نرتدي أحياناً صمتنا من شدة حيائنا
وتتراكم الأعباء النفسية بين ثنايا قلوبنا البريئة، أتساءل هل ما زال الخجل يحملني مزيداً من الأعباء النفسية؟!
أم أنني قد تخطيت هذه المرحلة من حياتي؟!
لم يكن نقلي سهلاً لإحدى المدارس الابتدائية القريبة من منزلي.
بعد ترقيتي في وظيفتي منذ عدة سنوات، في المرحلة الابتدائية.
كنت في قمة سعادتي لأنها كانت مدرستي وأنا صغيرة. لقد فوجئت أنني سوف أُعين في نفس المدرسة التي كنت فيها بالأمس تلميذة.
ذهبت مبكراً الي المدرسة، صعدت إلى الفصول، دخلت فصلي،
وقفت مشدوهة، أنظر إلى مقعدي في أسى وحزن وفرح.
نزلت إلى فناء المدرسة، أمام طابور الصباح أخذت الميكروفون لإلقاء كلمتي للتعارف في طابور الصباح، تذكرت كل شيء دفعة واحدة، تراقصت الصور أمام عيني كشريط لا نهاية له، تتراخى يداي.
أغمض عيني الشاخصتين إليهم، أطوح برأسي بعيداً عن مرماهم.
كان يتراقص قبالتي ذلك المقعد، وتلك المرحلة من عمري؛ عندما كنت في الصف الرابع من المرحلة الابتدائية.
وقفت قبالتي الذكريات تنبهني تذكرني عندما جاء ابي إلى المدرسة ليسأل عن أخي وهو معي في المدرسة نفسها ، كان يكبرني، وفوجئت به يستأذن معلمتي في
السؤال عن مدى استجابتي للتعليم.
أخبرته معلمتي بضعف المستوى التعليمي.
سألها عن الحل؟
قالت: تأتي عندي مجموعات تقوية في منزلي.
كان اعتقادي حين ذاك أن ضعف المستوى شيءحسنٌ. فجلست تلفني السعادة والزهوّ بما نعتتني به معلمتي!.
كانت معلمتي في الفصل تشرح لنا قشور الدروس والعناوين، ثم تجلس علي مقعدها لعمل التريكو.
ذهبت إلى منزل المعلمة، وجدت التلاميذ يتحلقون حولها جلست بجوارهم وكنت أحاول كل يوم كثيراً فهم أي شيء أو فهم ماذا تعني كلمة ثمانية على الاثنين فيها الاربعة، أو معنى على اي رقم.
حيائي المفرط منعني من السؤال؟
وقد تساءلت كثيراً ماذا يعني هذا المصطلح الذي لم تفسره المعلمة لي قط.
كان التلاميذ يرددون خلفها ما تتفوه به، وأنا أجلس مدهوشة ولكن دون أعتراض.
أما باقي المواد فكانت ذاكرتي قوية جدا حتى إنني كنت أحفظ كتاب المدرسة عن ظهر قلب، لأنني كنت دائمة القراءة.
كان من الطبيعي للمعلمة متابعة هؤلاء التلاميذ في الامتحانات، وتكون النتيجة ناجح ومنقول.
وتتخطى ذاكرتي إلى السنة السادسة، في هذا الفصل أيضاً،
حيث أصبح لكل مادة مدرس، وكان مدرس العلوم لا نراه سوى يوم كل عدة أيام،
كان مسيحي الديانة، أنيق الهندام، يرتدي كل يوم حلة جديدة، ورابطة عنق انيقة، ودائماً كان فمه يتشدق نداغة.
كان يكتب لنا درساً درساً، ونحن بدورنا ننقل ما يكتبه على السبورة، خمسة أوستة دروس متتالية، دون علمنا بما نكتب، يعلم الكراسات ثم يمضي منصرفاً.
كالعادة جاء ابي ليطمئن علي، كانت معلمة الحساب قد تسلمت الحصة، وكانت من المهاجرين، من النازحين من بور سعيد، قالت أيضًا لأبي( كلمة السر نفسها): إنها ضعيفة. واعتقدت حينها أن هذه كلمة المرور للدروس. كنت أذهب إليها بعد الخروج من المدرسة، كانت تتحدث كأنها تتحدث عن طلاسم، وكان شقيقها يشرح بعض الدروس لنا أيضاً طلاسم، سئمت الذهاب بعد عدة أيام، قررت عدم الذهاب لأنني لا أفقه شيئاً مما تقوله، وكأنها تتحدث بلغة لا أعرفها.
كل يوم تسألني: لماذا لم تأت؟!
كنت أتعلل بل واتذرع كل يوم بحجة جديدة.
قالت لي ذات يوم: عادي لا تأت، ولكن أحضري المصاريف .
وتتساءل طفولتي البريئة أية مصاريف؟!
وأنا لم أحضر سوى بضعة أيام ومعظمها يشد النوم جفوني رغماً عني إلى نهاية الدرس، وباتت المعلمة كل يوم تسألني وأنا لا أعرف السبب لماذا لم أطلب هذه المصاريف من أبي؟!
إلى أن جاءت وسحبتي من داخل المقعد وهي تنشب أصابع يدها بشعري وتخرجني خارج الفصل، وتنهال على وجهي ضرباً، كل يوم بنفس المنوال،
من فرط حيائي لم يكن عندي الشجاعة لإخبار أحد،
لكن شعوري بالقهر وعدم الحيلة أمام جبروت تلك المعلمة، جعل بداخلي نوعاً من البلاهة اللحظية أثناء عقابها لي المتتالي كل يوم.
لم يبارحني شكلها، ظلت ملامحها عالقة في ذهني سنوات كثيرة، لشدة الألم النفسي والشرخ التي تركته بداخلي ينزف قهراً ومرارة وعدم ثقة.
كانت عيناها دعجاوين سوداوين، أنفها كبير أفطس كأنوف الأفارقة، شعرها طويل فاحم، بشرتها مائلة إلى سمرة، لكن أكثر ما نقش بذاكرتي هي تلك النظرة القاسية، نعم نظرتها لي المليئة بالسخرية والقسوة، واستهانتها بي كطفلة، وإهدارها لكرامتي أمام التلاميذ جعلت قلبي ينزف ألماً .
ذات يوم شاهد مدير المدرسة المنظر أثناء مروره علي الفصول؛ كي يطمئن أن كل شيء على مايرام.
سألها: ماذا فعلت؟
فرحت قلت في نفسي: لقد جاء ليخلصني من براثنها الحمد لله.
قالت: لم تؤد واجباتها، ولم تحضر الكتاب.
دُهشتُ جداً إنها تكذب! فكيف لمثلها أن تكذب؟!
لقد آلمني كذبها أكثر من ألمي النفسي والجسدي حينها.
إن شدة أبي علينا وصرامة أمي هما السبب في أن أبتلع اي موقف سيء مر بي دون البوح به لهما، أو لأي شخص.
لقد رسبت في هذه السنة،
وانتقلت إلى مدرسة أُخرى، يطلقون عليها مدارس خدمات؛ أي بمصروفات.
شتان بين هذه وتلك، فرق السماء والأرض، لقد أحرزت تفوقاً ملحوظاً.
لقد انكشف أمامي طلاسم كل شيء جهلته، وعلمت ماذا تعني كلمة ثمانية على الاثنين أو علي أي رقم وعرفت أنها تسمى عملية القسمة.
عاد لي صفائي الذهني بل والنفسي، وهدوئي كطفلة،
أحسست بالاتزان النفسي.
لقد تبدل الوضع كلياً، وشعرت أخيراً بأدميتي، وأن لي كياناً ونفساً تنال مبتغاها.
أقبلت على العلم بنهم الجائع الذي لم يتذوق الطعام منذ عدة أيام، أحرزت تفوقاً ملحوظاً، في جميع مراحلي حتى أتيت إلى هنا معلمة في المدرسة ذاتها،
وكانت هذه هي خطبتي للمدرسة والمدرسين في أول يوم لي معهم، وفي طابور الصباح وأمام الجميع، وعلى الملأ كي يعلم المدرسون لمن ندق الأجراس.
فاطمة مندي
وتتراكم الأعباء النفسية بين ثنايا قلوبنا البريئة، أتساءل هل ما زال الخجل يحملني مزيداً من الأعباء النفسية؟!
أم أنني قد تخطيت هذه المرحلة من حياتي؟!
لم يكن نقلي سهلاً لإحدى المدارس الابتدائية القريبة من منزلي.
بعد ترقيتي في وظيفتي منذ عدة سنوات، في المرحلة الابتدائية.
كنت في قمة سعادتي لأنها كانت مدرستي وأنا صغيرة. لقد فوجئت أنني سوف أُعين في نفس المدرسة التي كنت فيها بالأمس تلميذة.
ذهبت مبكراً الي المدرسة، صعدت إلى الفصول، دخلت فصلي،
وقفت مشدوهة، أنظر إلى مقعدي في أسى وحزن وفرح.
نزلت إلى فناء المدرسة، أمام طابور الصباح أخذت الميكروفون لإلقاء كلمتي للتعارف في طابور الصباح، تذكرت كل شيء دفعة واحدة، تراقصت الصور أمام عيني كشريط لا نهاية له، تتراخى يداي.
أغمض عيني الشاخصتين إليهم، أطوح برأسي بعيداً عن مرماهم.
كان يتراقص قبالتي ذلك المقعد، وتلك المرحلة من عمري؛ عندما كنت في الصف الرابع من المرحلة الابتدائية.
وقفت قبالتي الذكريات تنبهني تذكرني عندما جاء ابي إلى المدرسة ليسأل عن أخي وهو معي في المدرسة نفسها ، كان يكبرني، وفوجئت به يستأذن معلمتي في
السؤال عن مدى استجابتي للتعليم.
أخبرته معلمتي بضعف المستوى التعليمي.
سألها عن الحل؟
قالت: تأتي عندي مجموعات تقوية في منزلي.
كان اعتقادي حين ذاك أن ضعف المستوى شيءحسنٌ. فجلست تلفني السعادة والزهوّ بما نعتتني به معلمتي!.
كانت معلمتي في الفصل تشرح لنا قشور الدروس والعناوين، ثم تجلس علي مقعدها لعمل التريكو.
ذهبت إلى منزل المعلمة، وجدت التلاميذ يتحلقون حولها جلست بجوارهم وكنت أحاول كل يوم كثيراً فهم أي شيء أو فهم ماذا تعني كلمة ثمانية على الاثنين فيها الاربعة، أو معنى على اي رقم.
حيائي المفرط منعني من السؤال؟
وقد تساءلت كثيراً ماذا يعني هذا المصطلح الذي لم تفسره المعلمة لي قط.
كان التلاميذ يرددون خلفها ما تتفوه به، وأنا أجلس مدهوشة ولكن دون أعتراض.
أما باقي المواد فكانت ذاكرتي قوية جدا حتى إنني كنت أحفظ كتاب المدرسة عن ظهر قلب، لأنني كنت دائمة القراءة.
كان من الطبيعي للمعلمة متابعة هؤلاء التلاميذ في الامتحانات، وتكون النتيجة ناجح ومنقول.
وتتخطى ذاكرتي إلى السنة السادسة، في هذا الفصل أيضاً،
حيث أصبح لكل مادة مدرس، وكان مدرس العلوم لا نراه سوى يوم كل عدة أيام،
كان مسيحي الديانة، أنيق الهندام، يرتدي كل يوم حلة جديدة، ورابطة عنق انيقة، ودائماً كان فمه يتشدق نداغة.
كان يكتب لنا درساً درساً، ونحن بدورنا ننقل ما يكتبه على السبورة، خمسة أوستة دروس متتالية، دون علمنا بما نكتب، يعلم الكراسات ثم يمضي منصرفاً.
كالعادة جاء ابي ليطمئن علي، كانت معلمة الحساب قد تسلمت الحصة، وكانت من المهاجرين، من النازحين من بور سعيد، قالت أيضًا لأبي( كلمة السر نفسها): إنها ضعيفة. واعتقدت حينها أن هذه كلمة المرور للدروس. كنت أذهب إليها بعد الخروج من المدرسة، كانت تتحدث كأنها تتحدث عن طلاسم، وكان شقيقها يشرح بعض الدروس لنا أيضاً طلاسم، سئمت الذهاب بعد عدة أيام، قررت عدم الذهاب لأنني لا أفقه شيئاً مما تقوله، وكأنها تتحدث بلغة لا أعرفها.
كل يوم تسألني: لماذا لم تأت؟!
كنت أتعلل بل واتذرع كل يوم بحجة جديدة.
قالت لي ذات يوم: عادي لا تأت، ولكن أحضري المصاريف .
وتتساءل طفولتي البريئة أية مصاريف؟!
وأنا لم أحضر سوى بضعة أيام ومعظمها يشد النوم جفوني رغماً عني إلى نهاية الدرس، وباتت المعلمة كل يوم تسألني وأنا لا أعرف السبب لماذا لم أطلب هذه المصاريف من أبي؟!
إلى أن جاءت وسحبتي من داخل المقعد وهي تنشب أصابع يدها بشعري وتخرجني خارج الفصل، وتنهال على وجهي ضرباً، كل يوم بنفس المنوال،
من فرط حيائي لم يكن عندي الشجاعة لإخبار أحد،
لكن شعوري بالقهر وعدم الحيلة أمام جبروت تلك المعلمة، جعل بداخلي نوعاً من البلاهة اللحظية أثناء عقابها لي المتتالي كل يوم.
لم يبارحني شكلها، ظلت ملامحها عالقة في ذهني سنوات كثيرة، لشدة الألم النفسي والشرخ التي تركته بداخلي ينزف قهراً ومرارة وعدم ثقة.
كانت عيناها دعجاوين سوداوين، أنفها كبير أفطس كأنوف الأفارقة، شعرها طويل فاحم، بشرتها مائلة إلى سمرة، لكن أكثر ما نقش بذاكرتي هي تلك النظرة القاسية، نعم نظرتها لي المليئة بالسخرية والقسوة، واستهانتها بي كطفلة، وإهدارها لكرامتي أمام التلاميذ جعلت قلبي ينزف ألماً .
ذات يوم شاهد مدير المدرسة المنظر أثناء مروره علي الفصول؛ كي يطمئن أن كل شيء على مايرام.
سألها: ماذا فعلت؟
فرحت قلت في نفسي: لقد جاء ليخلصني من براثنها الحمد لله.
قالت: لم تؤد واجباتها، ولم تحضر الكتاب.
دُهشتُ جداً إنها تكذب! فكيف لمثلها أن تكذب؟!
لقد آلمني كذبها أكثر من ألمي النفسي والجسدي حينها.
إن شدة أبي علينا وصرامة أمي هما السبب في أن أبتلع اي موقف سيء مر بي دون البوح به لهما، أو لأي شخص.
لقد رسبت في هذه السنة،
وانتقلت إلى مدرسة أُخرى، يطلقون عليها مدارس خدمات؛ أي بمصروفات.
شتان بين هذه وتلك، فرق السماء والأرض، لقد أحرزت تفوقاً ملحوظاً.
لقد انكشف أمامي طلاسم كل شيء جهلته، وعلمت ماذا تعني كلمة ثمانية على الاثنين أو علي أي رقم وعرفت أنها تسمى عملية القسمة.
عاد لي صفائي الذهني بل والنفسي، وهدوئي كطفلة،
أحسست بالاتزان النفسي.
لقد تبدل الوضع كلياً، وشعرت أخيراً بأدميتي، وأن لي كياناً ونفساً تنال مبتغاها.
أقبلت على العلم بنهم الجائع الذي لم يتذوق الطعام منذ عدة أيام، أحرزت تفوقاً ملحوظاً، في جميع مراحلي حتى أتيت إلى هنا معلمة في المدرسة ذاتها،
وكانت هذه هي خطبتي للمدرسة والمدرسين في أول يوم لي معهم، وفي طابور الصباح وأمام الجميع، وعلى الملأ كي يعلم المدرسون لمن ندق الأجراس.
فاطمة مندي