عبدالباقي يوسف - رسائل الأدباء شخصيات بلا رتوش

تدوينات شيقة وتفاصيل دقيقة ترسم ملامحهم

تشكل رسائل الأدباء، مساقا تعبيريا مباشرا سمته السرد الشيق المتركز في جسد كلمات صريحة مباشرة، يوجهها المبدع إلى أحد المقربين إليه، فيصور عبرها تفاصيل حالته الشخصية ومعايشاته، مجسدا فيها خصوصية نظرته ومفهومه لما يرى من أحداث، ولما يختبر من مستجدات في الحياة. وحيث ان الكاتب يمتلك تأثيراً بما يبدعه، فإن رسائله تلك، تحظى بأهمية مميزة، بشأن القراءات التأويلية والتحليلية المتعددة التي تضاف إلى قائمة الإنتاج الأدبي.
يتضمن الأدب العالمي، مجموعة رسائل بالغة الأهمية، كتبها عدد من النوابغ في مجال الأدب في العالم، وتكمن أهمية هذه الرسائل، في أنها تعرّف القارئ، بشكل مباشر، بالمبدع الذي عادة ما يتخفى خلف شخوصه، في أعماله الأدبية.
ومع الرسائل يتمكن القارئ من الوقوف وجهاً لوجه مع الأديب، ومن جهة أخرى، تكون فرصة مذهلة للقارئ والناقد معاً، لإعادة قراءة أعمال هذا الكاتب، بعد الضوء الذي سلطه الكاتب على نفسه، وعلى تفاصيل الواقع الذي يعيش فيه، من خلال الرسائل التي خطها إلى أناس أعزاء لديه.
من هنا، فإن الناقد والقارئ، معاً، تعرفا على فرانز كافكا بشكل أكثر قرباً، بعد قراءة رسائله التي كانت تشرح في مواضع كثيرة، غموض إبداعه، وكذلك الأمر مع دستويفسكي، وناظم حكمت، وهاينرش فون كلايست. وغيرهم من كبار الشخصيات الأدبية، التي تركت بصمات عميقة في تاريخ الأدب الإنساني.
فيدودور دستويفسكي
يتحدث دستويفسكي بشكل شخصي، وشبه سري، الى أخيه، في رسائل خاصة تعبر عن تفاصيل وقائع حياة هذا الروائي الروسي. وفي إحدى رسائله يقول : "لا أملك كوبيكا واحدا لكتابة رسالة".
وبلغ الفقر بدستويفسكي، أقصى الحدود. ونجد انه يستخدم، وبقوة عظمى، نمط الكتابة الخاص بالتعبير عن نفسه، إذ لا يملك غيرها، كما انه يرمز في رسائله، إلى الإنسان الفقير، بل يختار ان يكون لسان حال الفقراء ورسولهم، فيروي تاريخهم، ربما من دون قصد، عندما يروي تاريخه. ومن ما تقرؤه في هذا الخصوص: "
.. نعم إنهم منعوني من الكتابة، إنني أفضّل أن أسجن خمسة عشر عاما، شرط أن أحتفظ بقلمي في يدي .. إنني لم أفقد الأمل .. أنا مسكون بالخوف من أن يُصاب حبي الأول للعمل بالفتور، قبل انطلاقه على الورق".
ناظم حكمت .. سطور مضيئة
مجموعة من الرسائل، كان الشاعر التركي الراحل ناظم حكمت، قد كتبها وهو في السجن، وهي لا تقل أهمية عن قصائده، كونها تعبر عن تفاصيل دقيقة عاشها الشاعر، بانتظار خروجه من السجن.
ومن هنا، تأتي أهمية رسائل حكمت، التي كتبها من سجنه، كونها من رسائل شخص مفرط الحساسية. فحكمت لم يعرف اليأس، إذ آمن على الدوام، بانه ثمة شمس ستشرق، وبذا سيعيش الحياة ويرى ما هو أهم، فبقي رافعا شعارا هو: "أجمل البحار هي التي لم تبحر بها بعد.. وأجمل الأطفال لم يترعرع بعد.. وأجمل أيامنا هي تلك التي لم نعشها بعد..
وأجمل ما يمكن أن أقوله لك هو ما لم اقله لك بعد".إن هذه الطاقة لدى حكمت، بقيت نابضة بروحية أمل لم يبارحه، فجعلت، رغم أنه في وحدته المنعزلة عن العالم، يختار أن يحيك لرفاقه في السجن السراويل والقمصان، وكذا يوجه رسائله إلى كمال طاهر، السجين مثله، للأسباب نفسها. وايضا إلى شقيقته سامية، وإلى صديق صباه، فالا نور الدين وزوجته مزهر.
فمنذ الرسالة الأولى وهو على موعد قريب مع العفو العام. وفي تاريخ: 5- 12 - 1940، ينقل لكمال ما يقوله له المستشار الحقوقي لوزارة الأشغال العامة: "أستطيع أن أؤكد لك أنه سيطلق سراحك قريبا، خلال شهر من الآن". ونجد انه بقي ناظم حكمت، يعيش على الأمل، حتى الرسالة الأخيرة التي كتبها في تاريخ 8 - 5 - 1950، وفيها يُعلم فالا ومزهر، بأنه على وشك الخروج قريبا: "أطلب إليكما استضافتي لبعض الوقت، لا تتحركا انتظرا برقيتي".
كما انه يواسي نفسه، في رسائله تلك: "لو من دون أن أعرف هذا العذاب، لكنت وليت دون أن أفهم وجها مهما جدا، من وجوه الحياة في هذا الميدان. حمدا لله".
وكذلك، يسجل في رسائله ما كان يردده في لحظات اليأس أمام المساجين: "تفاؤلي هذا الكنز الفريد الذي لا ينضب، يغلي ويطوف، قريبا نصبح أحرارا، أقول لنفسي، وأعاند وفي هذه اللحظة.. يبدو لي العالم حاشدا بالناس الطيبين.. سنلتقي يا أصدقائي.. سنضحك جميعا تحت الشمس".
هاينرش فون كلايست
ويشرح الاديب الالماني هاينرش فون كلايست، في رسائله الكثيرة، سبب كراهيته للحياة، وحبه للموت، ومنها قوله في رسالة إلى أخته أولريكه (بتاريخ 26 أكتوبر 1803): "عزيزتي، إن ما سأكتبه إليك قد يكلفك حياتك، ولكني لابد .. لابد .. لابد أن أكتبه إليك. لقد تناولت في باريس عملي على قدر ما تم فيه، وراجعته ورفضته، ثم مزقته.
والآن انتهى كل شيء. إن السماء تحرمني من الشهرة، من أعظم نعمة في الدنيا، ولهذا فإنني ألقي إليها كالطفل العنيد، بكل النعم الأخرى.. ولهذا فإنني ألقي بنفسي إليه، هو الموت الجميل على أرض المعارك .. إنني أبتهج بالتفكير في القبر ذي العظمة اللانهائية". ومع هاينرش، ندخل إلى تفاصيل عالم شخص بالغ العبقرية، مجبول بالحساسية والتوتر والآلام الكبرى. إنه لا يرى مخرجا من كل تلك الاضطرابات، إلا بالموت.
وهو يكتب عن الأوتار الأكثر حساسية في هذا الأمر، اي جوهر العلاقة بين الإنسان والحياة. إن كلايست، وهو يحاول أن يقدم مفهومه هذا، يذكر لنفسه، قناعة كاملة عن جدوى هذا المفهوم. ويدعو الآخرين الى أن يشاركوه هذا المفهوم، حتى انه في المناسبات السعيدة يقول للعروسين مثلا: "أتمنى لكما موتا سعيدا، وكتأكيد على انسجامه التام مع مفهومه، يتوسل كلايست بإلحاح، إلى كارولين فون شيلر، لتقبل أن تكون شريكته في الانتحار، بيد أنها ترفض هذا العرض.
وترفض متعة تلقي رصاصة الموت، كما يقول لها، كما لا تتردد في أن تنفصل عن صداقته لأنها مولعة بحب الحياة. ويلجأ كلايست، إلى صديقه روهلة، عبر رسالة يقول فيها: "هناك فكرة لا تفارق ذهني.. وهي أنه لنا أن نقوم مرة أخرى بعمل مشترك، فهلم ولنقم بعمل حسن ونموت معه. نموت إحدى ميتاتنا التي تُعد بالملايين التي متناها، والتي سنموتها بعد، وأن الأمر ليشبه خروجنا من غرفة ودخولنا في أخرى".
ولكن روهلة، بدروه، يرفض ذلك ويبتعد عنه لأنه شديد التعلق بالحياة، فيكتب كلايست في رسالة إلى إحدى الصديقات العزيزات لديه: "فلتهب لك السماء موتا فيه شطر من البهجة والمرح اللذين لا يوصفان، اللذين يوجدان في موتي. وهذه هي أكثر الأماني التي أستطيع أن أتمناها لك حرارة وعمقا.. أصاب الجرح روحي، حتى لأكاد أقول انني حين أخرج أنفي من النافذة يؤلمني ضوء النهار الذي يلتمع في وجهي".
ولكنه في النهاية يرى المرأة التي أصاب الجرح روحها كذلك، فتقبل أن تشاركه الانتحار، وهي امرأة أصيبت بداء السرطان، ويئست من الشفاء. فيتخيل كلايست لحظة إطلاق الرصاص عليها: "سيكون ضريحها أحب من أسـرّة كل الامبراطورات في العالم".
ثم يكتب رسالته الأخيرة إلى أخته: "إلى أولريكة فون كلايست .. إلى صاحبة العصمة، لا يمكنني أن أموت قبل أن أتصالح راضيا تماما، على نحو ما أنا الآن مع الدنيا كلها، وبالتالي وقبل كل شيء آخر، معك يا أولريكة، يا أعز الناس عندي. دعيني أرجع عن التعبير القاسي الذي ضمنته خطابي إلى آل كلايست .. لقد فعلتِ، لا أقول أقصى ما يمكن أن تفعله أخت، بل أقول أقصى ما يمكن أن يفعله إنسان لإنقاذي..
والواقع أنه لم تعد في الدنيا وسيلة لمساعدتي. والآن أقول لك وداعا. ولعل السماء تمنحك ميتة فيها نصف ما في ميتتي من الفرحة والبشاشة التي لا سبيل إلى التعبير عنها. هذه هي أخلص وأحب أمنية استطيع أن أتمناها لك".
أخوك هاينرش
شتيمينجس ـــ قرب بوتسدام
صباح يوم موتـــي
شخصية الأديب ورسائله
يشكل القارئ، أحياناً، مفهوماً شخصياً عن المبدع، من خلال ما يقرأ له من أعمال أدبية، ولكنه عندما يقرأ رسائله، يشعر بأنه تعرف إليه عن قرب اكثر. وهذا يؤدي إلى قراءة وتذوّق أدبه بشكل يكون أقرب إلى شخصية الأديب.
وهنا، نجد انه يظن المرء، وللوهلة الأولى، أن آغاتا كريستي، امرأة بوليسية صلبة، ولكننا نكتشف، لدى تعرفنا على حديثها عن نمط حياتها، انها شخصية اخرى مختلفة. ومن ما تقوله كريستي عن طفولتها: "من أمتع سنوات حياتي وأسعدها، سنوات طفولتي الأولى. كان لدي بيت وحديقة، كنت أعشقهما، ومربية ممتازة.. وكان أبي وأمي يجسدان الحب والحنان، وجعلا من حياتهما، ناجحة وهانئة".
إن ما لفت الأنظار بقوة إلى كريستي، كونها كاتبة بارعة في حقل الروايات والكتابات البوليسية، كتابها "أساليب القتل في القضايا الغامضة"، وبخاصة شخصية هيركول بايروت، التي غدت محببة في صفوف كبار الممثلين السينمائيين والمسرحيين، بحيث بات كل ممثل لامع، يحلم بأداء هذا الدور، كي يحظى بمكانة لدى القراء، وبالفعل كانت عملية قريبة إلى المباراة لتجسيد هذا الدور.
ومن أشهر هؤلاء: ألبرت فيثي، بيترا ستنيوف. وكان اللافت هنا، ان الرواية الاخيرة لهذه الكاتبة: "مصيدة الفئران"، لُعبت أدوارها، ما يقارب 13780مرة، وترجمت إلى 25 لغة.
ولكن، بقيت آغاتا كريستي سـيدة هادئة الطبع، تعيش حرارة وقائع الحياة الاجتماعية العامة وبرودتها. وبعد كل هذه التجارب والمحن والإبداعات، قالت في نهاية حياتها: "هذه نزهاتي الطويلة قد انتهت. وحمام البحر الذي آسف علي.
وتناول شريحة من اللحم: الـ(ستيك) أو التفاح، أو ثمار العليق، وها هي متاعب الأسنان أيضا، والحرمان من الطباعة الأولى الدقيقة. لكن لا يزال هناك الشيء الكثير .. الأوبرا .. الموسيقى .. ومتعة الإيواء إلى السرير والذهاب في نوم عميق أحلم فيه بأشياء متنوعة. شكرا لله على هذه الحياة الجميلة التي عشتها، وعلى كل هذا الحب الذي لقيته".
بوح وأسرار
نتعرف على الروائية الفرنسية فرنسواز ساغان، بشكل أكثر قرباً، من خلال كتاباتها الخاصة التي تعد اعترافات تقدم سيكولوجية الكاتبة إلى قرائها، إذ تقول في إحدى رسائلها: "إني متأكدة من أني قد تغيرت، ولكن ليس لدي انطباع بأني نضجت وفهمت الشيء الكثير، وإني لأتساءل إن لم أكن في الثامنة عشرة، أغزر معرفة من ما هو اليوم.. على كل حال، كنت حينها أكثر ثقة بنفسي وبأحكامي، وأعمق تصميما.
في العشرين نكون مترددين، ولكن مقتنعين. في شبابي- إن وسعني قول ذلك - كانت الأمور واضحة، وكان هناك لطفاء وأشرار، ويساريون ويمينيون .. أشياء بسيطة جدا، ولكن في غاية الوضوح. ذاك أمر يدعو للاطمئنان.. عصر اليوم يلفه الغموض قليلا. كل شيء مشوّش مع هذه العبادة للمال التي أضحت لا تطاق. أصبح نصف الناس من التابعين وأصبح النصف الآخر متعصبا.. لم تكن الأمور هكذا في الماضي".
وتقول ساغان عن السعادة، في احدى رسائلها: "السعادة .. سعادة الكتابة وحسب، إنني متأكدة من أن الكاتب الرديء نفسه، يعيش لحظات سحرية عندما يعثر على الجملة المناسبة. والتوافق بين كلمتين، ففي هذه اللحظات وحدها، يشعر الكاتب بأنه كاتب حقيقي .. إنني مولعة بحب الحياة، قضيتها وأنا أعيش أكثر مما فعلت، وأنا أكتب أتمتع بحس السعادة. التعاسة لا تعلمنا شيئا".
سارتر ودي بوفوار
ونتعرف على أفكار سيمون دي بوفوار، من خلال ما تركت من أحاديث ورسائل شخصية تفسر أدبها، وتعكس فيها صورة عن مفهومها للأدب والحياة والآخرين.
ونجدها، في هذا الخصوص، تقول عن كتابها "الجنس الآخر" : "هوجمت خصوصاً، بسبب فصل الأمومة، وصرح رجال كثيرون، بأنه لم يكن يحق لي التحدث عن النساء لكوني لم أنجب أولاداً. ترى، هل أنجبوا هم؟ إنهم يعارضونني بأفكار ليست حاسمة ولا قطعية، أتراني قد رفضت كل قيمة لشعور الأمومة والحب؟ كلا، لقد طلبت من المرأة أن تعايش هاتين القيمتين وبشكل حرّ، في حين أنهما غالباً ما تخدمانها كحجة، وأنها تخضع لهما إلى درجة أن الخضوع يبقى إذ يكون القلب قد جف .
. كان من ألوان سوء التفاهم التي خلقها الكتاب الاعتقاد بأني كنت أنكر فيه أي فرق بين الرجال والنساء، والحقيقة أني بالعكس، قست وأنا أكتب الكتاب، ما يفصل الجنسين، ولكن ما ذهبت إليه هو أن تلك الاختلافات هي ثقافية وليست طبيعية، وأخذت على عاتقي أن أروي كيف كانت تنشأ هذه الاختلافات". وتقول دي بوفوار، عن علاقتها بالفيلسوف الفرنسي سارتر: "الحقيقة أنني كنت منفصلة عن سارتر، بالقدر الذي كنت التحم فيه مع هذه الشخصية.. كانت علاقتنا جدلية.
أحياناً كنت أشعر بأنني على مسافة لا معقولة منه، وفي أحيان أخرى كنت أشعر كأنني النصف الذي يكمل النصف الآخر. أخذت منه وأخذ مني، وبالتأكيد لم أكن تابعة لـه".
وتضيف دي بوفوار: "لقد كان رجلا حقيقيا يعرف كيف ينتمي إلى الحقيقة، وكيف يبحث عنها. وعندما وضعت كتابي، كنت واثقة أن هذا أفضل ما يمكن أن يقدم لرجل لا يزال حيا .. كشفت عن سارتر الجانب الذي كان الناس يريدون أن يعرفوه، فلسفته ليست تعبيرا امبراطوريا عن أفكار تجول في وجدان الشخص.. إنها الدخول إلى أعماق الناس. حاولت أن أضيء بعض المشاهد غير المعروفة في حياته، لكي أظهر كيف أن الارتجاج هو انعكاس جزئي لزلزال يتشكل داخل عقل الفيلسوف".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى