محمد فايز حجازي - الجامود.. قصة

لا أقول بأن خبرتي العملية كطبيب متخصص في علاج الأمراض النفسية والعصبية وحالات الإدمان، قد تجاوزت السنوات الأربع، عملت في خلالهم في تلك المصحة على طرف هادئ من أطراف المدينة، بعيدًا عن الصخب والزحام القبيحين (أنزعج كثيرًا من التجمعات والأصوات المرتفعة)، غير أن تلك السنوات -على قلتها- كانت كافية تمامًا لئن أستقبل مئات المرضى على اختلاف أعمارهم وحالاتهم، انتابتني في خلالها مشاعر شتى، واجتاحتني فيها أحاسيس متناقضة، حزن، شفقة، توتر، يأس، ترقُّب. غير أن ما حدث معي بعد فجر يوم أمس، لهو مزيج مؤلم وقابض من كل تلك الأحاسيس!
ولأنني أحدث الأطباء الذين انضموا إلى المصحة، فقد كانت أغلب أوقات عملي ليلًا (مؤخرًا صرت أعشق الليل وسكونه بعيدًا عن الناس وسخافاتهم)، يبدأ عملي في العاشرة مساءً وينتهي في الثامنة أو التاسعة من صباح اليوم التالي، بعد أن يأتي أستاذ من أولئك الذين لديهم أضغاف ما لديَّ من سنوات الخبرة.
(بالمناسبة سنوات الخبرة في مجالنا لا تعبر بالضرورة عن مدى إنسانية صاحبها).
وعلى رغم الإرهاق والوهن الشديدينِ اللذينِ دائمًا ما كانا يتملكانني نتيجة جهدي الطويل ليلًا ونومي القصير نهارًا، فلم أكن معتادًا طيلة حياتي إلا على النومَ مبكرًا والاستيقاظ فجرًا، كما عودتني أمي رحمها الله (كم أشتاق إليك يا أمي ومعشوقتي)؛ وقد كنت أجد شغفًا كبيرًا ومتعة قصوى في ساعات عملي المتأخرة والمرهقة.
ذلك لأنني –وعلى رغم وسامتي- لم أكن متزوجًا أو حتى مرتبطًا (لم أصادف من أستشعر أنها ستتفهم طبيعتي إلى الآن)، وربما أيضًا لانشغالي بمرض أمي في سنواتها الاخيرة وقبل تخرُّجي في الجامعة، وقد كنتُ ابنها الوحيد، ورفيقها الوحيد أيضًا، بعد وفاة والدي قبلها بأشهر معدودات (كم كسرت وفاته ظهرينا أنا وأمي!).
على أية حال فلم يكن لديَّ من المسؤوليات ما يعيقني عن تركيزي الشديد في عملي وشغفي الكبير به، لاسيما بأن غاية سعادتي كانت تتجلى عندما أسشعر بأن الله قد منحني من الأسباب، ما قد أفرج بها كربة مهموم، أو أمحو بها محنة مريض، علاوة على إسعاد أُسَر كانت في طريقها لئن تتمزق، وكنتُ لا آلو جهدًا لإدراك تلك الغاية التي كنت أجد فيها لذتي الوحيدة، في حياة أعيشها بلا قريب أو رفيق خارج المصحة.
وقد أتاح لي أيضًا عملي في تلك الساعات المتأخرة، استقبال أدق الحالات وأعقدها، فلا يقصد المصحة -على الأرجح- ليلًا إلا من ضاقت بهم سبل الأمل نهارًا، فظلمة الليل سكن للآلام وسكونه قِبلة للأشجان.
حتى جاءت ليلة أمس، ليلة من ليالي الشتاء القارسة، تجولت فيها كعادتي أتفقَّد نزلاء المصحة، أطمئن إلى أحوالهم وجرعات أدويتهم، وأستمع بإنصات إلى قصصهم فقد كنت صديقًا حميمًا لمعظمهم (كذلك كانوا هم أصدقائي الوحيدين)، ينتظرون مروري لنتسامر، يبوحون لي بأدق أسرارهم، بعد أن تأكدوا بقلوبهم أنني لست طبيبًا فحسب بل صديقًا صدوقًا لهم، فكم منهم من كان يسشعر بالغربة، غربة النفس بين الأهل والأصدقاء، وغربة الروح في أحضان الوطن.
قبيل أن يُطل الفجر، كنت قد أنهيت جولتي وأحاديثي الماتعة مع الرفاق، تسامرنا وانتشينا، دندنَّا وغنينا، توجهت بعدها إلى مكتبي الصغير، أجلس جلستي المفضلة بجوار النافذة المطلة على حديقة المصحة، أجلس على كرسي، وممددًا قدميَّ على كرسي آخر، أحتسي كوب الينسون الذي أعشقه (كما عودتني أمي في الشتاء، كانت تعده لي دائمًا عندما أستذكر دروسي)، استغرقت في تأملاتي عن الحياة كيف كانت وإلى ما صارت، غصة مريرة في حلقي، وانقباض في قلبي كنت أستشعرهما على الدوام، يزدادا يومًا بعد يوم، ربما يزيدهما مرحي المفتعل مع رفاقي في المصحة، أمرح بينهما في حين تعتمل نفسي بشجون هائلة، يثيرونها بلا عمد داخلي كالبركان.
أفقت من تأملاتي على أشعة الشمس الواهنة، وقد بدأت تسري على استحياء مُتلمسةً طريقها لجسدي المنهك والبارد، في الحديقة كان هناك قِط يلهو في نشاط مداعبًا ذرات الغبار، التي أظهرتها أشعة الشمس عبر الأثير، أسعدني كثيرًا مشهده، لا سيما وقد صاحبته زقزقة العصافير، كموسيقى تصويرية إلهية، يطربني صوتها (كانت أمي تحب القطط تضع لهم الطعام والحليب في الشوارع، وتعشق العصافير، تمنحهم الحبوب في شرفتنا صباح كل يوم بعد صلاتها).
هكذا ظللت أرقب المشهد وأنصت في دفء ونشوة عظيمين، حتى انتزعتني من حالتي الحالمة تلك، أصوات صخب وهرج خارج المكتب تقترب. انتفضت واقفًا، هممت بالخروج وقبل أن أفعل، هالني ما رأيت، رأيت رجلًا في بداية العقد الرابع من عمره، متخشبًا كالروبوت بلا حراك. يساعده على الحركة رجل وامرأة، أو بالأحرى هم يحركونه، أحدهم يرفع له قدمًا ليخطو خطوة، ثم يرفع له الآخر قدمه الأخرى ليكمل خطوته، المدهش أن الرجل كان يقبض بكلتا يديه في قوة، على كرة بلاستيكية كبيرة، كتلك التي يلهو بها الأطفال، وكأنه يخشى أن ينتزعها منه أحدهم، ظل الرجل والمرأة المصاحبان يحركونه في بطء شديد حتى أجلساه على السرير الصغير في مكتبي، في حين أداراه ليجلس، لمحت على كتفيه شنطة مدرسية قديمة يعلقها على كتفيه كالتلاميذ، عندما جلس جعل يردد في بطء، أين إيمان؟!.. يا إيمان!.. إيمان، ربتُّ على كتفه، ثم سألته في حنو:
- ما اسمك يا أخي؟

- إيمان (رد ردًّا آليًّا واهنًا) ثم كرر، إيمان... إيمان... إيمان!
- هو على هذه الحالة منذ يومين، يفيق ويلين قليلًا ثم يعاود غيبوبته وجموده ثانيةً، عرضناه على أطباء كثر، نصحونا بالمجيء إلى هنا (قالتها السيدة متوجهًة إليّ ثم استطردت).
- أنا أخته يا دكتور وهذا زوجي (قالتها وهي تشير إلى الرجل الواقف بجوارها).
كنت منذ أول وهلة قد فطنتُ إلى طبيعة الحالة التي عليها الرجل، على الرغم من أنها المرة الأولى التي أستقبل فيها مثل حالته، لنُدرتها وصعوبة الوصول إلى شدتها تلك التي عليها هذا البائس المسكين، ارتبكت لدقائق، وكأنني لم أستقبل مريضًا قط طيلة سنوات عملي. تماسكت قليلًا ثم سألت السيدة:
- من هي إيمان هذه الذي ينادي باسمها؟
- لم أعرف أحدًا بهذا الاسم، إلا زميلة لي في دراستي الابتدائية. (أجابت السيدة):
- وهل يعرفها أخوك؟
- نعم، كانت زميلتي في الفصل، وكان أخي يكبرنا بعام واحد، وكان يرافقنا على الدوام.
- وأين هي الآن؟
- لا نعرف عنها شيئًا منذ سنوات عديدة.
- هل أخوك متزوج؟
- لا.
- ومع من يعيش؟
- يعيش وحيدًا في منزل أبوينا بعد رحيلهما.
لم أكن في حاجة إلى تلك المعلومات لأتأكد من تشخيصي، فالحالة وإن كانت بعيدة عن الخلد، غير أنها واضحة بجلاء لا لبس فيه، كان عليَّ تخدير الرجل، وتوصيل صدمة كهربائية إلى الدماغ، لتخفيف الأعراض، وهذا ما حدث بالفعل بعد أن توجهنا إلى غرفة الكهرباء. بعدها جلست بجوار المريض أكتب تقريرًا تفصيليًّا بطبيعة الحالة، وما تم معها والمهدئات اللازمة بعد جلسة الكهرباء.
لم تمض دقائق حتى ظهر عند باب غرفة الكهرباء، الطبيب الأستاذ الذي سيشرف على المصحة نهارًا.

- صباح الخير يا دكتور. (بادرني بابتسامة ودودة).
ناولته التقرير في وهن، ثم تذكرت أن أرد تحيته، فقلت في بطء:
- صباح الخير يا دكتور.
قلتها ولم أزد حرفًا، أخذت حقيبتي ثم انصرفت، لم أعبأ بنداءات أستاذي الملحة، ليس استهزاءً أو تقليلًا من شأنه بكل تأكيد، ولكنني كنت بالفعل لا أرغب في الحديث على الإطلاق.
انصرفت لا أنظر خلفي، فلم أكن أدري هل سأستطيع العمل في الأيام المقبلة!
أم أنني سأحتاج إلى راحة..
راحة قد تطول لأيام كثيرة، أو ربما أسابيع..
هذا بالطبع حالما قررت الاستمرار في العمل!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى