الموشحات -2- دعوة الحق

الموشحات في الأندلس:
انتهينا في الفصل السابق إلى أن التوشيح فن أندلسي نشأ في أواخر القرن الثالث الهجري، ولكننا نلاحظ أنه لم يظهر ولم ترد نصوصه إلا بعد قرن من هذا التاريخ بعد أن أستقل عن الأغاني الشعبية التي كانت أساسه ومصدره، ويغلب على الظن أن السبب في هذا الإبطاء هو صدود المسؤولين وشيوخ الأدب الذين رفضوا قبوله وحاربوه حماية منهم للثقافة العربية والشعر خاصة.
وربما كان مكرم بن سعيد وأبن أبي الحسن من أول الوشاحين الأندلسيين وإن لم يرد ذكرهما عند غير ابن بسام، كذلك يعتبر يوسف بن هرون الرمادي من أوائل الناظمين في هذا الفن، وفي الذخيرة أنه (أول من أكثر من التضمين في المراكز يضمن كل موقف يقف عليه في المركز خاصة) (1) إذ لم يكن في الموشحات تضمين ولا أغصان، ولكننا للأسف الشديد لم نتوصل من تواشيحه ولا بنموذج واحد، ولعل عبادة بن ماء السماء هو أول من اكتملت عنده صورة هذا الفن، فقد قال عنه ابن بسام أنه (كان في ذلك العصر شيخ الصناعة) (2)ويظهر أنه كان مكثرا من نظم الموشحات وإن لم تحفظ فنا غير اثنين منها أوردهما ابن شاكر عند ترجمته له (3)، فسبب الصلاح الصفدي أحداهما إلى ابن عبادة القزاز وهي التي مطلعها:
من ولي، في أمة ولم يعدل، يعزل، إلا لحاظ الرشا الأكحل.
وفي خرجتها يقول:
يا علي، سلطت جفنك على مقلتي = فابق لي، وجد بالفضل يا موئلي
وبالرغم من مكانة عبادة فقد أغفل ذكره أبن خلدون كما أضطرب فيه ابن سناء الملك فخلط بينه وبين ابن عبادة القزاز، وأبو بكر محمد بن عبادة (4) هذا هو أشهر وشاح خلف ابن ماء السماء، كان الشاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية مدحه في كثير من الموشحات، ومن مذاهبه الغزلية:
أذاب الخلـد نهد منهـــد
وغصن تأود في دعص مبلد
عن سقـم مكـمـد
ومن الوشاحين الذين عاصروا ملوك الطوائف أبو بكر محمد بن عيسى الداني المعروف بابن اللبانة كان كثير المدح للمعتصم المذكور ثم للمعتمد بن عباد وإبنه رشيد حيث زارهما في منفاهما بأغمات ومدحهما هناك، كذلك ممن نبغوا في هذا العصر أبو بكر محمد بن رافع رأسه الذي قال عنه صاحب المغرب (له موشحات مشهورة يغني بها في بلاد المغرب منها في مدح المأمون ابن ذي النون) (5)
والملاحظ أن شعراء الأندلس الممتازين أمثال ابن هانئ وابن زيدون وأبن دراج القسطلي وأبن شهيد ظلوا محافظين على طريقتهم التقليدية ولم ينظموا في الموشحات وإن كان لبعضهم شيء قريب منها، فأين هانئ مثلا كان له بعض القصائد الشبيهة بالموشحات والأزجال وابن زيدون له مخمسات اعتبرها بعض الباحثين من الموشحات وهي ليست منها كالتي يقول فيها:
سقى الله أطلال الأحبة بالحمى
وحاك عليها ثوب وشي منمقا
وأطلع فيها للازاهر أنجما
فكم رفلت فيها الخرائد كالدمى
إذ العين غصن والزمان غلام
أهيم بجبار يعز وأخضع
شذا المسك من أردانه يتضوع
إذا جئت أشكوه الجوى ليس يسمع
فما أنا في شيء من الوصل أطمع
ولا أن يزور المقلتين منام
قضيت من الريحان أثمر بالبدر
لواحظ عينيه ملئن من السحر
وديباج خديه حكى رونق الخمر
وألفاظه في النطق كاللؤلؤ النثر
وريقه في الارتشاف مدام
وفي العصر المرابطي، ويعتبر العصر الذهبي لهذا الفن بفضل تشجيع المسؤولين الذين كانوا يميلون إلى عدم التقيد بتقاليد الشرق، لمع أسم أحمد بن علي الشهير بأعمى طليطلة الذي عمل مع ابن بقي (6) على رفع مستوى الموشحة إلى مكانة القصيدة وجعلها تنافسها حيث بدأت تعالج كل الموضوعات، وقد كان ابن علي شاعرا مجيدا ومع ذلك فقد كانت موشحاته سبب ما نال من حظوة وشهرة، أما ابن بقي وإسمه يحيى بن عبد الرحمن القرطبي فقد أشتهر بمدحه لبني القاسم قضاة سلا بالمغرب وكان مكثرا من التوشيح حتى لقد قال عنه صاحب الخريدة أن له ما ينيف عن ثلاثة آلاف موشحة ومثلها قصائد ومقطوعات.
ومن أشهر الوشاحين في هذا العصر الفيلسوف الشاعر أبو بكر محمد بن يحيى السرقسطي المعروف بابن باجة وأبو بكر محمد بن عيسى بن قزمان القرطبي الذي قال عنه صاحب «المغرب» إنه كان إمام الزجالين بالأندلس) وأنه انصرف عن النظم المعرب عند ما رأى نفسه تقصر عن أفراد عصره كابن خفاجة وغيره فعمد إلى طريقة لا يمازجه فيها أحد منهم فصار امام أهل الزجل المنظوم بكلام عامة أهل الأندلس.
كذلك كان من المبرزين في هذا الفن علي بن حزمون المرسى الذي كان معروفا بنظراته الدقيقة فيه، فقد ذكروا أن يحيى الخزرجي أنشده مرة بعض موشحاته فقال له ابن حزمون: (ما الموشح بموشح حتى يكون عاريا عن التكلف) فلما طلب منه مثالا على ذلك قال: (مثل قولي:
يا هاجري هل إلى الوصال = منك سبيل
أو هل ترى عن هواك سالي = قلب عليل
أما في العصر الموحدي فقد بدأ نجم هذا الفن في الأفول حيث نجد أن أشهر وشاح هو الحفيد أبو بكر محمد بن زهر طبيب يعقوب المنصور، وقد كان عالما بفنون الأدب وضروب التوشيح لدرجة أن الأدباء كانوا يحكمونه في كثير من قضاياهم، سئل مرة عن أحسن موشحاته فأشار إلى التي يقول فيها:
ما للموله من سكره لا يفيق ياله حيران
من غير خمر ما للكئيب المشوق يندب الأوطان
ومن الذين يرعوا في هذا العصر كذلك اسحق بن سهل الاشبيلي ومن أحسن منظوماته تلك التي قال عنها إبن خلدون أنها من أحسن الموشحات في هذا العصر وهي التي يقول في مذهبها:
هل درى ظبي الحمى أن قد حمى
قلب صب حله عن منكس
فهو في حر وخفق مثــلـــما
لعبت ريح الصبا بالقبس
وقد عارض لسان الدين بن الخطيب فقال:
جادك الغيث إذا الغيث هما
يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلــما
في الكرى أو خلسة المختلس
وقد كاد يموت هذا الفن بعد أن انصرف الناس عنه إلى الزجل لولا محاولات ابن الخطيب الذي عمل على إحيائه فألف كتابا على غرار (دار الطراز) جمع فيه الموشحات الأندلسية سماه (جيش التوشيح) وجاء بعد لسان الدين تلميذه ابن سهل ولكنه على عكس كان ينظم منظوماته يعني بها ويطيل النظر في أسلوبها.
وكان أن انتهى أمر هذا الفن في الأندلس بانتهاء أمر المسلمين فيها ولكن لا إلى الموت وإنما إلى الرحيل نحو المشرق حيث عالجه الشعراء في غير قليل من التكلف متقيدين بكثير من القيود الشكلية التي سطرها ابن سناء.

الموشحات في الشرق:
في التقديم الذي كتبه الدكتور جودة الركابي لدار الطراز قال متحدثا عن صاحب الكتاب أنه (أول من أدخل فن الموشحات إلى الشرق) وهو قول غير صحيح بدليل أن ابن سناء الملك ذكر في أول كتابه أنه كان شغوفا بالموشحات الأندلسية والمغربية يقرأها ويحفظها ويحاول تحليلها وإدراك قيمتها، ويزيد في إبطال هذا الرأي أن الشاعر المصري لم يتصل مباشرة ببلاد الأندلس والمغرب حتى يتاح له التعرف على هذا الفن في موطنه الأصلي، فابن سناء الملك إذن لم يكن أول من أدخل هذا الفن إلى بلاد الشرق فقد كانت تعرفه من قبل ولكن البحث لم يصل بعد إلى نتيجة نهائية في التعرف على من سبق في تعريف المشارقة بهذا الفن، لعله أندلسي سافر إلى بلاد الشرق لسبب أو لآخر، أو لعله أحد المشارقة رحل إلى بلاد المغرب الأندلس، أو لعلها جماعة من المغنين والملحنين سافرت من هنا أو هناك، أو لعلها كتب ورسائل كانت تتبادل بين البلدين، وربما يكشف البحث في مستقبل الأيام عما يثبت به بعض هذه الفروض.
وبالرغم من أننا لا نملك دليلا يمكن الاعتماد عليه، فقد زعم أكثر من مستشرق أن بعض الأندلسيين رحلوا إلى بلاد المشرق ونقلوا معهم فن الموشحات، يقول (انخل بالنثيا) أنه (في خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين توجه من أهل الأدب إلى المشرق وكان لهم أثر عظيم هناك، وعن طريق هؤلاء انتقل الزجل إلى المشرق وكان أول من علم أهله أبو مروان بن زهر الذي مارس الطب في بغداد، وأبو علي الشلوبيني النحوي، وعبد المنعم بن عمر وكان كحالا وفيلسوفا وأصله من جيان وأصبح فيما بعد شاعر صلاح الدين الأيوبي، وأبن سعيد الغرناطي الذي اجتمع في المشرق بشعراء أندلسيين هاجروا من بلادهم وانصرفوا إلى صناعة الزجل في مهاجرهم ومن أولئك أبو الحاج يوسف بن عقبة) (7) وقد رد على هذا الرأي الدكتور مصطفى عوض الكريم بان الموشحات في ذلك الوقت لم تكن قد أصبحت فنا معترفا به في الأندلس (8). وواضح أن هذا رأي خاطئ لما مر بنا من أن العهد المرابطي وهو الفترة التي رحل فيها هؤلاء الأندلسيون، كان العصر الذهبي لهذا الفن. وشبيه برأي المستشرق الاسباني قول صاحب المغرب متحدثا عن أمية بن أبي الصلت الاشبيلي: (وتوجه في رسالة إلى مصر فسجن في القاهرة في خزانة البنود، وكان فيها خزائن من أصناف الكتب، فأقام بها نحو عشرين سنة، فخرج منها وقد برع في علوم كثيرة من حديثة وقديمة.. وعنه أخذ أهل افريقية الألحان التي هي الآن بأيديهم) واستند الدكتور شوقي ضيف على أهل هذا الكلام وعقب عليه بقوله: (ولا بد أنها كانت مصحوبة بموشحات رواها لهم).
ومهما كانت الوسيلة التي انتقل بها هذا الفن إلى المشرق فإن مصر كانت أول دولة تقبلت هذا الفن الذي وجد في ربوعها بيئة صالحة لانتشاره وازدهاره، فقد ألف الشاعر المصري هبة الله بن سناء الملك كتاب (دار الطراز) ضمنه كثيرا من موشحات الأندلسيين وما نظمه على طريقتها من غير أن يورد ما أنتجه غيره من المشارقة في هذا الفن، وفي مقدمته التي تحدث فيها عن أصول فن التوشيح وطريقة نظمه قال: (ولم أر أحدا صنف في أصولها يكون للمتعلم مثالا يحتذى به وسبيلا يقتفى، جمعت في هذه الأوراق ما لابد لمن يعانيها ويعني بها من معرفته، ولا غناء بها عن تفصيله وجملته ليكون للمنتهى تذكره وللمبتدئ تبصرة) (9)
وإلى جانب تقنينه لهذا الفن الذي كان عالما به ناقدا له عالج موضوعات في براعة وإجادة ودون تكلف كثير، ولعل أهم ما يلاحظ على ابن سناء الملك في بعض موشحاته ظاهرتان، أما الأولى فابتكاره للخرجات وعدم تقيده بالخرجات المغربية التي كان معاصروه لا يختمون توشيحاتهم بغيرها بل عمد إلى وضع خرجة فارسية في موشحته التي مذهبها:
في خديك من صير اللاذ = ثياب الياســمين
ودع ذافيا حيرة الواشي = من ذا السحر المبين
وفي الخرجة يقول:
دانستي كربوسة بمن داد = دها انكسـتـريـن
أو اروكواي دست من باش = ببوسته شبـيـن
ومعناها (هل تعرف متى قبلتها أن فمها..كن شاهدي على هذه القبلة التي منحتني إياها) (10)ويظهر أن ابن سناء الملك كان يحاول تقليد بعض الموشحين الأندلسيين الذين كانوا يضعون لموشحاتهم خرجات رومانية أمثال ابن بقي الذي يقول في إحدى خواتم منظوماته:
ألـــب ديـــه اشــــت ديـــه = دي ذا العنصر حقا
بـشـتـري مـو الـمـدبـــــــح = ونشق الرمح شقا
ومعناها: (هذا اليوم يوم فجري، إنه يوم عيد العنصرة، سوف ألبس ثوبي المزين وأشق الرمح شقا).
وأما الظاهرة الثانية التي خالف بها ما درج عليه الموشحون فعدم التزامه أحيانا لقافية واحدة في أسماط كل بيت كما في موشحه الذي يقول فيه:
عسى، ويا قلما تفيد عسى
أرى لنفسي من الهوى نفسا
مذ بان عني من قد كلفت به
به قلبي تدلج في تقلبه
وبي إذن شوق عاتي
ومدمع بوم شاتي
لا أترك اللهو والهوى أبـدا
وإن أطلت العتاب والفندا
إن شئت فأعدل فلست أسمع
أنا الذي في الغرام أتبع
وتحتـــدي صـــبابتي
فلتدعـني وعــاداتي
وغير ابن سناء الملك نبع وشاحون آخرون في مصر منهم ابن الوكيل صدر الدين محمد بن عمر الدمياطي المعروف برقته في الشعر وبمعارضته لقصائد غيره، وقد أورد له المقري موشحة ضمن خواتم إقفالها إعجاز نونية ابن زيدون، منها هذه الاشطار:
غدا منادينا، محكما فينا
يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
بحــــــر الـهـوى يـغــرق من فيه جهده عام
ونـــــاره تـــــحــــرق من هم أو قد هام
وربـــمـا تــقـــلــــــق فتى عليه نام
قد غير الأجسام وصير الأيام
سودا وكانت بكم بيضا ليالينا
ومنهم كذلك محمد بن سليمان بن علي التلمساني المعروف بالشاب الظريف وكما الدين علي بن محمد بن يوسف الشهير بابن النبيه، وجمال الدين محمد بن محمد بن نباتة الذي أورد له المقري موشحة لا توجد بديوانه وهي التي يقول فيها:
أحـــبتـي وصــــحـــابــي = هذا أوان شرابي
باكـــر خــــلاصـــــة خم = ر مشوقة للنفوس
عـــلى أهــــله قـــطــــر = تحكي شفاه الكؤوس
مـــــن كـــف ظــبي كـبـدر = في الترك نامي الغروس
إلى الـخـطـا ذي انـتـســــاب = عدمت فيه صوابي
ولم تكن مصر وحدها التي تقبلت هذا الفن النازح من الأندلس، وإنما سعت إليه كذلك أقطار الشام والعراق بالرغم مما كان في هذا الأخير من سيادة الموسيقى والغناء الفارسيين، وربما كان أبو مروان بن زهر الذي مارس الطب في بغداد ناقل هذا الفن إلى العراقيين، وقد نبغ منهم فيه شهاب الدين محمد بن يوسف التلعفري الموصلي، والقاسم الواسطي، وشمس الدين محمد بن دانيال الموصلي، الطبيب الشاعر، وعبد العزيز بن سرايا المعروف بصفي الدين الحلي، ويعتبر من أشهر الموشحين المشارقة، وفي ديوانه موشحات كثيرة يبدو عليها طابع التكلف والتصنع ومن أشهرها تلك التي يقول في مذهبها:
شق جيب الليل عن نحر الصباح = أيها الساقون
وبدا للطل في جيد الاقاح = لؤلؤ مكنون
ودعانا للذيذ الاصطباح = طائر ميمون
وفي آخرها:
نال فعل الخمر من ذات الخمار = عند شرب الراح
فغدت تستر من فرط الخــمار = وجهها الوضاح
خلتها إذ لم تدع بالاختـــمار = غير صلت لاح
قمرا تم لسبع وثمــــــان = وفي الليالي ألون
قدرته الشمس في حال القـرآن = فهو كالعرجون
أما الشام فمن الأسماء التي لمعت فيها سراج الدين عمر بن مسعود الحلبي، وخليل بن أبيك الفلسطيني المعروف بالصلاح الصفدي، وكان متصلا بالموشح الأندلسي محمد بن يوسف بن حبان ولعله استفاد منه كثيرا مما يتعلق بهذا الفن، ومن قوله في توشيحاته:
لا تحسب القلب عن هواك سلا
وإنما حاسدي الذي نقلا حرف
أسلو ولا صبر لي ولا جلد
ونار شوقي وسط الحشا تقد
وكل وجد دون الذي أجد
ما وصل القلب في هواك إلى
هذا ولو شئت أن ترى بدلا سوف
وقد وصف ابن خلدون هؤلاء الوشاحين فقال:
(وأما المشارقة فالتكلف ظاهر على ما قالوه من الموشحات، ومن أحسن ما وقع لهم في ذلك موشحة ابن سناء الملك التي اشتهرت شرقا وغربا أولها:
حبيبي أرفع حجاب النور عن العذار
تنظر ألمك على كافور في جلنار)
واعترف المشارقة أنفسهم بذلك وفي مقدمتهم ابن سناء الملك الذي قال عن موشحاته أنها كالظل إذا قورنت بالموشحات الأندلسية وأنها ناقصة عند قدر كمالها.

الموشحات في المغرب:
إذا كان المشارقة على نحو ما رأينا قد عالجوا فن الموشحات وقننوه بعد أن انتقل إليهم على بعد المسافة وطولها، فماذا كان دور المغاربة الذين هم أقرب العرب جورا للأندلس، لا يفصلهم عنها غير مضيق لا يتعدى بضعة أميال والذين أخضعوها لحكمهم في الفترات الأخيرة من تاريخها.
للأسف الشديد ليس في كتب الأدب والتاريخ التي بين أيدينا نصوص تثبت أن المغاربة عالجوا فن التوشيح، وقد كان منتظرا من صاحب المطرب أن يطلعنا على نماذج مغربية لهذا الفن، خاصة بعد أن قال عن الموشحات بأنها (من الفنون التي اغرب بها أهل المغرب على أهل المشرق وظهروا فيها كالشمس الطالعة والضياء المشرق) ولكنه لم يفعل حتى بالنسبة للأندلسيين واكتفي بذكر موشحين لأبي بكر ابن زهر.
ولعل السبب في ضياع هذه الموشحات أن الذين كتبوا عن المغرب أهملوا تسجليها ظنا منهم أنها ليست من الأهمية حتى يوردوا نصوصها، وأعتذر بعضهم عن ذلك بأنه (لم تجر العادة بإيرادها في الكتب المجلدة المخلدة).
وربما كان الداعي إلى فتور هذا الفن عند المغاربة وعدم اهتمام مؤرخيهم بذكره وتسجيله أن أدباء العصر الموحدي، وهو عصر ازدهار اللغة العربية وآدابها في المغرب، حاولوا البعد عن تقليد الأدب الأندلسي معرضين عن أصحابه الذين كانوا كثيري الفخر والمباهاة.
ولكنا مع هذا لا نستبعد أن يكون المغاربة قد عالجوا هذا الفن في كثير من الإتقان والإبداع خاصة وقد وفد عليهم كثير من الوشاحين والزجالين الأندلسيين أمثال الحفيد بن زهر، وأبن حزمون والهيثم المريبطري، وسهل بن مالك الغرناطي، ولعلهم لم يمارسوه إلا في العصور المتأخرة وبعد سقوط الأندلس ونزوح الهاربين منها إلى المغرب ،بعد انتشارالطرب الأندلسي القائم على الموشحات وإقبال المغاربة عليه.
وقد ازدهر هذا الفن الغنائي الجديد في تطوان وفاس والرباط وهي أهم المدن التي استوطنها أهل الأندلس، وقامت له أجواق كثيرة متعددة على ما وضعه فنان مغربي لا يستبعد أنه من سلالة هؤلاء الوافدين يدعى (الحايك) كان له فضل جمع الموشحات والأزجال وما إليها وتلحين ما ناسب منها مزاج المغاربة وذوقهم. ومن الأمثلة على ذلك موشحة في مدح الرسول لا زال المغاربة حتى اليوم يتغنون بها في المحافل الدينية منها:
يا محمد يا جوهرة عقدي = يا هلال التمام
المحبة قد هيجت وجدي = وفناني الغرام
أنت أسكرتني على سكري = من لذيذ الشراب
ثم خاطبتني كما تدري = ففهمت الخطاب
ثم شاهدت وجهك البذري = عند رفع الحجاب
ولم يلبث المغاربة بعد انتشار فن التوشيح أن ابتكروا فنا قريبا منه تحدث عنه إبن خلدون حين قال (ثم استحدث أهل الأمصار بالمغرب فنا آخر من الشعر في اعاريض مزدوجة كالموشح نظموا فيه بلغتهم الحضرية وسموه عروض البلد وكان أول من استحدثه فيهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف بابن عمير فنظم قطعة على طريقة الموشح لم يخرج فيها عن مذاهب الاعراب إلا قليلا فاستحسنه أهل فاس وولعوا به ونظموا على طريقته وتركوا الاعراب الذي ليس من شأنهم، وكثر سماعه بينهم واستفحل فيه كثير منهم ونوعوه أصنافا إلى المزدوج والكازي والملعبة، والغزل واختلفت أسماؤها باختلاف ازدواجها وملاحظاتهم فيها).
وربما كانت قطعة ابن عمير المشار إليها هي التي يقول في مطلعها:
أبكاني بشاطئ النهر نوح الحمام
على الغصن في البستان قريب الصباح
وكف السحر يمحو مداد الظلام
وماء الندى يجري بثغر الاقاح
وقد يكون ميمون بن خبازة وحسن بن عمر السبتي من الذين برعوا في هذا الفن الذي يغلب على الظن أنه كان وسطا بين الزجل والتواشيح، فقد عرف الأول أنه (كان متفننا في أساليب الكلام معربة وهزله على اختلاف اللغات) وعرف عن الثاني أنه كان يجول في الأسواق وينشد الأغاني والألحان، كذلك من الذين نبغوا في هذا الفن الكفيف الزرهوني الذي وصف هزيمة أبي الحسن المريني في القيروان بقطعة يقول في أولها:
سبحان مالك خواطر الأمر
ونواصيها في كل حين وزمان
ان طعناه عطفهم لنا قسرا
وأن عصيناه عاقب بكل هوان
كن مرعي قل لا تكن راعي
فالراعي عن رعيته مسئول
ولا شك أن هذا الفن الذي تحدث عنه ابن خلدون قد تطور في العصر المريني إلى نوع من الأدب الشعبي شديد القرب من الزجل يعرف حتى اليوم (بالملحون) ويظهر أنه تطور على يد البربر وكان قد تم تعريبهم في هذا العهد.
وقد اعتنى به المغاربة فنظم فيه الأدباء والملوك والأمراء وبرع كثير من الشعراء أهمهم التهامي المضغري الذي كان معاصرا للسلطان عبد الرحمن العلوي والذي كان ولا يزال يعتبر شيخ الملحون في المغرب.
ومن أهم قصائده في هذا الفن (النحلة) التي يقول فيها:
أوحى لك الله في كتاب ولهمك لقطيف الأنوار
وروى أن السلطان أشتاق إلى أبنائه وكان قد بعثهم في عائلته لزيارة أقاربهم وقبور أجدادهم بتافيلالت فقال:
ما أعظم ذاك اليوم فشصد ناسي وامشو
فأجازه المضغري:
تركني نواح فرسيم ضميري كاوي



(1) الذخيرة قسم 1 ج 2 ص 2 وربما كما كان المركز هو القفل، توفي الرمادي سنة 403 هـ.
(2) توفي في آخر عصر بني مروان سنة 419 وقبل سنة 421 أو سنة 422هـ.
(3)ج 1 ص 246 من فوات الوفيات.
(4) من حصن بلور في البيريا.
(5)ج 2ص 18.
(6) المتوفى سنة 520 هـ.
(7) تاريخ الفكر الأندلسي ص 76+ 166.
(8) فن التواشيح ص 150.
(9) دار الطراز ص 24.
(10) (دراسات في الشعر في العصر الأيوبي) للدكتور محمد كامل حسين ص 129.

دعوة الحق
45 العدد






تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى