مسعد بدر - دور الأستاذ في تطوير القصيدة النبطية في سيناء (2)

(2)

تحدّثنا في المقالة الأولى عن جهود الأستاذ: (محمد عبد الكريم الدلح) في تطوير القصيدة النبطية، تحدثنا عن استعداده العلمي والفطري، وعن دروسه التي يقدمها للشعراء، وعن عمق نظرته العروضية، وعن موقفه من الشعراء وتقييمه لهم. كان هذا الحديث في أربع نقاط، ثم شغلتنا الدنيا عن مواصلة القول؛ فاليوم نعود ونبدأ بالبند الخامس.
5- رؤية ورأي الأستاذ في كتابة القصيدة:
معروف أن الكتابة العروضية تغاير الكتابة الإملائية؛ فقولنا: "إنّ قوما" - يُكتب عروضيا: "إنن قومن". وبادية سيناء لها سمات لهجية تؤثر في الوزن الشعري، أو -بتعبير آخر- يخضع الوزن الشعري لطريقة نطق الشاعر. والنطق ربما اختلف من قبيلة إلى قبيلة أخرى؛ فيرى الأستاذ أن نستعيض بالكتابة العروضية عن الكتابة الإملائية إذا لزم الأمر. وبيان ذلك أنهم غالبا يسكّنون الحرف الأول من الكلمة؛ فإذا أرادوا البدء بهذه الكلمة الساكن أولها أضافوا لها ألف وصل للتوصل للنطق بالساكن، مثل قولهم: "بغلاها"، ينطق هكذا: "اِبْغلاها". فإذا ورد في الشعر؛ فربما قرأه البعض قراءة (فصيحة)؛ فيكون وزنه العروضي: "متفاعل". وهذا يضيّع الوزن. لذلك يرى الأستاذ أن يُكتب هكذا: "اِبْ غلاها"، على وزن: "فاعلاتن"؛ فيستقيم النطق الوزن معا، بفضل هذه الطريقة الكتابية. ومثال آخر قولهم: "وحياتك = اِوْ حياتك"، أو"لحياتك = اِلْ حياتك".وهذا أمثلة من اجتهادات كثيرة في هذا الباب.
6- وزن الدحيّة، والتعويض:
الدحيّة فن من فنون السامر المعروف في بادية سيناء، والبيت الشعري فيه يقوم على إيقاع سريع أساسه تتابع حرف متحرك يليه حرف ساكن، ومنه قولهم: "اعطونا الخمس من يداكم". ونطقه يكون: "اعْ/ طوْ/ نلْ/ خمْ/ سمْ/نيْ/داْ/كوْ".
يقول الأستاذ إن طبيعة المنافسة الارتجالية في هذا الفن استدعت "التعويض" الذي يتمثل في إشباع الحركة حتى تصبح حرفا كاملا، أو السكوت قليلا على بعض الحروف المتحركة؛ ليستقيم الوزن في هذا الفن، فن الدحية.
نستشهد على رؤية الأستاذ بأبيات أرسلها لي الشاعر الشيخ (صالح اعتيّق)، يقول:
مسعد ودّه رَحولة أصيلة ومن رَسَن جيّد
ونطقه: مسْ/ عدْ/ ودْ/ دهْ/ راْ/ حوْ/لةْ/ آ/صيْ/ لوْ/ منْ/ راْ/ سنْ/ جيْ/ يدْ
فنلاحظ – كما شرح الأستاذ – أن الشاعر أشبع حركة الراء حتى أصبحت ألفا تامة: "راحولة". ومد الهمزة فصارت الكلمة: "آصيلة"، ثم أسقط التاء من هذه الكلمة ووصلها بواو العطف؛ ليستقيم الوزن. ومثل ذلك: "رَسن = راسن".
ثم يقول الشيخ صالح: غشِيمة وما حدٍ طبّعها وأوّل مَرّة تقيّد
ونطقه: غيْ/شيْ/موْ/ محْ/ دنْ/ طبْ/ بعْ/ هاْ/ووْ/ ولْ/ مرْ/ رهْ/ تيْ/قيْ/ يدْ
وهكذا تُمد حروف، وتسقط حروف، وتُشبع حركة؛ حتى يكتمل الوزن وينضبط.
7- أمثلة تطبيقية:
ومثلما نهض الأستاذ يعرّف الشعراء بالبحور الطارئة على بادية سيناء؛ نهض يقدّم لهم نماذج من إبداعه على كل بحر.
فعلى بحر (الهجيني الطويل) مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعل
يا زين ديرة حلاها زاد عن حده
يا زين شبّة حطبها في بواديها
يا زين بيت الشعر والنجر والعدّة
ودلال بنت اليمن بالطيب ماليها
وعلى بحر (الحدا) مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن، يقول:
يا صاحبي خذ مني العلم وترى حرفي غويط
ما كل من غاص البحر يبلغ حشاشة منتهاه
بحري عميق ويوم تنزل لجته خلّك حويط
يا كم غوّاص (ن) غدا والدر فـ اعماقه مجاه
وعلى البحر (الهلالي) مستفعلن مستفعلن مستفعل
يا صاحبي ليه النفِس حزنانة
اطلق سراح القلب من سجّانه
ليش الهموم اِبْ نفسك اِتْجمّعها
الدنيا ما تسوى جنِح ذبّانة
ومن (المسحوب) مستفعلن مستفعلن فاعلاتن
لي ديرة (ن) هي في عيوني نظرها
لا غبت عنها ما تغيب اِبْ غلاها
في خاطري تسوى مدينة وحضرها
وجبالها هي طب نفسي ودواها
ومن (الهجيني مجزوء الرمل) فاعلاتن فاعلاتن فاعلن
في سكون الليل تسري مركبي
مع هواجس في خفوقي تصطلي
عشتها والحلم يقلق مرقدي
طال ليلي واعتراني كل ضيق
في طريق كنّها ما تنتهي
يا رفيقي كلما لي تبتدي
قام حظي في رجاها ينثني
قمت أدوّر لي طريق (ن) بي يليق
وفي هذا النص الأخير نلاحظ كيف نوع في القافية ليقترب كثيرا من فنون الموشحات الأندلسية.
هكذا بدا لي جزء من رحلة الأستاذ الممتدة الكثيفة التي تنوّعت بين الدرس العلمي العميق والتخصص الدقيق، والوقوف مع أصدقائه الشعراء معلّما ومرشدا وناصحا، ثم العطاء الشعري الجميل الأصيل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى