أحمد القطيب - تحليل مقطع شعري من قصيدة (خرير الضوء) للشاعرة الإماراتية أسماء صقر القاسمي.

(النص):
ذات مساء
تراقصت على جفني أهداب القلق
عاقرت أحرفي نبيذ صمت
فطارت من عيني عصافير الكلام
وحلّق المعنى الممتلئ بي
نحو سماوات لا تعرفني
لا تشبهني.

''أسماء صقر القاسمي''
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-توطئة:
ـــــــــــــ
يروق لي في هذا المقطع الشعري طابعه السردي البسيط وامتلاكه حبكة بلورت ثلاث لحظات ؛ أولها وضعية بدئية حددها بُعد الزمان (ذات مساء) بإيحاءات المساء النفسية(التوحد والانعزال) عبر مقوم الصورة البصرية (لون المساء)،ومقوم البعد الفيزيائي الرياضي(النهاية) ؛وبَعدها لحظة وسيطة تشكلت فيها عقدة الأسرودة(تراقصت على جفني أهداب القلق) ويأتي معطى الزمان بإيحاءات معززة للمعنى النفسي المتلون بالحزن والقلق ؛ ثم اللحظة النهائية بعد تحولات بلورتها أفعال الحركة/فطارت...//وحلق.../
والفعل الأول /طارت/إمعان في التأزيم أو بداية الانفراج حسب التأويل .أما الفعل الثاني/حلّق/ فخاتمة التحولات وإيذان بـ (ولادة المعنى/النص).
إن هذا المقطع الشعري المكتنز بالصور الشعرية الأخاذة،انتزع شهادة الاعتراف الشعري لأنه صورة شعرية موسعة عضويا من أول كلمة إلى آخر كلمة.وهو أسرودة تحكي عن أنا ملتهبة إشكالية ،وهي فاعلة التحويل ومسرح التحولات في آن واحد .فهي ذات الرغبة (الشاعرة)الحالمة بموضوعها وهو (الشعر ) ..المتحفزة بأثر المرسِل (القلق الابداعي) ،والمرسِل هنا يؤدي دورين فاعليين ؛بما أنه أيضا معيق لذات الرغبةيؤجل امتلاكها لموضوعها. أما المعينات فهي (الأحرف المنتشية بسكر الأخيلة أو التي عاقرت نبيذ الصمت) ذاك الصمت الظرفي الذي ينتهي بصخب الكلمات، التي تفرج عنها الرؤى العميقة .
*فطارت من عيني عصافير الكلام*
(فالعين هنا واجهة عرض للعمقي لا الخارجي ؛فهي للرؤيا والبصيرة الشعرية لا للرؤية والبصر المحض) ...فتنتشر عصافير الكلام -عبر القراءات -إلى كينونات أخرى وذوات أخرى تسم النص- الممتلئ برؤى الشاعرة في الأصل - برؤى جديدة عبر إسقاطات التلقي ،فتكون للنص سماوات أخرى وحيَوات أخرى ،لا تشبه النبرة الأولى،لأن النص يخرج من مخاض عسير عبرت عنه الشاعرة بنجاح، لكنه حين يولد ينقطع عن رحمه وأبيه الرمزي أوأمه الرمزية، / المبدع/ ويصير ملكا للآخرين ،معنى ودلالة وتأويلا وحق ّامتلاكٍ .
*وحلّق المعنى الممتلئ بي
نحو سماوات لا تعرفني
لا تشبهني*
هكذا تضرب الشاعرة ثلاثة عصافير بحجر واحد.
**فالنص(أي الأسطر المنتخبة) قصيدة بهية بصورها الاستعارية التي تربو على الثمانية أو أكثر
**والنص سردية قصيرة تبني حكاية قوة فاعلة في زمان محدد مع تجربة الإبداع بحوافزها ومخاضها ونتائجها.
**والنص من ثمّ ميتانص يفكر بالشعر في عملية إنتاج الشعر.فهو ولادة تصف نفسها ومخاضها ووليدها.
فما هو الوليد الحقيق بالتسمية قصيدة؟؟
أهو المعنى الذي تمتلئ به الشاعرة أم المعنى الذي يمتلئ بالشاعرة؟؟ وأحسبك تدرك الغاية من هذه اللفتة الذكية للمبدعة.
واسأل الأسطر الشعرية تجبْك:
*فطارت من عيني عصافير الكلام
وحلّق المعنى الممتلئ بي
نحو سماوات لا تعرفني
لا تشبهني*
بمعنى آخر هل المعاني موضوعية تحملها الشاعرة كرسالة والتزام ؟أم هي معان ذاتية ؟هل رسالة الشعر فكر وواقع يوجدان قبل النص ويستخدمان النص؟؟أم تعبيرية ذاتية تسبر تضاريس المبدعة ؟؟
لعل الشاعرة اختارت أن يمتلئ بها المعنى ،لا العكس، وحين تصدر القصيدة عن وجدان أو شعور أو رؤيا نحو الكون والانسان،نقول هذه رؤى ذاتية لاموضوعات شعرية تفرض من فوق.
إن التزام القصيدة التزام تجاه الذات المبدعة ،وهو شق المعنى -إن صح التعبير-أما الشكل الفني فأجابت عنه القصيدة تطبيقيا لا نظريا ؛عبر هذا النص الممتع ،الذي كفر بنقاء الأجناس فداخل بين الشعري والنقدي والسردي، باعتبار النص الشعري الحداثي نصا مفتوحا يستبطن كافة الأنواع الأدبية.

-الوحدة العضوية:
ــــــــــــــــــــــــــــ

إن أهم ميزة وسمت هذه الأسطر الشعرية ،انتظامها في وحدة عضوية ،وتضامّ ناجحين،ليس بين الأسطر الشعرية فقط ؛وفق علاقة السابق باللاحق،بل بين البنى التركيبية من زاوية الخيارات النحوية وبين الصورة الشعرية ،لأن علاقات التجاور وانتقاءاتها هي المسؤولة عن توليد التخييل والانزياح الدلالي(جدلية الشكل والمضمون)،كما تتجلى الوحدة العضوية في التداخل البنائي بين السردي والشعري،فهذا من ذاك ..وذاك من هذا ،فحيث ينبلج الشعر، تبدأ الحكاية، وحيث ينتهي، تنتهي، بتواز وتمرْءٍ مزدوج.
ثم إن عناصر البنية السردية تحكمها وحدة وتضام من خلال عنصرين موحِّدين أيضا هما عنصرا الزمان والمكان،فالحالات والوضعيات والوقائع كلها تمت في وشاح زمن المساء وتمت إلى حدود السطر الخامس في مكان ثابت هو (ذات الشاعرة)كمسرح للفعل والانفعال كما يدل الحقل الدلالي التالي:/جفني**أهداب**أحرفي**عيني**ممتلئ بي**ياء المتكلم –لاتعرفني-لاتشبهني-/
ويمكن أن أسمي المكان هنا(مكان الصدور)أي المكان الذي تصدر منه الأفعال السردية(/تراقصت/عاقرت/طارت/حلقت/) ويفسر الحالات المصاحبة لها.
وفي السطر السادس تعلن الأسرودة الشعرية عن فضاء آخر أسميه (مكان الورود) وفيه وعد بمشهد آخر وأزمنة افتراضية أخرى ،فإن كان الممثل في المشهد السابق هو الشاعرة رغم تبعيض جزئياتها الفاعلة كالعين والأحرف والكلام ،فإن الممثل هنا جمْعٌ/مفردٌ؛أي قوى فاعلة جماعية تمارس الدور نفسه فالدور والفعل الواحد هو القراءة أو التقاط المعنى المحلق -كما يقول النص-وممثلوا الدور كثر لهذا قالت الشاعرة سماوات ولم تقل سماء،لأن سماوات تغري بدلالات شتى كالتعدد في العوالم و الذوات وما ترتهن إليه من أمكنة، وأزمنة ،وحوافز ،وذواكر، ومشاعر، تؤثر في قراءة الشعر الذي ينفر كلمات ويقرّ معانيَ شتى بحسب مِظلة كل فاعل قارئ و سمائه ؛فللقارئ سماؤه ،وللمبدعة سماؤها، وقد تكون هذه سماء صافية، وتكون الأخرى داكنة،وقد تَقرأ هذه قطرات الماء دموعا على صفحة الأرض، وقد تقرؤها تلك حبات لؤلؤ عطاءً من السماء للأرض.
والشاعرة نفسها مدعوة إلى نصها كأي قارئ،تسهم في إنتاجية المعنى ،بالقدر نفسه وبالحقوق ذاتها،تقاسم فيها بقية القراء،ولا يقول أحد بأن المبدع يمتلك الحقيقة المطلقة ،فكلنا يعرف مراوغات اللاوعي ،وثقوب الذاكرة التي يجللها النسيان والتناسي العمد.

-الصورة الشعرية:
ــــــــــــــــــــــــــ

*ذات مساء..*
*تراقصت على جفني أهداب القلق*
إذا تأملنا السطر الشعري الأول ، نجده لم يستخدم أية حلية بلاغية بيانية تشبيها أو مجازا ..لكن لم يمنع هذا نجاح الصورةالشعرية من سبيلين؛أحدهما الصورة البصرية؛ وثانيهما صورة مفهومية نفسية، إذا جردنا المساء من إحالته المعجمية وأطلقنا معانيه من قوس التداعي والإيحاء .فالصورة الشعرية لا تحيا بتخييل المجاز والاستعارة فحسب ،بل تحيا باللون والحركة والحدث والإيحاء الرمزي أيضا.
فماذا لو قالت الشاعرة (ذات صباح)؟؟هنا بلا شك تصير الصورة البصريةالمتخيَّلة مختلفة؛ لأن الصباح تلوّنٌ وهاج، وضاء .والمساء خفوت للضوء ،واكتساح للعتمة..
فلماذا قالت الشاعرة (ذات مساء)؟ألكونه زمنَ مصادفة؟أم اختياراً نابعا من إحساس؟أم لكونه زمن الإبداع المفضل؟
أراني أفضل المعنى الثاني والثالث وبينهما تلازم، أليس الصباح بداية ..وولادة.. وأملا..وانكشافا ..ووضوحا ..وأمْنا...الخ
أليس المساء نهاية.. وخفوتا ..وخمودا.. وغموضا.. وخوفا...الخ
هنا ندخل خطوط الرمزية، فالشاعرة اختارت عنصر الزمن الذي يستجيب للحالة المشاعرية وأطلقته –ولم تخلصه من دلالته المعجمية - واستثمرت أبعاده النفسية والشعورية التي يلتقطها القارئ،الذي يملك الخطاطة الذهنيةأوالنفسانية نفسها حول المساء ،عبر الذاكرة الطفولية الجمعية ،وماترسخ فيها من حكايا تجعل الإمساء والليل رديفي المغامرة والمخاطرة، فاختيار الليل وعد بالخطر واختيار الصباح وعد بالحظ والفأل،وهاهم شعراء العربية الأوائل ركبوا على الليل مشاعر الحزن والهمّ ،فليل (امرئِ القيس) أرخى بثقله على صدره وناء بكلكله، وتمنى الشاعر لو ينجلي عنه بإصباح؛لأن الصبح يشغل الحواس ويغري الشاعر بالاستغراق في الأشياء والتفاصيل، ومنظورات الحياة. لكن الليل-على العكس- يلف الأشياء بالسواد فترتد الحواس إلى غير المحسوس،إلى الفكر والنفس؛ فتتفجر المعاناة والتذكروالهموم، لذا التمس (النابغة الذبياني) من أميمة أن تتركه يواجه هم الليل:
كليني لهم ياأميمة ناصـــــــب***وليل أقاسيه بطيء الكواكــــــب
تطاول حتى قلت ليس بمنقض***وليس الذي يرعى النجوم بآيبِ
فإن كانت أسماءالقاسمي قد قالت (مساء)، ولم تقل( ليل)،فالليل حالة من حالات المساء مادام يولد من رحمه ،فالمساء ليل بالقوة، إن كان الليل ليلا بالفعل؟؟
هكذا إذن تُخلِف الشاعرة التوقع ،فلم تركز من دلالات المساء ،على ما يدل على مدلوله الطبيعي/الاجتماعي،كوعد بانتهاء وسكون وخمود للأحياء،بل بنت على المعاني الرمزية التي تغرف من الإحساس بالكلمة لا من معنى الكلمة الوضعي فحسب؛فإذا بالمساء يتحول إلى زمن يقظة .. وإذا بالخمود يتحول إلى تدفق مشاعري وقلق نفسي وجودي،ومخاض ينتهي بميلاد القصيدة،لأن حرقة الإبداع ليليةحين تنسكن الذات وتتوحد مع رهبنة المبدع وعزلته.صحيح أن المبدع يخالط الناس والحياة لكنه آنذاك يختزن ليسترجع ، ويحيا مع الناس ليبدع متوحدا مع ذاته وشمعته،وقد دلت مرويات كثيرةعلى أن للشعراء مذاهب شتى في إبداع الشعر،فمنهم من يخرج إلى الشعاب منفردا،ومنهم من يتشح بسكون الليل،والمعنى هنا أن الخلوة لازمة من لوازم الإبداع.
*تراقصت على جفني أهداب القلق*
في هذا السطر الشعري اكتظاظ صور،حيث نجد أن التجاور بين الكلمات مسؤول عن مسافة التوتر جيئة وذهابا،فنسبة الرقص إلى الأهداب إنزياح دلالي(استعارة)، ومثله نسبة القلق إلى الأهداب (استعارة تشخيصية)لأن الأهداب حسية،و(القلق)معنى مجرد، ونعثر على انزياح آخر في جعل الجفون مسرحا لهذا الرقص .
فهي ثلاث استعارات بني بعضها على بعض،واقتسمت الجملة ، حتى لم يبق منها سوى الحرف (على)، وهو بذاته قرينة لفظية تدل على التعبير المجازي،وهذا ما عنيناه-في مقال سابق- بالوحدة العضوية بين الشكل والمضمون،بحيث تغدو الجملة النحوية هي الصورة الشعرية كوجهي عملة واحدة ،ولا تجد صورة شعرية تشتغل فضلة ،أو تزيينا أوتوكيدا لمعنى سابق ٍعليها، عارٍ من التخييل .بل تجد جدلية بين المبنى والمعنى التخييلي، إذ يولدان معا جسدا واحدا.
فماذا تعني الشاعرة في (صورة/صور) السطر الثاني الشعرية ؟
حين نسأل ماذاتعني المبدعة؟؟نقتل المعنى والصورة معا ،والأوْلى أن نقول كيف قالت الشاعرة؟، لأن الشعر يتحدد بكيفية القول لا بمعناه؛ فالمعاني مبسوطة في الطريق- كما قال الجاحظ- وإنما المزية في التعبير الشعري، الذي يبني لغة غير عادية من خلال لغة عادية،ولعل أجمل ما في الصورة – في رأيي - أن الشاعرة عبرت عن معنى القلق بمؤشراته السيميولوجية التي تدخل في تعابير الوجه لدى البشرية بالحركة الموتورة المتكررة لإسدال الأهداب وتحريك الجفون ،فقدمت المعنى ودليله الحسي الحركي ،ثم كثفت التعابير المجازية لكي لا ننظر إلى ماوراء الزجاج (المضمون)لأن الزجاج (شكل التعبير)ونافذة العرض تبهر بتلاوينها ورسومها وتنسيك المعنى الذي وراءها،ولئن كان محتوى ودلالة الصورة معنى بسيطا،فإن شكل التعبير عنه لم يكن بسيطا ،و حقق الوظيفة (البويطيقية) بتعبير (ياكبسون) وتحاشى أن يكون مجرد إخبار بحالة.
*عاقرت أحرفي نبيذ صمت*
في هذا السطر الشعري استعارات مكتظة وعددها ثلاث؛ ففي (عاقرت)استعارة ، وفي (نبيذ ) استعارة اعتبارا لقرينة /أحرفي/ وفي نسبة (الصمت) إلى النبيذ استعارة ثالثة.
وهكذا تتساوى الحسبة ففي السطر الثاني ثلاث استعارات ومثلها أحصيناه في السطر الثالث.وهكذا تصير الصورة الشعرية شريانا حيا من عطاءات التأويل ،بحسب زاوية الضوء المسلط عليها،فالاستعارات تتفاعل فيما بينها وفق تجاورها، وماينظمها من علاقات تركيبة ودلالية،وهنا الهدم البنّاء.
فالفعل عاقر يقتضي فاعلا منفذا حيا له جارحة للمعاقرة كالكف والأنامل ،وفم للتنفيذ...لكن هذه القيم الذرية تتهدم لأن الفاعل هنا (الأحرف) لاتتجسد فيه الشروط الدلالية تلك.
والمعاقرة تقتضي في نطاق المفعولية متقبلا سائلا قابلا للشرب كالنبيذ، لكنه بالتوصيف هنا، افتقد هذه السمات لأنه( نبيذ صمت ).
وهكذا يتألق الانزياح الدلالي ويشرع أجنحة التخييل والإيحاء...
الأحرف إذن عاقرت نبيذ الصمت؟؟أليس سياق الشرب والنبيذ سكْرا؟؟لكنه ليس سكْرَ العربدة،،بل سكرا ارستقراطيا،نَخبه المعاني،وكؤوسه الأحرف الحاملة،التي ترتبك فيها العلاقات الوضعية،-أليس السّكْر ارتباكا للكلمات بعد الحركات؟لكنه ارتباك مقصود بنّاء ؛ارتباك يجند المجاز والتشبيه والرموز ليجدد العلاقات اللغوية ويكشف الشمس الثاوية في ظلمات الإنزياح،فاللغة لاتسكر إلا حين تبدع،ولاتنتشي إلا حين تخرق المألوف،ولا تصحو إلا حين تعود إلى التعبير المعتاد وهنا يموت الشعر وتحيا الدرجة الصفر في الكتابة،بتعبير رولان بارت ومن ذا الذي يرضى بالدرجة الصفر،وبسقوط العلامات الثمينة؟؟
*فطارت من عيني عصافير الكلام
وحلق المعنى الممتلئ بي*
في رأيي قد تم تسبيق (طار) لأنه سابق فعلا وتصورا على التحليق،فنقول :طار الطائر ثم حلق،لأن الطيران هو أن يَخفق الجناحان ويرتفع بهما الطائر،والتحليق أن يحوم الطائر كالحلقة حين يصير إلى ارتفاع عال يسمح له بذلك.
ولعلك أحصيت معي الصور الصغرى في هذين السطرين أيضا؛ففي (طارت) استعارة ،وفي /من(عيني)/ استعارة وفي( الكلام) استعارة اعتبارا للنسبة(عصافير الكلام)
فهي ثلاث استعارات أيضا؟؟كما نجد في السطر الموالي ثلاثا أيضا؛ ففي (حلق) استعارة وفي (الممتلئ) استعارة ؛لأن كلمة (المعنى) كمفهوم مجرد قد عوملت معاملة المحسوس بالصفة (ممتلئ)وفي ياء المتكلمة في (بي) استعارة (يعود الضمير على الشاعرة)، لأن الشاعرة خلاف التحليل المعجمي الذري لسماتها (+إنسان+عاقل+ناطق+أنثى...الخ)-صارت (مَلْءَالمعنى)أي قابلة لأن يُمْلاَ بها ،وصارالمعنى وعاء مَلئِها.
*وحلق المعنى الممتلئ بي*
فلِمَ ذكرت العين هنا منطلقا لصدور عصافير الكلام/...............(من عيني)؟؟
قلنا سلفا إن العين واجهة تماس بين الداخلي (المشاعر والأفكار والخيالات) والخارجي(المثيرات من المنظورات والمرئيات والتجارب الواقعية) ،وبينهما صلة وصل سببية،وتبادل تأثير وتأثر ،فالواقع يبني من جهة تمثلات الوعي به ؛خواطرَ ومشاعرَ وأفكاراً ،كما أن الرؤى والحدوس والانفعالات تؤثر على وعينا بالواقع والعالم من جهة أخرى،ويلفتنا هاهنا الربط الجدلي بين الكلام /والمعنى، والشكل /والمضمون.(كلمات=معنى)
فالكلام الشعري ليس شكلانية مفرطة فحسب ،وليس مضمونا موضوعيا و تسجيليا فحسب ؛بل هو مضمون ذاتي ممتلئ ببصمات المبدع ،ويتجسد في شكله الملائم،ليتوفر للشعر عنوانا نجاحٍ: هما القيمة الفنية ،والتعبيرية الذاتية.
وحين تصدر الكلمات عن (عين)و رؤى الشاعرة لا عن فمها،وتصير عيونا للشعر،يحلق المعنى ويخلق دوائره اللامتناهية؛كالحلقات المستديرة التي يرسمها الحجر المُلقى في بركة الماء الراكد،فيصير ماء مترجرجا متحركا،فحين تموت دائرة تتلوها أخرى في مَرسم متلاحق حيّ،لايحدّه انغلاق، أليس انغلاق المعنى ووحدتُه موتا للنص /الشعر؟؟
هكذا تبدع الشاعرة "أسماء "الشعر بالتطبيق والتنظير ،فالمعنى الشعري ذاتي المصدر،عمومي المراجع والأصداء،يعبر عن نبض شاعر في صدوره،ويعبر عن ملايين النبضات في وروده،حين يصير إلى دائرة القراء والمتلقين؛لهذا قلنا سلفا:إن السماوات هي عوالم أخرى غير عالم الشاعرة،ومشاعر أخرى غير مشاعر الشاعرة،ومعان أخرى غير المعنى الذي غرسته الشاعرة،إنها عوالم لاتعرفها ولا تشبهها.إنها معان وقراءات تنازع المبدعة في ملكيتها الإبداعية والفكرية ،وتسرق منها النص والمعنى برضاها .
*وحلق المعنى الممتلئ بي
نحو سماوات لاتعرفني
لاتشبهني*
(ذ: القطيب أحمد)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى