د. محمد العدوي - جذور اللهجات العامية المصرية.. اللهجات العامية بين القاف والجيم - مقال مجمع

في اللهجات العامية المصرية تتنوع طريقة نطق حرف الجيم .. في لهجة المدن الكبرى ووسط الدلتا يتحول إلى جيم حنكية (غير معطشة) وهي ما تعرف باسم (الجيم القاهرية) .. وفي ريف الوجه البحري تتدرج من الجيم المعطشة في الشرقية وحتى الياء المدغمة والشين في بعض مناطق كفر الشيخ والبحيرة .. أما في الصعيد فهي تنطق في بعض المناطق قريبة من حرف الدال وفي معظمها تنطق نطقا متوسطا يجمع بين الجيم المعطشة والدال الخفيفة وهو ما يوافق النطق العربي القياسي لها مثل اللهجة الحجازية ..
أما نطق حرف الجيم من الحنك بدون تعطيش فهو راجع أساسا إلى القبائل اليمنية الجنوبية التي شكلت الموجة الأولى من قبائل الفتح الإسلامي وهي قبائل (كندة وتجيب ومراد وغافق وعك ومعافر وهمدان ويافع وخولان) .. وحتى اليوم لا تزال مناطق حضرية كثيرة في جنوب اليمن تنطق حرف الجيم على الطريقة القاهرية من الحنك بدون تعطيش .. ومن المعلوم أن اللغات السامية القديمة كانت تنطق حرف الجيم أيضا بدون تعطيش (أطلق عليه حرف الجاء) ومنها اللغة العربية الجنوبية (لغة حمير) والحبشية (الأجعزية) ..
وأما تعطيش الجيم فهو الغالب على اللهجات المصرية الريفية وهو يبدأ من التعطيش الخفيف قريبا من حرف الزاي مثل أرياف الدقهلية والشرقية حيث يشبه تماما طريقة نطق اللهجات الشامية وبعض اللهجات المغاربية مثل قولهم زوزتي (زوجتي) وكذلك في بعض مناطق الحجاز مثل الطائف .. وينتهي إلى نطقه في بعض مناطق كفر الشيخ والبحيرة والجيزة إلى ما يشبه حرف الشين أو الياء المدغمة على طريقة أهل نجد والخليج والبحرين وبعض مناطق المغرب العربي مثل قولهم الشوال (الجوال) ودياية (دجاجة) ..
وفي المقابل لا زالت مناطق كثيرة في الوطن العربي تنطق حرف الجيم وفق الطريقة القياسية وهي لغة قريش (وهي التوسط بين الجيم المعطشة والدال الخفيفة على صورة دج) وأهمها لهجة الصعيد في مصر ولهجة الحجاز الحضرية واللهجة الموصلية في شمال العراق وحلب وبعض مناطق ليبيا وفي بعضها ميل إلى الدال مثل قولهم دردا (جرجا) .. وهذا النطق القياسي يظهر في أجلى صوره عند قلقلة حرف الجيم أثناء تلاوة القرآن لكن بعض العلماء أجازوا قراءة الحرف بالتعطيش الخفيف لأنه لا يقلب مبنى الحرف ..
وفي اللهجات العامية المصرية تتنوع طريقة نطق حرف القاف .. في لهجة المدن الكبرى ووسط الدلتا يتحول إلى همزة مثل قولهم أمر (قمر) وألم (قلم) .. أما النطق الغالب له فهو في الصعيد والدلتا ولهجات البادية حيث يتحول إلى جيم حنكية (غير معطشة) مثل قولهم جبر (قبر) و جال (قال) .. وفي بعض أرياف الوجه البحري يتحول إلى حرف غين مثل قولهم دغيغ (دقيق) مع وجود قلة تنطقه بنطقه الأصلي قاف .. وفي بعض ريف الدقهلية وريف الشرقية يتحول إلى كاف مهموسة مثل قولهم دكيكة (دقيقة) ..
أما تحويل القاف إلى همزة فهو أمر مشترك مع اللهجات الشامية الحضرية جميعا والتي تحول فيها حرف القاف إلى همزة في زمن يسبق ظهور الإسلام متأثرا بالفينيقية .. وقد انتشرت هذه اللهجة بين القبائل اليمنية الشمالية (لخم وجذام وتنوخ وعاملة وتيم اللات وطيء والأزد وقضاعة بفروعها المختلفة) .. وقد احتوت المعاجم العربية على ألفاظ عديدة احتفظت بنطقها بكلا الطريقتين لنفس المعنى مثل قولهم (القوم زهاق مائة وزهاء مائة .. تقبض وتأبض بمعنى مد رجليه .. فشق وفشأ أي انتشر .. زنق وزنأ بمعنى ضيق) ..
وأما تحويل القاف إلى جيم غير معطشة فهو يتشابه مع كل اللهجات البدوية في الوطن العربي خاصة في نجد والخليج العربي وبادية الشام والعراق وليبيا ويطلق عليها لهجة تميم حيث اشتهرت بها .. ويتدرج نطقها من الكاف المهموسة في جنوب العراق وبعض مناطق المغرب العربي إلى جيم معطشة في بعض المناطق خاصة الخليج العربي مثل قولهم الشارجة (الشارقة) إلى حرف غين مثل السودان واليمن إلى القاف الأصلية في بعض المناطق مثل اللهجة الموصلية في شمال العراق وفي أجزاء من المغرب العربي ..
وقد جرت عادة العرب على تبادل نطق حرفي القاف والكاف في مواضع عديدة ومنها قراءة ابن مسعود والشعبي للآية : " وإذا السماء قشطت " .. وللحرف أحكام خاصة عند التلاوة لأنه من حروف القلقلة التي يجب إظهارها لاستقامة المعنى .. ويرجح علماء اللغة أن النطق الأصلي للحرف كان مجهورا (أقرب للجيم النجدية وأطلق عليها حرف القيف) ثم تحول إلى مهموس (القاف القياسية الحالية) بتأثير اللهجة الحجازية .. وربما كان تنوع ذلك الحرف من أسباب تحدي العرب بلاغيا في قوله تعالى : " ق والقرآن المجيد " ..



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى