عبدالرحيم التدلاوي - جدلية الماضي والحاضر، وقضية "الأنثى"، في رواية "ظلال الخذلان" لآمنة برواضي.

جدلية الماضي والحاضر، وقضية "الأنثى"، في رواية "ظلال الخذلان" لآمنة برواضي.
بعد فوز الروائية أمنة برواضي بالرتبة الأولى في مسابقة الرواية العربية بالمقهى الأدبي بوجدة 2016 بروايتها “على ذمة التحقيق” هاهي تحقق فوزا آخر بروايتها الجديدة ” ظلال الخذلان” في مسابقة ديوان العرب بمصر بالرتبة السادسة، وقد تقدمت للمسابقة 556 رواية من جميع الدول العربية.
صدرت الرواية عن دار ديوان العرب للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى سنة2020 في 124 صفحة من الحجم الصغير.
حديث عن اللوحة:
جمعت بين العنصرين اللغوي وغير اللغوي؛ فالعنوان وجنس العمل، واسم المبدعة، ووسم الدار، كان ضمن محمولات اللغوي. واتخذ كل محمول لونا خاصا به، فالعنوان ووسم الدار كان بالأبيض، فيما جاء اسم المبدعة بالحجري مظللا بالأبيض، أما جنس العمل فجاء باللون الأزرق الفاتح.
أما باقي مكونات الغلاف غير اللغوية فكانت من صورة لوجه فتاة مخترقة أو مظللة بشجرة، وتنظر إلى الخارج بعينها اليمنى وكأنها تنظر إلى المتلقي، والكل يسبح في ألوان الأبيض والأسود والأخضر والأزرق، الفاتحيين، مع القليل من البنفسجي كهالة؛ وهو من ألوان الطيف، و مؤطرا بالسواد.
تشعر اللوحة المشاهد بالقتامة بالنظر إلى الألوان الموظفة، وبخاصة الألوان التي تعد محايدة رغم أنها محملة بدلالات أغلبها مرتبط بمشاعر الحزن. فضلا عن أن الفتاة وكأنها مطفأة العين اليسرى.
لكن التفاعل بين معنيي الأبيض والاسود يمنح المتلقي فسحة خلق أمل وسط هذه العتمة، بالنظر إلى أن الأبيض قد وسم العنوان الذي بما يحمله من قتامة كان يجب أن يكون بالأسود، ثم إن بقية الألوان، وأقصد البنفسجي والأخضر والأزرق الفاتحين، يتيحان فرصة انتظار الأمل، ومن ثم الفرح للتغلب على قتامة اللوحة في لحظة مشاهدتها لأول مرة.
تجدر الإشارة إلى أن اللون الأبيض والذي يقع نظيرا للون الأسود؛ يعدّان رفقة اللون الرمادي ألوانا حيادية، فمن وجهة النظر العلمية، الأبيض والأسود ليسا لونين حقيقين، فالسطح الأسود يمتص معظم وربما كل الضوء الذي يسقط عليه. أما الأبيض فيعكس كل الضوء الذي يسقط عليه، وتعدّ الألوان البيضاء والسوداء والمركب منها – أي الرمادي – هي ألوان لا لونية أو محايدة من دون وجود أيّة خاصية تتعلق بالهوية اللونية المميزة لها.
عن العنوان:
أتت كلمة ظلال وهي خبر الجلمة الاسمية محذوفة المبتدأ جمعا مضافة إلى كلمة الخذلان، مما يوحي بأن الخذلان في صورتها البلاغية شجرة وارفة متعددة الظلال، تمنح للنفس اطمئنانا سرعان ما يزول لتحل محله الخيبة؛ إن الظلال هي الستارة التي ترفد النص بمعاني غير تلك التي تحملها في معناها الأصلي، وأعني الحماية من الحر. إن الخيبة تسحب ظلالها غير السعيدة على المكان وعلى الشخصيات بفعل عوامل قد تكون نتيجة غياب النصرة؛ أي غياب من يدافع عن شيء أو قيم أو مبادئ تم التخلي عنها بعد أن كانت متسيدة وناظمة للعلاقات.
والجملة الاسمية جاءت مبتورة بمعنى غير مكتملة لتشير إلى بتر حادث أثر في الإنسان ومجاله الجغرافي.
ترى، ما هذا الخذلان، وما أسبابه؟
لأن النص يتحدث عن الأرض وعن ماضي القرية فإننا نجد حديث الحاج عبد الله مثقلا بظلال الخيبة؛ هذه الخيبة التي نستشعرها بمقارنته السريعة بين ماضيها المشرق وحاضرها الكئيب، ونلمح هذه المرارة المتولدة عن التحول السلبي في كلامه التالي:
لست أدري لماذا الحديث عن المكان، وعن المنطقة يجعلني منقبض الصدر، مع أن الحقبة التي تحكي عنها تلازم ذاكرتي باستمرار، يوم كانت المنطقة في قمة ازدهارها، وكانت الأرض كلها ملك لنا. نعم أعرف السبب هو ما آل إليه حالها اليوم بعدما تآمر عليها الإخوة، أجل كنا نحميها من الغريب، ولم نحسب حساب القريب، لم نكن نعرف أن القريب من يخطط للقضاء على ازدهارها واستقرارها ويتآمر من الإخوة، لأن كل واحد لا هم له إلا نفسه، وما سيملكه وينتقل من بعده إلى أبنائه دون أبناء غيره، نسي أن غيره كان قطعة لحم منه وفي عروقه يجري نفس الدم. ص49.
لعل الخيانة الداخلية التي قام بها الأبناء كانت السبب في تدهور القرية وضياع الأرض، وهي التي مكنت الغريب من الاستيلاء عليها. ونجد المعنى نفسه واردا بالصفحتين 51 و52.
وإذا كان موضوع الأرض هو محور الرواية، فإننا نجد موضوعا آخر يستأثر بحيز كبير منها؛ إنه موضوع الزواج: رغبة الحاج عبد الله بالزواج من امرأة أخرى بعد أن فقد زوجته الأولى خديجة التي ظل وفيا لها إلى أن كبر الأبناء، وزواج سميرة من ابن عمتها أمين.
الرواية تتحدث عن شخصيتين، هما: عبد الله وابنته سميرة التي تعد امتداده وحافظة سره وكاتمة بوحه، وهي الأرض التي زرع فيها ذاكرة المكان.
كان عبد الله حكيما، عندما يتكلم يستمع إليه كل من هم حوله، لابد أن يغذي عقولهم، بحكمة اكتسبها من الأيام والحياة التي يعترف دوما أنها أفضل مدرسة يتخرج منها الإنسان. ص63. أما سميرة فهي أكبر أخواتها وهي مدبرة البيت بعد امها والعارفة بكل كبيرة وصغيرة فيه، وكانت متفوقة في دراستها، وكانت أحلامها كبيرة؛ أكبر حتى من القرية التي لم تغادرها. إنها من بين القلائل من بنات المنطقة اللواتي أحرزن على شهادة الباكالوريا وبتفوق، بيد أنها رفضت المغادرة إلى المدينة لإتمام دراستها لتصادف نجاحها بمرض والدتها، فاختارت أن تظل في خدمتها راضية بقسمتها. لكنها لم تفارق الكتاب الذي كان عزاؤها في وحدتها، وأنيسها حين حزنها، والإناء الذي منه تغرف أفكارها وتستقي منه معارفها ومعلوماتها. ص44.
وعليه، يمكن القول إن الرواية هي تسريد للذاكرة، وسعي إلى الحفاظ على كنوزها بنقلها من الأب إلى الابنة.
ولأن الرواية تعتمد سرد الذاكرة فإن طابع الحوار الداخلي ذي البعد التأملي هو ما يغلب عليها، وحتى الحوار الخارجي وبخاصة بين شخصيتي عبد الله وزوج أخته الحاج العربي.
في الصفحة 13 ترد الفقرة التالية "تغيرت أفكار هذا الابن، المقصود محمود، ودخلها ما يشبه السوس وأصبح يرى في القرية مصدرا للمال فقط؛ كان يعود بين الحين والآخر ليغرف من خزائن والده التي ورثها عن الجد، وبما أنه الابن البكر لم يتص له أحد من إخوته، ولم يستطع أي واحد إيقافه عند حده، كان مصطفى على علم بجشع ابنه وحبه للثروة والمال، الابن الذي امتلأت رأسه بأفكار من المدينة التي عاش فيها لفترة من الزمن تعرف على أناس همهم السياسة والسلطة كان كلما تكلم أحدهم عن الانتخابات يفكر في اليوم الذي تؤول إليه السلطة بعد والده ليضع يده على القرية ويغرس أفكاره في أهلها."
يسعى الأب، وقد أدرك كنه ابنه، إلى تحذيره بالإشارة إلى مغبة أكل حقوق أهله؛ فالابن قد أعمى الطمع بصيرته.
من هنا، نجد أنفسنا بين لحظتين تاريخيتين مختلفتين، وفارقها هو الابن عبد الله الذي يقوم باسترجاع ماضي القرية السعيد، ويقارنه بحاضرها التعيس، هو ذاكرة المكان والزمان والأحداث، ويسعى إلى الحفاظ عليها بتمريرها لابنته التي ضحت من أجله ومن أجل أمها، هي الذكية والمجتهدة والمشهود لها برجحان العقل، وتشبثها بالمكان وما يحمله من ذكريات وأحداث.
وظفت الرواية ضمائر عدة؛ ضمير المتكلم بنوعيه المفرد والجمع، وضمير الغائب؛ وهي بتوظيفها هذا تؤكد رفضها لاستبدادية السرد الواحد، وانتصارها للسرد المتعدد، ترفض السرد الديكتاتوري لصالح سرد ديمقراطي تتعدد فيه الآراء وتتباين وجهات النظر. أو، على الأقل، الميل لسرد يحرير فيه اللسان ليعبر عن نفسه بدل أن يتولى غيره ذلك.
وإذا كان ضمير الغائب يعبر عن الحياد غالبا، فإن ضمير المتكلم المفرد يعبر عن شهادته وتورطه في أحداث النص، باعتباره شاهدا ومشاركا، مقدما وجهة نظره حول ما يجري، وهو الدور الذي يقوم به الحوار الداخلي تقريبا. أما ضمير المتكلم الجمع فنجده معبرا عن الجماعة، وما تحمله من أحلام وأماني، كما في هذا المقطع:
هناك الكثير من الأحلام التي رسمناها في خيالنا وعشنا على أمل تحقيقها في يوم من الأيام، ظلت معنا تصاحبنا طول العمر ننتظر بكثير من الأمل وبدون ملل متى تتحقق على أرض الواقع، ولكنها أبية وعنيدة مثل الصخر تأبى أن نحققها بسرعة، أو وصولنا إليها دون عناء...ص101 و102.
وتلتفت الرواية بالإضافة إلى موضوعات كثيرة، إلى قضية المرأة، وبخاصة في الأرياف، معبرة عن ثقل العادات المكبلة لها، والمعرقلة ليناعة نفسها، حيث تظل الأنثى، كما ورد في ص 78 79: أنثى لأنها كذلك في ثقافتنا، وهذه لن تتغير بين عشية وضحاها؛ لأنها متوارثة وساكنة في أعماق كل أنثى، وتعمل على زرعها بطريقة أو بأخرى في فكر الأجيال اللاحقة؛ المرأة إذا كانت لها بنت فإن خوفها عليها يجعلها تذكرها باستمرار بكونها أنثى، وإذا كان لها ابن ذكر لا تفتر تمرر له من تلك الأفكار كونه رجلا ومن حقه كل شيء ليس من حق الأنثى.
لقد كانت سميرة تتأمل واقع الأنثى المزري، وتبين أسباب دونيتها رغم أن منهن من حصلت على تعليم رصين، وحتى هي تفضل أمين الذي سيصير زوجها لاحقا إذ كانت تساعده في دراسته. تمكن هو من مواصلة تعليمه وخارج الوطن، في حين توقف تعليمها بعد حصولها على شهادة الباك لتعلق بالقرية لا تبارحها.
لكن هذا لم يمنع من تقديرها وبخاصة إذا كانت أما كما هو حال خديجة التي ربت أبناءها خير تربية فاحترموها بل قدسوها، وكذلك فعل زوجها الحاج عبد الله الذي بقي وفيا لها حتى بعد وفاتها، ولم يفكر في الزواج بغيرها إلا بعد أن استقل الأبناء بأعشاشهم.
والحديث عن القرية وجمالها دفع إلى مقارنتها بالمدينة، وكانت المقارنة تصب لصالح القرية التي ترمز للصفاء والنقاء والحب والتآزر والتلاحم، بخلاف المدينة التي ترمز للفردانية والجشع والأنانية.
رواية "ظلال الخذلان" صيغت بلغة بسيطة رقيبة من الأذهان، متجنبة الغموض والتحذلق لخلق روابط متينة مع القارئ حتى يتفاعل معها تفاعلا إيجابيا، دون أن يعني ذلك السقوط في التبسيطية المستقبحة.





1637582937784.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى