وارد بدر السالم - رسائل حب يكتبها الأدباء

من أجمل الشذرات التي كتبها في رسائل الحب المتبادلة بينه وبين أناييز نين قال فيها هنري ميللر “للمرة الأولى في حياتي أنا منغمس تماماً في كائن آخر، فيكِ/ لقد صعدتُ من أعماق سحيقة لأعثر عليكِ” وهذا الأثر الجميل ما يوازيه في علاقة جان بول سارتر بسيمون دي بوفوار المعروفة تاريخياً بوهجها العاطفي، فهي علاقة حب افترعتها الكثير من رسائل الغرام التي تضمنت التماعاتٍ شعرية ثمينة يمكن أن نستشفّها بسهولة “أحبك والنافذة مفتوحة، أنت لي، والأشياء لي، وحبي يغير الأشياء من حولي”، لكنّ آرثر ميلر عشق فنانة الجمال مارلين مونرو قائلا “كانت كالضوء الذي يحيطني، تثيرني تناقضاتها وغموضها.. الفتاة الأكثر حزناً التي قابلتها في حياتي”.
وبدورها كتبت مونرو ذات مرة عن هذا المسرحي العاشق الذي تزوجها “رقته ترتعش في سكونه وعيناه لا بد أنهما تطلان بذهول من كهف الصبي الصغير”. وليس هؤلاء العشاق الكتّاب ورسائلهم الكثيرة موضع الكلام بقدر ما هو استهلال لرسائل الحب التي كتبها أدباء معروفون في مراحل متعاقبة من الحياة الإبداعية لهم، شرقاً وغرباً، لما يسمى بـ”أدب الرسائل” الذي يُعد جنساً قائماً بين الأجناس الأدبية الكثيرة، ولعله الأقدم في تاريخ الأدب العربي والذي أثرى المكتبة العربية بنوع خاص من الكتابة، لكنه توارى أو قد يتوارى مع الزحف الإلكتروني المرافق للحياة الثقافية بتغير نمطية العلاقات الإنسانية الى حد واضح، الأمر الذي افتقدنا فيه ثنائية الورقة والقلم حينما حلّت الأزرار محلها وصارت الشاشة هي الورقة، فتبدلت اللغة ورومنسيتها الثرية وأخذت طابعاً آخر بعيداً عن رائحة الورق والحبر.
ومن أدب الرسائل أدب الحب أو رسائل الحب التي تبادلها أدباء وأديبات أو كتبها أدباء عرب وعالميون لحبيبات معروفات أو غير معروفات، وهو سجل حافل بالإثارة والجمال وومضات الكتابة الاستثنائية في المناجاة والمناغاة ليكون توثيقاً رومانسياً كثير الجمال والحبكة، ليشكّل جنساً مستقلاً في المحاكاة الروحية والنفسية والعاطفية وهي في أكثر حالاتها نشاطاً واستفزازاً إيجابياً.
وفي الوقت الذي كان فيه الحبر يسجّل تلك الخلجات الجميلة النادرة في حياة المحبين، تغيرت اليوم الكثير من مفاهيم الرومانسيات بشقّها الكتابي، فلم يعد غسان كنفاني يكتب لغادة السمان ولا يرسل جبران رسائله البريدية إلى مي زيادة، مثلما تعسّرت المشاعر الورقية لتتحول إلى طباعات آنية تفتقر إلى تلك الروح القديمة التي بقينا نعيد قراءة فرسانها في هذا الأدب الجميل الذي غاب عن حياتنا الإبداعية فعلاً.
سيبدو الظرف الاجتماعي العربي بعموميته أحد أسباب هذا النكوص في عدم استشراء هذا النوع من الكتابة، وما عادت الشجاعة الأدبية وحدها قادرة على رصد تلك الإيماءات الشخصية حينما يتعلق الأمر بالمرأة سواء أكانت كاتبة أم من عامّة الناس، ويمتثل الأدباء لهذه الحكاية الاجتماعية الطويلة التي أخذت تتعقّد باستشراء المد الديني المتطرف، ومع تطور الآلة الإلكترونية واستجابتها لمتطلبات الحياة أخذ العد العكسي مداه في إشاعة مثل هذا الجنس الأدبي الصريح والواضح في علاقاته الثنائية بين الرجل والمرأة.
في الأدب العربي المعاصر الشحيح جداً لهذا الجنس القديم يترك لنا جبران خليل جبران وعباس محمود العقاد فيضاً من رسائلهما إلى مي زيادة، مثلما ترك غسان كنفاني الكثير من رسائل الحب إلى غادة السمان والتي نشرَتها بعد عشرين عاماً من وفاته، كما وقع نزار قباني في حب بلقيس في ستينات القرن العشرين وكتب عنها أجمل الرسائل والقصائد، ولا نتخطى علاقة مريد البرغوثي ورضوى عاشور في هذه الآثار الرومانسية المباشرة.
لو شحّت علينا شواهد رسائل الحب في الأدب العربي؛ إلا من تلك الاستثناءات التي مرّ ذكرها، فإننا سنجد شواهد كثيرة في “الأرشيف الغرامي” العالمي بسبب انفتاح المجتمعات وحرياتها المفتوحة إلى آخر مدى توفر فيه مناخاً صالحاً للكثير من الكتابات الشخصية أو السرية كما نسميها.
رسائل الحب جنس أدبي نفتقده كثيراً.

وارد بدر السالم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى