محمد فايز حجازي - عقدة وابور الجاز

بعد الرحيل المفاجيء لأمي -أعظم رفاق السماء- بأيام معدودات، وبعد أن استجمعت قليلاً جداً من قواي النفسية والجسدية الخائرة من هول المصيبة، ظلت مشاهد أمي تتدفق أمام ناظري بلا انقطاع، وبعيون يغشاها الحزن وقلب مكلوم كنت أراها أمامي علي الدوام، رأيتها تحملني علي كتفيها بينما هي تغسل الأواني في مطبخنا الضيق، ورأيتها تضع علي رأسي كمادات الماء الفاتر وقت كانت حرارتي مرتفعة، وزجاجات الدواء علي المنضدة بجوار السرير، ورأيتها أول أيام الشهر المبارك وهي تعد طعام الإفطار منذ الصباح الباكر، وتصر علي إدراج ذكر البط ضمن وجبة الإفطار أول يوم، برغم أنه لا أحد من أفراد الأسرة يفضل أكله، ولكنها العادة التي لا يحب أن نحيد عنها منذ طفولتنا، ورأيتها أيضًا ليلة العيد وقد غسلت ونظفت كل ما وقع تحت يدها، حتي جدران المنزل أعملت فيهم الماء والصابون بلا كلل.

لا تبرحني صورة أمي أبدًا، في شتي المواقف والمناسبات، إنه العمر وإنها أمي!
بيد أن مشهدنا صغارًا في ليالي الشتاء القارسة ونحن حولها، يتوسطنا جميعًا وابور الجاز، بينما هي تقلي البطاطس والباذنجان وتجهز لنا المشروبات الساخنة، يغمرنا دفئها الذي يعلو علي دفء الوابور بدرجات كثيرة، لا ينفك ذلك المشهد أن يعن لي في جل الأوقات، أحلم به في صحوي ومنامي، فيبعث في أعصابي تنميلًا وبرودة مقيتة، وفي قلبي ألم دامي، بل إنه يتسبب لي في أزمة شديدة في النفس وفراغًا كبيرًا في القلب، تكاد تتطور إلي درجة العقدة النفسية.
بعد أيام كثيرة ومعاناة مزمنة، خطر لي أن أعيد ذلك المشهد الفريد في منزلي وسط أولادي، الذين -حتمًا- سيسعدون كثيرًا بهذا الدفء الأسري الحميم، فربما وجدت أنا في هذا عزاءًا وسلوي، ووجدوا هم معه جو مرح ومتعة، وعليه فقد توجهت من فوري إلي منزلنا القديم باحثًا عن وابور الجاز النحاسي البريموس، الذي كانت أمي تحتفظ به وتحافظ عليه كأحد أبنائها حتي أتاها اليقين، وكنت بكل تأكيد أعلم أن أحدًا في أيامنا هذه لا يُصنّع أو يبيع وابور الجاز، إلا ربما في محلات الأنتيكات، بل أنني أستطيع أن أؤكد يقينًا أنه لا أحد من الجيل الحالي قد سمع به أو عرفه من الأساس.
علي أية حال فقد كنت محظوظًا بشدة عندما وجدته كما هو في منزل أمي، وأن أحدًا من إخوتي لم يفطن لأهمية الاحتفاظ بهذه التحفة النادرة، أخذت الوابور في حرص وسط دهشة إخوتي الذين ظنوا أن خللًا قد أصاب عقلي، فماذا سأفعل بقطعة الحديد تلك المهملة منذ سنوات بعيدة، ولم تعد تصلح للاستخدام! إلا أنني كنت قد أعددت العدة ووضعت الخطة التي سأعيد بها الحياة لوابور الجاز، والذي بدوره سيعيد لحياتي بعضًا من دفء الماضي الجميل. فأنا وبحكم نشأتي، أعرف بعض المحلات في السيدة والقلعة وسيدنا الحسين، التي سيتمكن أصحابها من رأب الصدع وإصلاح الوابور، وبدأت جولاتي في تلك المناطق، نلت خلالها ما نلت من سخرية وتهكم، برغم أنني كنت أخفي الوابور في شنطة سيارتي، إلا أن مجرد سؤالي عن محلات تصليح وابور الجاز التي كنت أحفظ أماكنها عن ظهر قلب، كان مثارًا للتندر والتعجب، فقد مات من أصحاب المحلات من مات، وإعتزل المهنة منهم من إعتزل، وظللت علي هذه الوتيرة لأشهر طوال، سألت خلالهم من المعارف والأصدقاء الكثيرين بلا هدي، وجعلت كلما إقتربت من المناطق التي أتخيل أن أجد فيها داعمًا أو مساعدًا، أقوم بجولة فيها علّني أجد هاديًا أو معينًا، تملكني اليأس وتوقفت عن جولاتي المتكررة، وكدت أنسي أمر الوابور الذي تركته في شنطة سيارتي، كمريض توقف قلبه، ينتظر قُبلة تعيده للحياة.
حتي جاء اليوم الذي ذهبت فيه لأعود أحد المرضي، من أصدقائي القدامي الذين يقطنون في منطقة الخليفة بحي القلعة، وقبل أن أصل لبيته في تلك الحارة القديمة، إذا بعيني تقعان علي مشهد فريد من مشاهد الزمان البديع، محل صغير للغاية، ربما لا تتجاوز مساحته المتر المربع، حتي أن السائر في الحارة يكاد لا يستبينه، يجلس داخله رجلُ هرم، قصير القامة، ذو حدبة كبيرة في ظهره، تتناثر حوله مجموعة من بوابير الجاز كأطفال جياع تنتظر من يطعمها، إستاذنته أن أحضر وابور الجاز المعطوب، عدت إلي سيارتي في الميدان عدوًا، أخذت الوابور من شنطتها وعدت للرجل ألهث من فرط العدو والفرحة، جلست بجواره وهو يُعمل يديه في مهارة بين الفونيا التي غيرها، والكباس الذي استبدل جلدته، جعل يلحم الوابور في أماكن عدة، ثم صقله ليعود لامعًا نحاسيًا كما خرج من مصنعه، مصنع بريموس الأشهر قديمًا، عمره بالجاز، اختبره وتأكد من كفاءته، منحني بعض الإبر حتي يتسني لي تسليك الفونيا حالما انسدت، نسيت أمر صديقي المريض تماما!
أخذت الوابور وانطلقت إلي المنزل، بعد أن دعوت للرجل كثيرًا بالبركة والستر وطول العمر، أجزلت له العطاء بعشرة أضعاف ما طلب، في البيت كانت المأساة فقد تذكرت أن عليّ أن أنتظر لشهرين آخرين حتي يحل فصل الشتاء، وذلك لسببين أولهما، حتي يكون لدي سببًا وجيهًا لتشغيل الوابور، وثانيهما أن أستدعي نفس الأجواء القديمة وذات المشهد البديع، ونحن حول أمي منكمشين في برد الشتاء نستجلب دفء الوابور بمد أيدينا تجاه شعلته الزرقاء، ثم تمريرها علي أنحاء متفرقة من أجسادنا. فيسري دفئه كالخدر فيها، ننام بعدها نوًما عميقًا، هذه المرة سأكرر نفس المشهد مع أولادي، ليدخلوا معي هذا العالم الحالم، الداعي لسمو المشاعر وتهذيب الوجدان.
احتفظت بالوابور في مكان آمن حتي لا تطاله يد عابث وأخص زوجتي البارعة في لعب دور الشريك المخالف علي الدوام، فأخفيت الوابور جوار كتبي في دولاب مغلق، حتي إذا ما جاءت أول ليلة باردة من ليالي الشتاء، أعددت العدة ووضعت الخطة للمفاجأة، جهزت الصواني والأكواب وسط
صالة المنزل، رتبتها علي شكل دائرة صغيرة، تمامًا كجلستنا صغارًا، الخبز الذي سوف يتم تسخينه ينتظر في أطباق، مسحوق الكاكاو والماء واللبن هناك أيضًا، لاشيء ينقص الليلة الدافئة المنتظرة، وكان يتعين عليّ تشغيل الوابور خارج باب المنزل، حتي لا أسمع ما أكره من زوجتي التي ستعترض بكل تأكيد علي دخان الوابور الأسود الذي سينبعث في بداية تشغيله، والذي سيلوث جو المنزل ويدمر سقفه ويفسد علينا الحياة، ويجلب لنا كل الأمراض المعروفة، علي كل حال فقد كنت محظوظًا لخلو الدور الذي أسكن فيه من الجيران تمامًا، فالبناية جديدة وقاطنيها مازالوا قلة، مما سيمكنني من تشغيل الوابور في أمان دون أن يري أحد، المهندس المحترم الجهبز وهو علي تلك الحالة المزرية، فلا أستبعد أن يساومني حينها مقابل صمته وعدم فضيحتي.
أديت مهمتي علي الوجه الأكمل وتمكنت كمحترف من تشغيل الوابور بمنتهي الكفاءة، وبدأت شعلته الزرقاء تشتد أكثر وأكثر كلما دفعت الكباس الجانبي له مرارًا، حتي إذا ما استتبت شعلته، عدت إلي باب منزلي، فتحته بيد وأنا أحمل الوابور باليد الأخري، متوقعًا الفرحة والسعادة اللتين سوف تغمران وجووه أولادي وقلوبهم عند رؤيتهم الوابور لأول مرة في أعمارهم الصغيرة.
دخلت منتشيًا تعلو وجهي ابتسامة صافية، غير أنهم بمجرد رؤيتهم للوابور وسماعهم لصوته، صرخوا وهرولوا تجاه غرفتهم فزعي، يبكون بشدة، وكأنهم رأوا تنينًا يهم أن ينفث ناره في وجوههم. بالطبع -ولأيام طويلة-كالت لي زوجتي فيها من صنوف الاتهامات ما إن صح لأودي بي إلي غياهب السجون، اتهامات علي شاكلة أنني تسببت في عقدة نفسية أصابت أولادي، نتيجة سوء تصرفي وسلوكي المشين، وأن ذكائهم قد تراجع منذ الليلة المشؤومة تلك، وبأنهم قد فقدوا الثقة في ذواتهم إلي غير رجعة، وبأنني لا أصلح لأن أكون أبًا مسؤولًا، وهكذا...
منذ ذلك الحين، وأنا أحاول كلما تسني لي هذا أن أقص عليهم قصص وابور الجاز الرائعة، كيف كنت أستحم من ماءه الساخن وعلي صوته الشجي، وأصف لهم روعة ودفء الليالي التي كنت أمضيها مع أمي في جواره، محاولًا إقناعهم بمعايشة تلك التجربة سويًا، غير أنهم يرفضون الفكرة رفضًا قاطعًا، جراء ذلك الموقف المخيف الذي لم يبرح مخيلتهم.
لم أفلح معهم برغم كل المحاولات والإغراءت التي أقدمها كل يوم، ولا أظنني سأفلح يومًا ما!


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى