رسائل الأدباء رسالة من نجيب سرور الى محمد دكروب

* إلى محمد دكروب: إنني مرهق ومأزوم من شتّى النواحي
عزيزي الأستاذ محمد إبراهيم دكروب
تحياتي الطيبات إليك وإلى سائر أعضاء هيئة تحرير «الأخبار»
وبعد
أشكرك أولاً لاهتمامك بما أرسله لك، كما أشكر الأخبار لسعة صدرها، كما أحتج- ولا أعتب- على عدم ردك على خطاباتي المتلاحقة، وعلى عدم إرسالك نسخة من ديوان «التراجيديا الإنسانية» إليّ كما طالبتك منذ مدة.
وبعد مرة ثانية:
لأول مرة سأوجز لك بعض- لا كل- الظروف التي حاصرتني هنا في موسكو منذ الأيام الأولى لوصولي إليها من القاهرة. أنت تعلم الخطوط العريضة بلا شك، تعلم بإتلاف جواز سفري، وفصلي من البعثة، ولكن لعلّك لم تعلم حتى الآن بتجريدي من الجنسية، وبأنّ لي ابناً من زوجة روسية أسميته شهدي تيمنّاً باسم شهيدنا شهدي عطية الشافعي.. وإنني لا أستطيع أن أسجله أو أسجل زواجي في السفارة إلى آخر هذه المتاعب التافهة. أجل التافهة!
فليس هذا – بالنسبة إليّ- الأكثر ألماً في قصتي. قصة ثلاث سنوات ونيف عشتها في موسكو!
إنّ المتاعب الحقيقية لم تكن مع السفارة ولا مع المكتب الثقافي ولا مع إدارة البعثات، ولا مع وزارة التربية والتعليم، ولا مع أعوان السفارة والمكتب الثقافي من الطلاب المصريين المباحثيين المحترفين أو الهواة! ولا مع رابطة طلاب الجمهورية العربية المتحدة التي كانت – وما زالت - تسيطر عليها العناصر الرجعية، كما تعلم ولا مع الرجعيين من الطلاب المصريين خاصة والعرب عامة!
إنما كانت المتاعب..مع من؟
هل تستطيع أن تخمّن؟ سأقول لك!
علماً بأنني أتكلم عما قبل اضطراري إلى اللجوء السياسي، قبل اضطراري إلى الكشف عن نفسي، كانت المتاعب مع العناصر التقدمية من سوريين وعراقيين ولبنانيين وأردنيين وجزائريين ويمنيين...
أيدهشك هذا؟
لا، فأنا أعتقد أنك على علم ببعض ما أقول لك. لقد كانت جريمتي في نظر التقدميين العرب جميعاً، أنني مصري، وكانت هناك معادلة ظالمة تتجاهل تاريخ شعبنا المصري، وكفاح شعبنا المصري، وشهداء شعبنا المصري:
معادلة تقول:
مصري= إنسان يوثق به
أو مصري= مباحث
ودمغني التقدميون جميعاً بالمباحثيين منذ الأسابيع الأولى لوصولي إلى موسكو.. ولم تشفع لي قصائدي ولا مقالاتي التي قرأها بعضهم. ولم يستطع أحد أن يصدّق أنّ إنساناً شريفاً يستطيع أن يخرج من مصر، من قبضة عبد الناصر.. أثناء أحداث 1959، أي في عزّ الأزمة، في عزّ الاعتقالات السياسية الواسعة.
فكيف خرجت أنا؟
ما دمت لست في السجن.. ولست شهيداً ولست قابعاً في مصر أنتظر انقشاع الغمة! إذن فأنا مباحثي، ومباحثي عريق، ومبعوث خصيصاً – من قِبل مباحث الناصرية - للتجسّس على الطلبة المصريين والعرب. وكان عدم الثقة والنبذ والاحتقار والتوجس والشائعات وتشويه سمعتي في كل مكان وإغلاق الأبواب كل الأبواب في وجهي.
وكنت أنا الديمقراطي الوحيد من بين الطلاب المصريين البالغ عددهم 350، كأنّ كثيراً على شعبنا، وعلى تاريخه، على نضاله الطويل المرير، على شهدائه أن يكون الشرفاء فيه بنسبة 1 إلى 350.
هل أطلتُ عليك؟
ثلاث سنوات، وأكثر وأنا أمدّ يدي، فترفض، أن أطلب العون والمساعدة والتوجيه فأصفع، وأسمع أثناء ذلك ما يُقال عني في الأوساط الطلابية، وتحز في نفسي السكاكين عندما أسمع أن أحد الرفاق والمسؤولين يندفع أيضاً في نفس التيار وبلا أسانيد وبلا وثائق وبلا أيّ دليل، مؤكداً- بقصد أو بدون قصد- ما يذيعه عني الآخرون.
هل أطلت؟ دعني أخرج لك ما بصدري، ومرت الأيام، وبما أني الديمقراطي الوحيد بين الطلاب المصريين، فقد تشكّلت نواة صغيرة من عناصر وطنية كانت تحتاج إلى توجيه ومساعدة وخبرة لا أملكها، فأنا أكتب الشعر والنقد وأستطيع أن أفعل شيئاً وأقدم شيئاً في هذين المجالين، ولكن لا خبرة لي بالأعمال الأخرى، أتفهمني؟!
ثم حين أعود مرة ثانية فأطلب المعونة، والتوجيه والنصيحة فتُردّ يدي خاوية. وأطرق الأبواب، فأُصفع، وأشيع بالاحتقار، ويستمرّ سيل الاتهامات الظالمة!
وبدأت أعتمد على نفسي، على خبرتي الهزيلة في مجال لست من أهله، ولم أفكّر أبداً في أن أقوم فيه بتحمّل مسؤولية. أتفهمني؟! وأتت تلك الخبرة الهزيلة التي كنت أستفيدها من أخطاء كل يوم. أتت بعض الثمار. ثمار قليلة لكنّها غالية!
وإذا بالتقدميين العرب يحاولون أن ينشروا عدم الثقة بيني وبين الزملاء، النواة بأن يحذّروهم مني، ويؤكدوا لهم أنني جاسوس...مباحثي، عميل للسفارة والمكتب الثقافي إلخ.
انتظر... أنا أفهم ما ستقوله؟!
فلست أشكو إليك التقدميين. إنهم رفاقي وأنا أفهم جيداً أن حذرهم مبرّر. وأفهم أن حذرهم هذا قد أملاه إخلاصهم لنفس القضية التي أخلص لها. وأفهم أنه لا محلّ في هذه الأمور لأية ثقة بلا دليل أكيد ودامغ إلخ. ولكني لا أفهم أن يتحول الحذر، وأن يتحول الحرص - بحسن نية - إلى تخريب حتى لتلك النواة الصغيرة الغالية، بتحذير زملائي مني، وحثّهم على التوجس مني خيفة، لأنني، ولأنني ولأنني...
وأمام هذا الخطر، خطر فقدان حتى تلك النواة الصغيرة الغالية، وأمام انغلاق جميع أبواب التعاون والتفاهم مع التقدميين العرب، وأمام سيل الاتهامات غير المسؤولة وغير الحقيقية، اضطررت في حفل الاحتجاج على العدوان على كوبا إلى أن أهاجم - علناً - سياسة عبد الناصر الداخلية والخارجية. أي إلى كشف نفسي، هذا الذي نادى إلى الالتجاء السياسي، وأنت تعرف البقية.
ولكن، كان من الأفضل – لولا ضغط الظروف، أن أظل مستتراً، إن كشفي وكشف زميل لي قد أدى بنا إلى خسارة فادحة ما كان أغنانا عنها... لولا ما سبق أن شرحته لك.
هذه الأزمة أرهقتنى عصبياً بما يفوق الوصف، بل مزّقتني أكثر من ثلاث سنوات. وها أنا – من نتائجها - أعيش في موسكو بقلب مريض، صدقني بقلب مريض، وأحسب أن الأطباء لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً، لأنهم لم يفعلوا حتى الآن شيئاً.. ولكن ترى هل انتهت المسألة إلى هذا الحد؟
لا، ما زالت هناك بقية من إرهاق الأعصاب. فلقد فُسر كشفي عن نفسي - هذا الذي تم تحت ضغط عدم الثقة الذي كان يصفعني أينما توجهت، وتحت ضغط الاتهامات غير المسؤولة - فُسِّر هذا على أنه تهور!
وطبعاً لم يكن من الممكن التعاون مع مباحثي. كما لا يمكن التعاون مع متهوّر. وهكذا لم ينته حتى الآن. الإرهاق العصبي الذي تتعرض له أعصابي منذ أكثر من ثلاث سنوات.
أكتب إليك لأقول بعد هذا كلّه أنك كنت تنظر إليّ نفس النظرة، وهذا هو السبب في أنك لم تشأ يوماً أن تردّ على رسائلي، ولم تحاول أن تطبع الديوان، ولم تعد النسخة إليّ. إنني مرهق ومأزوم من شتى النواحي، وكفاني اختناقاً أكثر من ثلاث سنوات. ولذلك سأواصل الكتابة إلى الأخبار، حتى لا أنتحر من طول الصمت والغليان، فأرجو أن تفتح لي صدرك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى