عمر حمداوي - قراءة مقتضبة : في شعر : نزيهة مشيش

النص :


تلك العيون
بحر..
تغريني سكينته بالغوص سيدتي
تجرني للقرارة
فإذا ما لحقتها
انقلب عني
أغرقني ..محاولا الفتك بي
ولسان حالي يقول
هل من مزيد؟؟
تجدف رغباتي الجامحات
تطفو على السطح
تكشف عهر الغواية بزمني
لنوارس شطآن المحيط
أتنفس من جديد
وأقرر الغوص من جديد
فلا جديد بعالمي
غير كشف سر تلك العيون
ساكنة، صامتة،مدوية..
تغريني بالغوص سيدتي
وإن كنت لا أتقن فن العوم
فداأ لتلك العيون أضحي
فبغير تضحيتي لن تراني
"ضح لأراك"
هكذا قالت الأسطورة
منذ زمن بعيد
تصر هي ألا تبصرني
وأصر أن عن دربها لا محيد
وحيد أنا أيها البحر
لعمري أنا وحيد
ومعذبتي مرجانة
مسجونة بقوقعة
بعمق المحيط
لا تتوانى الساحرات بالفتك
بكل من لحريتها جاء
طالبا،راغبا، سائلا، مريد
يا سلطان البحار
سلتك
أن تحرر النظرة من كل القيود
وتفك طلاسم كل ساحر
وتقيها شر عين كل حقود أو حسود
أن تشرح لي صمتها المطبق
المدوي كالرعود
"ضح لأراك "
هاأنذا أضحي. .
وتصر عيناها على ادعاء الجحود.


القراءة :
********

( ضح لأراك ) هذه العبارة شدت إنتباهي فقلت في نفسي إننا في زمن البخل لذلك جاءت هذه الصرخة مدوية في القصيدة و مكررة مرتين لتحاول الظهور بقوة فهي بين مزدوجتين تشير إلي معنى ما للتنبيه والمهم هو الإشادة بدور التضحية الدنيوية لضرورتها ومنفعتها وربما تكون شهادة أيضا يؤجر عليها الإنسان الفاضل بعد موته هذا لما فيها من حسن أخلاق عالية وصلت إلى حد تقديم الغالي والنفيس من أجل إدراك المراد الدال على الصلاح نعم إن التضحية هي أعلى رمز يمكن أن يبذله المصلح أو المحب الصادق فهو يفقد حتى روحه يبذلها ويسترخصها في سبيل الآخرين الذين يكافح ويناضل من أجل بقائهم أو إسعادهم والذود عنهم بجرأة وحماسة يقف أمام العالم من دون خوف أو تردد لإشعاع الصوت الذي يؤمن به حد التضحية إما موتا وإما سجنا وإما ٠٠وإما إلخ المهم هنا هو الإستجابة للنداء وعدم اللامبالات أوالتقاعس فمن لم يلقي بالا أو لم يحرك ساكنا فهو غير معني بحياة هذه الفكرة المندوب إليها
وهو لا يستحق توجيها ولا إلتفاتة إن المضحي يمتلك كل الأشياء وأغلاها القلوب التي يسكنها بفضل إخلاصه ونزاهته وقدرته على إنجاز المثل العليا المرغوبة التي تجعل منه شخصا كبيرا في عيون الناس قادرا على تحمل المسؤولية عن جدارة إن الشاعرة تقول : بغير تضحيتي لن تراني
"ضح لأراك" ٠ هذا شرط مفروض وكأنها تستلهم الضوء من الفيلسوف سقراط حين صرخ في وجه الصمت الغافل بقوله : تكلم حتى أراك ٠٠٠ ليوضح أهمية الكلمة وقوتها ٠٠وفي البدء كانت الكلمة النافذة التي تقطع باليقين وتملأ الوجود إشعاعا وعلما ولا تدع المصيرإلى أن يستوي بالحجر حيث لا إحساس ولا ردة فعل ( ضح لأراك ) صرخة اللحظة في العصر الجديد لتغير الوضع وتقلبه من جمود إلى حركة مستمرة ومن صمت القبور والكهوف إلى ضجة الحياة ومن السيبة إلى المحاسبة ومن الإهمال إلى الإهتمام ومن اللامعنى إلى المعنى والخلق المستفيض في دنيا منتعشة بجمال المشاركة والمراهنة على التقدم للأمام بالإلهام الراقي ولما تضيفه الرؤية المستبصرة على مشهد الذات المفكرة والمقصود بالتضحية خلق السعادة كاملة وإعطائها حقها في التمكن والبرهنة عن حسن الفعل الجليل الذي يبارك ويستثمر وأما قولها ( هكذا قالت الأسطورة )
فهي تشير إلى أن هذه التضحية المقصودة ماهي إلى أسطورة ليس بالمعنى الوهمي أو المتخيل الذي ينكر ولا يؤخذ بعين الجد في تقرير الهدف ونشدانه من خلال رمز الأسطورة بل هو عمل بطولة عظيم يعمل على دفع الإنسان للغاية النبيلة والمقصد الشريف الأسطورة تبقى فكرة أومغامرة لا تستحضر إلا الأذكياء والشجعان وأصحاب النفوس القوية الجبارة التي تتعالى على الضعف حين تبتلى بركب المخاطر ولأن للشاعرة قلب يحب البحر ويهواه جعلها كثيرة الإنشغال بوصفه وبعشقه كثرة معاشرتها له عن قرب فهي إبنت بيئة بحرية زاخرة بتمجيده وعنايتها به تفوق جميع أهل البر لأنها تستأنس به وتفهم لغة موجه وهي تحاول الغوص حتى إلى عمق القاع التي تتكلم عنه بشغف يجذبها من روحها ومشاعرها مصورة جماله بهذه العبارات الرائعة إنها تجعل من رومز البحر لغة متدفقة متعلقة بالعيون وكأن هاته العيون الساحرة لم ترى إلا البحر أو كأن هاته العيون المتغزل بها في الحقيقة ليست سوى عيون البحر التي صارت للشاعرة مضرب المثل فهي لا تشبه العيون الجميلة إلا بالبحر وليس بشيئ آخر
فما أجمله من تشبيه يدخلنا في أبعاد جديدة تروض التعبيرفتزيده فصاحة تجعله نموذجا يعطي لكل تجربة حقها من القراءة الممعنة والفاتنة والمسترسلة إن البحر هنا في هذه القصيدة الأسطورية سكن عيون الطبيعة كلها فهامت بيه روح الشاعرة في زهو لا يدركه إلا من إمتلك حس التضحية وبات معتنيا بها كمعنى جميل لا محيد عنه

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى