المستشار بهاء المري - مرافعة السيدة فاطمة الزهراء ضد أبى بكر الصديق في قضية فَـدَك(*)

- ملخص القضية:

عندما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خَيبر، كان يقع إلى جوارها قرية تسمى (فـدك) اشتُهرت بزراعة القمح والتمور، وكان يسكنها طائفة من اليهود، صالَحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف منها، وقيل إنه صالحهم عليها كلها على أن يحقن دماءهم، ففعل..
وكانت الأراضي التي يسيطر عليها المسلمون بلا قتال، تكون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم والإمام من بعده، يتصرف فيها كما يشاء، وعلى هذا الأساس وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم (فدك) لابنته فاطمة في أيام حياته.
ولما تولى أبا بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة، انتزع فدك من فاطمة، محتجا بقول النبي صلى الله عليه وسلم "نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة" وصارت من موارد الدولة.
فلمَّا علمت فاطمة ما أجمع عليه أبو بكر من حِـرمانها من "فـدك"، أقبلت في مجموعة من حفدتها ونساء قومها، ودخلت عليه وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.


- افتتاحية المرافعة:

افتتحت الزهراء رضى الله عنها مرافعتها بحمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم قالت تبين موقعها من الدعوى وتمهد لها:
"لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" فإن تعرفوه تجدوه أبى دون آباءكم، وأخا بن عمى دون رجالكم، هذا كتاب الله بين أظهركم، وزواجره بيِّنة، ونواهيه وشواهده لائحة، وأوامره واضحة، أرَغّبة عنه تدبرون، أم بغيره تحكمون، بئس الظالمين بدلا، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين.

- صُلب المرافعة:

دلفت الزهراء رضي الله عنها إلى صلب مرافعتها تقول:
لِمَ تُبطئوا عن منع الإرث عنا، ألم تتم لكم الخلافة، والآن تزعمون ألا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون يا معشر المهاجرين، أأبتز إرث أبى يا أبا بكر، أفي الكتاب أن ترث أباك ولا ارث أبى، لقد جئت شيئا فريَّا، ولكل نبأ مُستقر وسوف تعلمون.
وبعد أن عرضت الواقعة بمنهج التجسيد، راحت تعرض بمنتهى البلاغة أدلة الثبوت:
أفَعَـلَى محمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم، ألم يقل تبارك وتعالى: "وورث سليمان داود"؟ وقال فيما قصَّ من خبر يَحيى بن زكريا: "رب هَب لي من لدنك وليًا، يرثني ويرث من آل يعقوب"؟ وقال جل شأنه: "وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض، في كتاب الله"؟ وقال: "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين"؟ وقال: "إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، حقًا على المتقين"؟ وزعمتم أن لا حق لي، ولا إرث لي من أبى، ولا رحم بيننا، أفخصَّكم الله بآيةٍ أخرج نبيه صلى الله عليه وسلم منها؟ أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثان، أولستُ أنا وأبى أهل ملة واحدة؟ أو لعلكم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبى وابن عمى، أأُغلب على إرثي جورًا وظُلمًا؟ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.التال


تلك كانت أدلتها، أما خاتمة المرافعة فكانت كي:

ما هذه الغُميزة في حقي وفى السُّنة؟ "أي ما هذا الضعف في العقل والعمل" أما كان لرسول الله أن يُحفظ في ولده، سرعان ما أجدبتم فمنعتم؟.


- تفنيدالأدلة:

قال الصديق رضي الله عنه يفند أدلة الإثبات في رفق:
يا ابنة رسول الله: لقد كان أبوك بالمؤمنين رؤوفا رحيما، وأمَّا مَنْعك ما سألتِ؛ فلا ذلك لي، وأما فدك، وما جعل لك أبوك، فإن منعتُك فأنا ظالم، وأمَّا الميراث، فقد تعلمين أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا نُورَّث وما تركناه صدقة".


وكان رد الزهراء رضي الله عنها بالحجة فقالت:

إن الله يقول عن نبيِّ من أنبيائه: "يرثني ويرث من آل يعقوب". وقال: "وورث سليمان دواود" فهذان نبيان، وقد علمتُ أن النبوة لا تُورث، وإنما يُورث ما دونها، فمالي اُمنع من إرث أبى؟ أأنزَلَ الله في الكتاب "إلا فاطمة بنت محمد" فأقنع به؟

فقال الصديق:

يا بنت رسول الله، أنتِ عين الحُجة ومنطق الرسالة، لا يُحتج على جوابك، ولا أدفعك عن صوابك، ولكن هذا أبو الحسن بيني وبينك، هوي أخبرني بما طلبتِ، وأنبأني بما أخذتِ وتركتِ.
قالت الزهراء: فإن كان كذلك، فصبرا لِمُرّْ الحق والحمد لله إله الخلق .


- الحكم بعد المداولة:

لما سمع أبو بكر مقالتها والنسوة معها، دَعَا بدواة ليكتب لها، فدخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تكتب لها حتى تقيم البينة بما تدعي؟ فقالت فاطمة عليها السلام: نعم، أُقيم البينة.
قال: من؟
قالت: عليّ وأم أيمن.
فقال عمر: لا تُقبل شهادة امرأة أعجمية لا تُفصح، وأمَّا عليِّ فيجر النار إلى قُرصه؟!
فرجعت فاطمة عليها السلام وقد حزنت حزنا شديدا.

ملاحظات حول المرافعة:

لقد أقرَّت هذه المرافعة عدة مبادئ غاية في الأهمية:
أولا - تقرير مبدأ عدم اتخاذ الحكم وسيلةً لتحقيق المطالب والمآرب الخاصة: فعلى الرغم من عِلم سيدنا على رضى الله عنه أن فدكا ملكَا لزوجته فاطمة، إلا أنه لم يشأ أن يستردها، وذلك لدفع مظنة اتخاذ الحكم وسيلة للمصالح الخاصة.
ثانيا - تقرير مبدأ عمومية القاعدة القانونية: فلا أظن أن فاطمة الزهراء لم تكن حين وقفت تطالب بحقّها في فدك، أنها تهتمّ بالنّاحية الماليّة، فالقضية ليست قضية مال تريد تحصيله، وإنّما هي قضيَّة اعتداءٍ على حكم شرعيّ من أحكام الله، أو قل قاعدة قانونية يجب أن تُعمَّم على الناس جميعا، ولذلك قالت لأبى بكر في مرافعتها: "أترث أباك ولا أرث أبي"؟ فكان نقاشها في القاعدة القانونية، وما كانت تريده هو تثبيت الحكم الشّرعيّ الّذي عمل الحكم والخليفة على تجاوزه، وكانت أوّل خطوةٍ قام بها، هي إبعاد حكمٍ من أحكام الله انقياداً للمصالح الضيِّقة.
ثالثا - تقرير مبدأ عدم المجاملة أو المحاباة: فبرغم أن فاطمة الزهراء هي بنت النبي محمد حبيب أبى بكر وصديقه، ومن فَداه بماله ونفسه، إلا أنه لم يُجاملها، واتخذ ضدها حكما قاسيا، هو استرداد فدك منها، حين كانت رؤيته وجوب ذلك استنادا للحديث الذي رواه عن أبيها صلى الله عليه وسلم.
رابعا - تقرير مبدأ الرجوع إلى الحق لا العناد استنادا للسلطة: سواء أكانت سلطة الحكم أم سلطة القضاء، فكان لأبى بكر في هذه القضية صفتان وهو يستمع إلى مرافعة السيدة فاطمة: صفة الحاكم، وصفة القاضي بشأن هذا النزاع، ولما جاءت بحجتها وأدلتها ومنها شهادة الشهود، عاد إلى صوابه.
خامسا - تقرير مبدأ المساواة بين الذكر والأنثى وحقها في مواجهة المجتمع: فهذه المرافعة من أعظم ما يمكن أن يُحاج به من يرون المرأة عورة، ولا مكان لها سوى المنزل، لقد أقرها زوجها الإمام علىِّ رضي الله عنهم - ومن هو عليَّ - فيما رأت من حقها، فلم يمنعها من أن تذهب إلى مجلس الرجال لتواجه الحاكم بحقها، ولم تذهب إلى منزل أبى بكر لتستجدى هذا الحق، بل اختارت المكان الأنسب وهو المركز الإسلامي وَمجمع المسلمين، وهو مسجد أبيها صلى الله عليه وسلم.
كما أنها اختارت الزمان المناسب أيضاً، ليكون المسجد غاصاً بالناس على اختلاف طبقاتهم من المهاجرين والأنصار، وأما ما كان أعظم من ذلك كله، أن الحاكم نفسه (أبو بكر الصديق) لم يُنكر عليها ذلك، وبادلها الحُجة بالحُجَّة في رفق ولين.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) المرجع كتاب بلاغات النساء، لمؤلفه أحمد أبو الفضل بن طاهر طيفور، وأصل الكتاب استنسخه من المدينة المنورة سنة 1297 هـ الشاعر محمود سامي البارودي، والقصة رواها أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى