أ. د. لطفي مَنْصور - نَبْضُ الْقَلْبِ..

قِراءَةٌ لِقَصيدَةِ “نُجوم ساطِعَة” لِلشّاعِرَةِ السُّورِيَّةِ الْحَلَبِيَّةِ اللّامِعَةِ أميرة نويلاتي:
كُلُّنا يَعْرِفُ ما حَصَلَ وَيَحْصُلُ في سوريّا بِلادِ الشَّامِ مِنْ وَيْلاتٍ وَدَمارٍ ، بَعْدَ أنْ ضَرَبَها الإرْهابُ الذي غَذَّتْهُ الرَّجْعِيَّةُ الْعَرَبِيَّةُ بالتَّعاوِنِ مَعَ قُوَى الاسْتِعْمارِ الظّالِمِ الطّامِعِ في الْخَيْراتِ السُّورِيَّةِ.
عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ سُوِّيَتْ دارُ الشّاعِرَةِ في حَلَب بالْأرضِ ، وَأَظُنُّ أَنّ بَعْضَ أعِزّائِها ارْتَقَوْا شُهَداءَ. أَخَذَتِ الْحَمامَةُ تَسْجَعُ عَلَى الْأَيْكِ وَعَلَى رُبَى الشّامِ وَأَطْلالِها، وَتَبُثُّ آهاتِ الُجَوَى لِواقِعِها الْجَديد، بِلُغَةٍ عَذْبَةٍ نَقِيَّةٍ فَصيحَةٍ يَنِمُّ مُسْتَواها عَلَى أنَّ الشّاعِرَةَ قَدْ تَخَرَّجَتْ مِنْ إحْدى كُلِّيّاتِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ.
يَغْلِبُ الشِّعْرُ الْعَموديُّ عَلَى نَظْمِ أميرة، وَلا نَعْدَمُ وُجودَ قَصيدَةٍ في شِعْرِها على التِّفعيلَةِ، وَلَها شِعْرٌ يُعارِضُ بَعْضَ المُوَشَّحاتِ الأنْدَلُسٍيَّةِ.
تَعْمَلُ الشَّاعِرَةُ أميرَةُ اليَوْمَ مُديرَةً في مُؤسَّسَةِ دارِ الْعَرَبِ الْبَغْدادِيَّةِ.
أُسلوبُ القَصيدَةِ خِطابِيٌّ، تَتَوَجَّهُ في مَطْلَعِها إلَى أولَئِكَ الَّذينَ يُكثِرونَ مِنَ الْهَرْجِ بِلا عَمَلٍ وَلا تَنْفيذٍ. وَكَأَنِّي وَأنا أَقْرَأُ القَصيدَةَ أحومُ فَوْقَ شُعَراءِ الْعَصْرِ الْعَبّاسِيِّ الْأَوّلِ. القَصيدةُ جِيمِيَّةٌ عَلَى بَحْرِ الْبَسيط
يَتَقَدَّمُ الْقَصيدَةٌ سُؤالٌ:
ماذا تَبَقَّى لَنا؟
سُؤالٌ كُلُّنا يَعْرِفُ الإجابَةَ عَلَيْهِ. وَلِعِلَّةٍ التَّلْميحُ يَطْغَى عَلَى الْقَصيدَةِ!!!!
- يَرْعاكَ رَبِّي لَقَدْ بالَغْتَ في الْهَرَجِ
قِفْ عِنْدَ أَعْتابِنا بِاللَّهِ لا تَلِجِ
(تَدْعُو اللَّهَ أنْ يَرْعَى الْمُخاطَبَ، وَالظّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ والرَّبْطِ، أَوْ مِنْ خَلْقِ الْمُبْدِعِ اِلشَّخْصِيّاتِ، وَأَنْ لا يُكثِرَ مِنَ اللَّغْوِ، وَتُقْسِمُ عَلَيْه أَنْ يَلْزَمَ حُدودَهُ وَلا يَتَوَغَّلُ. وَلَجَ يَلِجُ وُلُوجًا دَخَلَ. جاءَ في الْقُرْآنِ:” يُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ في اللَّيْلِ” أَيْ يُدْخٍلُ أَحَدُهُما في الآخَرِ في الطُّولِ والقِصَرِ)
- خُذْ كُلَّ حَرْفٍ بَكَى مِنْ ذُلِّ أَوْرِدَتِي
وَكُلَّ أُقْصُوصَةٍ إنْ شِئْتَ وَابْتَهِجِ
( هَذا الْبَيْتُ يُشيرُ إلَى أَزْمَةٍ قَوِيَّةٍ تَمُرُّ بِها الشّاعِرَةُ، الأَوْرِدَةُ قَنَواتُ الدَّمِ في الْجِسْمِ، وَمَراكِزُ الْحَياةِ فيه. وَأنْ تَكونَ ذَليلَةً بِضيقٍ أوْ فاقَةٍ أوْ رُعْبٍ كُبْرَى الْآلام. هَلْ تُريدُ أَيُّها الْمُخاطَبُ أنَ تشْمَتَ ؟ خْذْ قِصَصِي)
- في بَحْرِ صَوْتِكَ مَوْجْ لَسْتُ أُغْرَقُهُ
لَكِنَّنِي غَرِقٌ في صَوْلَةِ اللُّجَجِ
( الصَّوتُ أمْواجٌ وَلِلْبَحْرِ أَمْواجٌ، فَمَهْما كانَ الصَّوْتُ صارِخًا لا يُغْرِقُ، وَغَرَقي تَقالُبِ لُجَجِ الْوَيْلاتِ. الْلُّجَجُ جَمْعُ لُجَّةٍ وهيَ الْماءُ الْعَمِيقُ)
- آهً عَلَيْكَ بِأَيِّ الشَّطِّ تَتْرُكُنِي
أَفي الْغُروبِ أَنا؟ حَدٍّثْ بَلا حَرَجِ
( تَقولُ بِتَحَسُّرٍ “يا رُبّانَ سَفينَتِنا! إلَى أَيِّ شَطِّ أَمانٍ تَقودُنا؟ الْغُروبُ رمزٌ لِمَوْتِ نَهارٍ، قِلْ أَيُّها الْمُخاطَبُ دونَ حَرَجٍ هَلْ نَحْنُ قادِمونَ عَلَى هَلاكٍ؟)
- لا لَسْتُ كارِهَةً وَالشَّوْقُ يَغْلِبُنِي
قَلْبِي يُحِبُّكَ لَوْ تَدْرِي بِمُخْتَلَجِي
( الشّاعِرَةُ الْوَطَنِيَّةُ الْمُلْتَزِمَةُ لا تَكْرَهُ الْوَطَنَ بِالرَّغْمِ ما حَلَّ بِهِ مِنْ نَكَباتٍ. هيَ تُحِبُّهُ وِيَغْلِبُها الشَّوْقُ إلَيْهِ لَوْ دَرَى هذا المَحْبوبُ ما يَدُورُ بِخَلَجِها وَحَناياها. وَمِنَ الْمُمْكِنِ أنْ يَكونَ الْمُخاطَبُ والِدَها المرحومَ الذي تَوَفّاهُ اللَّهُ منذُ عَهْدٍ قَرِيب)
- لَكِنَّني بِظِلالِ الْحُبِّ ذابِلَةٌ
وَلَسْتُ أَرْضَى النَّدَى مِنْ فَضْلَةِ الْمُهَجِ
وَصْفٌ جميلٌ لِما في صَدْرِ الشّاعِرَةِ مِنْ أَسًى. الْحُبُّ لِلْمَرْءِ كَالنَّدَى لِلْوَرْدَةِ. الذُّبُولُ هُوَ الضَّعْفُ وَالْوَهَنُ، وَشاعِرَتُنا أَبِيَّةُ النَّفْسِ لا تَقْبَلُ الدَّنايا. الْفَضْلَةُ بَقِيَّةُ الشَّيْءِ، الْمُهَجُ جَمْعُ مُهْجَةٍ وَهيَ النَّفْسُ)
- لَمْ يَبْقَ في الصَّدْرِ غَيْرُ الْحُزْنِ مُشْتَعُلًا
ماذا تَرَكْتَ لَنا مِنْ أمْسِنا الْبَهِجِ
( كُلُّنا يَعْرِفُ كَيْفَ كانَتْ سورِيا في رَخاءٍ قَبْلَ الْعُدُوانِ عَلَيْها. تَسْأَلُ الشّاعِرَةُ الْمَنْكوبَةُ بِفِعْلِ ما جَرَى لِلْوَطَنِ: ماذا بَقِيَ مِنَ الأمْسِ الْمُنيرُ؟؟؟ استفهامٌ تَقْريريٌّ لِأنَّها تَعْرِفُ يَقينًا الإجابَةَ)
- إذا غَفَلْتُ وَعَيْنُ الرُّوحِ ساهِرَةٌ
مَعِي وَلَسْتَ مَعِي حُلْمًا بِلا أرَج
( عَيْنُ الرُّوح استعارَةٌ مَكْنِيَّة جميلَةٌ. طابَقَتِ الشّاعِرَةُ عَفْوِيًّا بَيْنَ الْغَفْلَةِ والسَّهَرِ، الأرَجُ الرّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ، لنْ يَطيبَ لِلشّاعِرَةِ سَهَرٌ إلّا بِوُجودِ المُخاطَبِ الغائِبِ، وَأحْسَنَتِ الشّاعِرَةُ بِالتَّعبيرِ “حُلُمٌ بِلا أَرجٍ” للْحُلْمِ الذَّهَبي)
- أَبْكي وَأَضْحَكُ إنْ تَغْزِلْ لَنا قِصَصًا
وَما أنا غَيْرُ واهي الْخَيْطِ في النَّسَجِ
( أبْكِي وَأَضْحَكُ طِباقٌ جميلُ مِثْلُ “أماتَ وَأحْيا”، سَماعُ الْقِصَصِ فيهِ تَسْرِيَةُ مُمْكِنُ أنْ تُضْحِكَ، غَيْرَ أنَّ واقِعَ الْقَصيدَةِ مُبْكٍ. وَقَدْ أجادتِ الشّاعِرَةُ في التَّعْبيرِ “تَغْزِلْ قِصَصًا” بَدَلَ تُؤَلِّفُ. وَالأَعْجَبُ وصْفُها لِنَفْسِها بِخَيْطٍ واهٍ في هذا الْمَنْسوجِ)
- ما دُمْتَ تَحْسَبُ أنَّ الْحُبَّ ذُو هَرَجٍ
فَكُلُّ تِنْهِدَةٍ شَطْرٌ مِنَ الْهَزَجِ
( إذا كُنْتَ أَيُّها الْمُخاطَبُ تَظُنُّ أَنَّ حُبَّ الْوَطَنِ شَيْءٌ مِنَ الْهَذْرِ فَحَسراتًُنا الْحَرَّى كَشَطْرِ بَحْرِ الْهَزَجِ. وَهُوَ بَحْرٌ غِنائِيٌّ راقِصٌ، مُكَوَّنٌ من تفعيلَتَيْنِ في كُلِّ شَطْرٍ وَهُما مَفاعيلُنْ مفاعيلُ.
المعنَى أَنَّ بُكاءَنا وَحُزْنَنا عَلَى ما حَلَّ في الوَطَنِ ذَهَبًا مَعَ الرِّيحِ.
أشْكُرُ شاعِرَتَنا السُّورِيَّةَ أميرة نويلاتي عَلَى هذا الإعجاز.
تَمََت.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى