ تزيدها تألقاً وجَمالا؟ الله.. كم هو الحب رائع في كل الوجود. أستمتع به بين المخلوقات. قلبي ينصت وعيوني تَتَرقْرق، وأدعو لهم، فقد عشتُ هذا الحب. حتى أبطال الروايات التي أقرأها وأكتبها، أقع في حبِّهم وأشاركُهم مشاعرَهُم، وأعيش معهم لحظات الحب، واستمتع بها، كأنهم ذاتي وكياني وأهلي وأصْحابي. كيفَ لا نحبُّ الحُبَّ وهو نبع يروي الوجود؟.
كنت أجلس فى رُكْني الهادئ. الأضواء خافتة. ورائحة القهوة تملأ رئتي فى أحد المقاهي في ولاية (أوهايو) الأمريكية. كلُّ ما حولي يتألق بالسِّحْر. وجوهٌ باسمةٌ نضيرة، أصواتٌ هامسَة، نظافة ونظام. أصبحتْ هذه الجلسةُ تشدني وتُطلق ملكاتِ الكتابةِ عندي. دخلَ المقهى شابٌّ فى حوالي الثلاثين وفتاةٌ تبدو فى ربيعِها العشرين. جلسا إلى إحدى الطاولات على بعد خطوات منِّى، الفتاة شقراء رشيقة. شعرُها خصلاتُه منسوجةٌ من خيوطِ الشمس. عيونها زرقاء كبحيرة رائعة. أما الشابُّ فكان ناضجاً منسقَ التكوين، شديدَ السُّمرة (أسود) شعره خشن قصير. له عينان سوداوان شديدتا الذكاء، في أحد أذنيه قرط صغير. وقفا لحظاتٍ أمام (الكاونتر) ، وعادا بكأسين من القهوة وشرائح الكيك. كنت أعرف أنه لا يصحُّ لأحدٍ هنا أن يقتحم شَصْخك أو يتطفلَ عليك ولو بنظرة. حقيقة لا أعرفُ كيفَ يسْتطيعونَ ذلك! لكنني مصرية، وعاطفية، وأريد أن أتعرفَ على نوعيات البشر وسلوكهم. رحتُ أختلس إليهم النظر في حذر. حاولتُ ألا أفعلَ حتى لا يوقعني ذلك فى حرج. لم أستطع ، وكيف أستطيع وفي داخلي هذا الكم الهائل من حب المعرفة، وليس الفضول، وفي داخلي كاتب يعشق الكتابة، ولهذا اخترتُ هذا الركنَ شبهَ المظلم الذي أستطيع منه رؤيةَ المكان كلَّه تقريبا ، ورؤية َ كل من يدخل ويخرج، ثم أدوِّن في كراسي كل ما رأيت. من أول وهلة عرفتُ أنهما حبيبان، لم يكن بينهما عِناق أو قُبل ـ وهذا شيء عادي هنا ـ ولكن بداخلي رادار يلتقط نبضاتِ الحبِّ ويبثُّها إليَّ بيسر وسهولة. بَسط كفَّيه الكبيرتين السمراوين، فتسللَ إليهما كفَّاها الصغيرتان البيضاوان، فازدادتا بهاءً وتألقاً. وكانتْ خيوطُ الفجْر تخترقُ سوادَ الخميلة. ضم يديه في حُنو شديد وراحَ يُداعبُ أصابعَها، والحديث الهامس الدائر بينهما لا ينقطع. كمْ تمنيتُ أن أسمَعَه. أما عِناقُ العيون، وإسبالُ الجفون، وارتعاشُ الرموش، فهو لحنٌ حالم رائع أخاذ ، لا يستمتع به أحدٌ سواهما. ورغم َرقةِ وبهاءِ المنظر، ساورَني شعورٌ بالقلق : أسود وشقراء!! ـ حاولت أمام نفسي أن أكون متحضِّرة أرفضُ التفرقةَ العُنصرية البغيضَة، لكنَّني أدركْتُ أنني أكذبُ على نفسي، ورحتُ أتخيلُ موقفَ الأمَّهات والآباء، ونظرةَ المجتمع، بل تعدى خيالي ذلك للأولاد. ما ذنبُهم أن يأتوا إلى الحياة وهم يحمِلون بصْمة َالعُنصرية وبذورَ التفرقة حتَّى ولو كانتْ خافيةً داخل النُّفوس. وتذكرت الفيلم الرائع لــ"سيدنى بواتيه" الممثل الأسمر، وحبيبته الشقراء الجميلة (من سيأتى للعشاء ؟).. كنا شبابا ساعتَها واستطاعَ المخرجُ أن يجسِّدَ المأساة، ويصعدها ويضعَ عشراتِ العقباتِ أمام الحبيبين حتىَّ أبكى كلَّ المتفرجين، كما ركز على النقاش الصريح العنيف بين الأبوين، ولماذا يرفضان هذه الزيجة. ولكن الحب انتصر أخيرا وتزوج الحبيبان. وأزعم أن الوضعَ لم يختلف كثيرا، فالفرق الوحيد أن المجتمع تحت نداء التحضر والحرية وحقوق الإنسان وغيرها، أخفى تلك المشاعر في دهاليز النفوس. تظهر أحيانا بوجه سافر، وتختفي أحيانا استسلاما للواقع الذي بات يفرضُ نفسَه ، ولكنَّ الأفلام الأمريكية تُبدي هذا التناقض بجلاء وصراحة، فهناك مسلسلات وأفلام وكنائس، وتجمعات للسود فقط. ولا أعتقد أن هناك شيئا ما يمكن أن يفك آلام الماضي القاسي من النفوس يمحوه من تاريخ أمريكا. رغم كل هذه الخواطر التي كادت تفسد على متعتي بتواردها على ذهني، ظل منظر الحبيبين أمامي فاتناً حتى تمنيتُ أن يبقيا ساعاتِ طويلةً، أستدفئ بهما وأهربُ إليهما من صقيع الواقع.. ذكرتني رائحة القهوة ببلادي بحبي بأيامي الغابرة وأحلامي الوردية ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى