كاهنة عباس - عن ماهية الشعر وأسراره .

وينفخ الشاعر في الجمل من روحه ، فإذا بحركية تدخل على عناصرها فتغيرها ، تفصلها عن معانيها المعهودة، إثر تسرب تلك الفوضى الحسية إلى مفاصلها .

ويتواصل رشق الكلمات بإحساس الشاعر ، إلى أن تفقد مواقعها في الجهات فتتشتت معانيها، حتى كأني بالشاعر يصبح مبشرا بعهد جديد ،أثناء تأليفه بين المعنى و"اللامعنى "، لعلمه بتلازمهما وارتباطهما وقدرتهما على إنشاء الإيقاع.

فتأخذه الرغبة ،في التلحين بين نبرات الكلمات والصمت، بين الفاصل والنقطة، بين الصدر والعجز، فإذا بالأبيات الشعرية شبيهة بقصور الرمال التي تنهار حال تشييدها .

وكلما انهار معنى لبيت انبعث معنى جديد، أنشأته موسيقى لم تسمع بعد، تجمع الشاعر بالعالم .

كذلك يقتفي الشاعر أثر المعاني المتصاعدة للهجرة إلى ضفة أخرى ، لتبدأ مغامرته بحثا عما لا يقال ولا يفهم، وقد أخذ على عاتقه مهمة الإفصاح عن المشاعر والوجد لبث الحياة داخلنا ومن حولنا.

إنها هجرة تاريخية ، وجدانية ، تشكيلية ، موسيقية ، تبدأ باستحضار ماضي الكلمات وما طرأ عليها من تحولات وتطورات وتغييرات.

أما عن طبيعتها الوجدانية، فيمكن القول أن ما يحرك الكلمات هو التعبير عن رغبة أو شعور أو حاجة ، أما طبيعتها التشكيلية فالصورة هي من تعبر عنها ، خاصة إذا ما تواصلت مع إيقاع الكلمات، أما الموسيقية فهي التي تدفع بالقصيدة إلى تجاوز حدود المقاصد والدلالات للتحليق وملامسة أبعاد أخرى .

ومع ذلك، فهجرة الشاعر كما وصفناها ،لن تبلغ الكمال مهما فعلت لاستقرارها بالطور البرزخي وامتدادها من الصور الخيالية إلى النبرات الإيقاعية ، ومن المعاني القديمة إلى المعاني المحدثة ، ومن الأحاسيس التي تتشكل إلى تلك المكتملة، مع التعديل في فواصل الصمت داخل القصيدة، إما ارتفاعا أو انخفاضا أو استقرارا،باعتباره المصدر الحقيقي لكل معنى أو إيقاع .

فالشعر يختلف عن بقية الأجناس الأدبية الأخرى لقدرته على كتابة الصمت ، سواء كانت القصيدة كلاسيكية أم حرة، من خلال ذلك الحيز الذي يفصل الصدر عن العجز في بيت القصيدة الكلاسيكية أو بين بيت وبيت في القصيدة الحرة، فأجمل القصائد ليست في الحقيقة سواء سنفونيات تتألف من صور منسجمة مع إيقاع الكلمات ومقاطع الصمت .

أما الهدف من جمالياتها، فهو اكتساب سحر الحياة وسرها، فمن القصائد ما يحي ويميت ، منها ما يفوق الكلام أثناء نظمه ، ومنها ما شيد أماكن لم تطأها قدم .

لذلك، إذا قيل لكم أين تكمن مشاعركم وأوهامكم وأحلامكم ؟ أجيبوا في قلب القصيدة النابض .

وإذا قيل لكم ما معنى القصيدة ؟ أجيبوا : أن معناها هو معنى الحياة، إن كان للحياة معنى .

وإذا قيل لكم أن الشاعر مجنون أجيبوا : أن جنونه هو المؤسس للمعنى .

فالشعر وهج من المشاعر والأحاسيس، ينفخ في قواعد اللغة ، فيغير من أسسها ،عسى أن تعترف بجبروتها فتصبح أكثر حيوية ومرونة، بإدراك أننا لا نتواصل إلا في الظاهر و أن ما نقوله لا يعبر عنا، بل عما ينتظره منا من يشاركنا الحديث .

أما عن حضور الشاعر في العالم ،فهو حضور بلغ حدوده القصوى إلى حد الغياب، بغية امتلاك مفاتيح المجاز وما يخفيه الحلم والخيال من أسرار الغيب وحقيقة الموجودات والأشياء.

وعن نشأة الشعر ، لا ندري، إذا كان في البدء إنشاد الرحل أثناء سفراتهم ، وإتباعه وقع خطاهم من حيث الوزن والنغمة ، أم كان ملحمة تروى فلا تنسى ، أم لاهتمامه بمدح السلاطين والملوك ، أم لاعتداده بقيم الفروسية ، أم هو حالة من الشرود والتمرد تصيب بعض الشعراء، أم كان توقا للتوحد بالذات الإلهية وزهدا في الدنيا من طرف شق آخر منهم ، أم هو وصف لمشاعرنا ، فكيف يمكننا تعريفه يا ترى : هل يكون ما يتجاوز الوصف والقول ، أم ما يتجسد من خلالهما ، أم كلاهما معا ؟

ونحن لا نعتقد أن الشعر يعرف بموضوعه ، بل بالروح التي انبثق منها: ألا وهي تلازم الصمت والموسيقى عند احتكاكهما باللغة وانصهارهما فيها ، ذلك في الأصل ،كنه الشعر.

وهو ما يفسر لنا ارتباطه بأصوات الكلمات وموازينها وإيقاعها استرسالا أو انقطاعا مهما كان شكل القصيدة وطرق كتابتها ، القديمة منها والحديثة .

وإذا علمنا أن روح الشعر تنبع من موسيقى الكلمات وعلاقتها بالصمت، سندرك لا محالة صلتها بالبعد الميتافيزيقي ، العلوي ، الإلهي ، أي بكل ما يفوق إدراك الإنسان وقدرته .

كاهنة عباس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى